«الفرص الضائعة» في النقل السوري براً وبحراً..

«الفرص الضائعة» في النقل السوري براً وبحراً..

لا تنفصل القطاعات الاقتصادية عن بعضها البعض، ولكن لقطاعات معينة ميزة الرافعة الاقتصادية، بجملة من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية بعيدة المدى، وكذلك هو قطاع النقل والمواصلات...

قاسيون
عملياً النقل عتبة أساسية بالتنمية الاقتصادية، بل وفي حل المشكلات الديمغرافية، فنقل أفضل وأسرع قد يحل مشكلة تاريخية بالهجرة من الريف إلى المدينة، حيث يتوقع أن ثلثي البشرية ستسكن المدن في 2025، كما أن الطرق تتيح إنشاء حواضر اقتصادية وسكانية جديدة، بمستوى نشاط اقتصادي وعائدية أعلى، هذا عدا عن التأثيرات الاقتصادية المباشرة للوفر في كلف نقل البضائع، التي تشكل 13% من وسطي استهلاك الأسر عالمياً، والإيرادات من عوائد النقل الدولي والعبور، كما أن التغييرات الكبرى الجارية في بنية النقل التحتية المعتمدة على نقل أجدى بسرعة أعلى وكم أكبر، بدأت تفتح البوابات على إغلاق واحدة من أهم مشكلات التلوث البيئي، حيث يساهم قطاع النقل بنسبة 64% من استهلاك النفط، وبنسبة 23% من انبعاثات غاز CO2 الناشئة عن قطاع الطاقة عموماً.
طرقاتنا القديمة والقليلة..
ما ينطبق على أهمية النقل عالمياً، ينطبق على قطاع النقل في سورية، ولكن مع خصوصية إضافية تتعلق بالموقع الجغرافي لسورية، وفي اللحظة التاريخية من تطور اتجاهات التجارة والاقتصاد العالمي.
فسورية هي واحدة من بوابات الساحل الشرقي للمتوسط، مع ميزة الربط المباشر للموانئ مع الشرق دون حدود، وهي الميزة التي لا تتوفر في الموانئ اللبنانية والفلسطينية. كما أن الموانئ السورية في اللاذقية وطرطوس هي الأقرب جغرافياً إلى المراكز الكبرى في الشرق، وتحديداً في الصين بالقياس للموانئ التركية، وهي الأقرب بالربط بين أوروبا ومدن الخليج العربي الكبرى ووسط آسيا.
وإن كانت هذه حقيقة دائمة، إلا أن ظرف الاقتصاد العالمي حالياً، والمشاريع الاستراتيجية الكبرى للنقل والربط بين آسيا وأوروبا التي تقودها الصين بالدرجة الأولى، تجعل هذه الحقائق الجغرافية فرصاً كبيرة في المستقبل القريب.
وإذا ما نظرنا إلى أرقام قطاع النقل في سورية فإنها تبدو جيدة نسبياً، ولكن يتضح أن ميزات الموقع هي الرافعة الأساسية لنسبة 13% لقطاع النقل من الناتج المحلي الإجمالي السوري، وناتج يقارب 7.8 مليار دولار في عام 2010.والمقارنة مع تركيا ذات ميزات الموقع المشابهة تقريباً وأسطول شحن بري استثنائي توضح بعضاً من المشاكل.
البنية الطرقية في سورية متخلفة بالمقارنة مع البنية التركية، ولا تتيح بنى النقل التحتية السورية الاستفادة الكاملة من الجغرافيا.
فإذا ما أخذنا مؤشراً كمياً فإن كل كيلو متر مربع من مساحة البلاد يخدمها وسطياً 340 متر فقط من الطرق الإجمالية الاسفلتية المعبدة وحتى الممهدة فقط، والكثافة السكانية هي 350 نسمة على كل كيلو متر من طرق النقل السورية. بالمقابل فإن كل كيلو متر مربع من مساحة تركيا يخدمها وسطياً 450 متر من الطرق، وبكثافة 222 نسمة في الكيلومتر الطرقي، أي طرق أكثر وكثافة سكانية أقل على الطرق.
أي أن شبكة النقل الطرقية في تركيا بالقياس إلى المساحة الجغرافية تزيد عن مثيلتها في سورية بنسبة 28%، ما يعني أننا بحاجة إلى زيادة شبكة طرقنا كماً بمقدار الربع على الأقل لنصبح قريبين من الوسطي التركي.
شبكة الطرق السورية التي تطورت بنقلات سريعة خلال الفترة بين 1970-1990 لتزداد بنسبة 70% وتحديداً الأتوسترادات، تباطأت عملية توسعها في العشرين سنة اللاحقة لتتوسع بنسبة 37% فقط، وعملياً الطرق الرئيسة لا تشكل إلا نسبة 10% من مجموع الطرق، أما الأتوسترادات فلا تشكل إلا نسبة 2% من مجمل الطرق الإسفلتية والمعبدة! وهذه النسب المنخفضة للطرق المخدمة بشكل جيد، تعكس هدراً كبيراً نتيجة الكلف الأعلى في استهلاك الطاقة وتكاليف النقل...
إن مراقبة كم البضائع المنقولة عام 2010 ومقارنتها يوضح أهمية الموقع السوري غير المستثمرة، فعملياً كم البضائع المنقولة وسطياً على الكيلومتر خلال سنة بلغ: 2030 طن، بينما البضائع المنقولة على الكيلو متر في تركيا تبلغ أربعة أضعاف الحمولة السورية، وهذا قد يبدو طبيعياً بالقياس إلى الناتج المحلي التركي الذي بلغ حينها قرابة 13 ضعف الناتج السوري، ولكنه يدل أيضاً على أن قطاع النقل السوري ينقل بضائع بنسبة هامة بالقياس إلى الناتج السوري المنخفض، ما يضيف دلالة على مزايا الموقع الجغرافي والإمكانات الكامنة في شبكة نقل البضائع الإقليمية، فقطاع النقل السوري لا يتغذى بالناتج السوري، بقدر ما يتغذى بالعبور الإقليمي للبضائع، ولكن هذه الميزة تفتح الأعين على الهدر الكامن في الفرصة الضائعة نتيجة عدم تطوير وتوسيع الشبكة.
إلا أن النقص ليس في كم الطرق ونوعها الفني فقط، بل أيضاً في استراتيجية تخطيطها...
«اللاعدالة الطرقية»
ثغرات قطاع النقل السوري لا ترتبط فقط بالأبعاد الاقتصادية المباشرة على أهميتها، وإنما فيما يرتبط به من أبعاد اقتصادية-اجتماعية، فعملياً في سورية طريق مركزي وتنموي وحيد هو الممتد من الشمال إلى الجنوب عبر المنطقة الوسطى، وهو عملياً خط حلب- دمشق، والواصل من الحدود التركية إلى الحدود الأردنية بطول يقارب 480 كيلو متر، وببعد عن ساحل البحر 77 كيلو متر، أي يعتبر خط شمالي جنوبي، وفي منتصف الثلث الغربي من البلاد. ما يعني أن شرقي البلاد عموماً، ومحور شرق- غرب، غير مخدم بطرق مركزية، وحصته من الطرق الإجمالية أقل.
إن 67% من مساحة البلاد الشرقية والشرقية الجنوبية، تخدمها قرابة 30% من خطوط النقل السورية، بينما 70% من خطوط النقل الطرقي تخدم الثلث المتبقي من مساحة البلاد في الشمال والجنوب والغرب!
والمنطقة المهملة طرقياً هي ثلثا مساحة البلاد، في المنطقة الشرقية أي في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، وفي البادية السورية بأجزاء من محافظتي حمص وريف دمشق، المنطقة التي تشرف على الحدود العراقية والجزء الأكبر من الحدود الأردنية والتركية، وربما يفسر «الحرمان الطرقي» جزءاً من مظاهر «التمييز التنموي» التي تجعل هذه المساحات الكبيرة لا تتنج إلا 13% من الناتج الإجمالي السوري، بينما توفر مجمل موارد النفط والغاز، ومعظم الموارد المائية بنسبة 64%، ومعظم الأراضي الزراعية!
بناء على هذا التشوه الواضح تقترح بعض الدراسات السورية ضرورة إنشاء محور شرقي غربي أساسي كما المحور الموجود حالياً في الشمال والجنوب، وتقترح أيضاً أن يتم إنشاء محور شمالي جنوبي موازٍ وأقرب للشرق ينشئ مجموعة من المراكز التنموية والمدنية الجديدة في الشرق السوري، ويصبح أقرب إلى مراكز الزراعة الكبرى في الجزيرة السورية، ولا يمر عبرها كما في حالة مناطق حماة والغاب وريف حمص.
«السكة المبتورة»
تبلغ أطوال السكك الحديدية بحسب المكتب المركزي للإحصاء 2833 كم، أي 4% من أطوال خطوط النقل البري، وهي متقطعة ولا تصل إلى حدود العراق والأردن، ولا تصل من حلب إلى حدود تركيا مباشرة، ولا تربط المرافئ بأي معبر حدودي مباشرة.
أي أن السكك الحديدية في سورية لا تحل بشكل جدي أو كاف أية مشكلة من مشاكل النقل الطرقي، فهي عملياً تصل الغرب بالشرق ولكن نحو مناطق محددة للإنتاج الغازي والنفطي، وهي لا تصل المرافئ بالحدود أي لا تستطيع أن تحقق إيرادات من عبور الترانزيت على السكك الحديدية، كما إنها لا تصل المناطق والمدن الصناعية بالحدود كذلك الأمر لتوفر ميزات تنافسية في كلف نقل أقل للبضائع السورية المصدرة، هذا عدا عن أطوالها القصيرة جداً، وانقطاعها عن مناطق كاملة مثل المنطقة الجنوبية، وأقصى الجنوب الشرقي، والشمال الغربي.
التطوير في شبكات السكك الحديدية متوقف عملياً منذ عام 1990 أيضاً ولم تشهد السكك الحديدية اي تطوير جدي بعدها، إنما أعمال صيانة وإعادة تأهيل فقط، كما إن أعداد الركاب قد وصلت إلى ذروتها في عام 1991، وتراجعت بعدها لتتحسن قليلاً وتصل إلى قرابة 3.6 مليون راكب خلال عام 2009.
توفر خطوط النقل الحديدة في كلفة النقل على البضائع، حيث أن استهلاكها في نقل البضائع ربع استهلاك الشاحنات، وتحقق وفر في نقل الأفراد حيث أنها تصل إلى المقصد بحمولة محددة من الأفراد ولمسافة محددة بعدد مرات يبلغ 10-16% من عدد مرات سيارات الأتوبيس، كما أن التطويرات على سرعاتها وقدرتها على الجر وحجم حمولتها أسرع من عمليات التطوير في قطاع السيارات.
عملياً يعتبر عدم استكمال السكك الحديدة في سورية واحداً من الفرص الاقتصادية الضائعة في قطار النقل، بل وفي عملية ربط البلاد مع بعضها البعض، حيث إن وصل أطراف البلاد الشرقية في القامشلي مثلاً مع دمشق بالقطارات ذات السرعة المتوسطة 160 كم في الساعة، كان من الممكن أن يتم بـ 4 ساعات فقط، بينما يحتاج على الطرق أكثر من 12 ساعة.
«الفرصة كبيرة والمرفأ فقير»
لميناء طرطوس ميزات تنافسية عديدة بالقياس إلى موانئ شرق المتوسط والموانئ التركية، فالموقع وعقدة الوصل المرورية وإمكانية الإرتباط بالسكك الحديدية مع عقد مرورية في الشرق السوري، تتوسط المعابر الشرقية مع الأردن والعراق كما من خنيفيس وبيار، بالإضافة إلى عدم وجود حدود سياسية وطبيعية يجعله شديد التميز. ولكن ما من خطة نقل وطنية عملت على إحداث نقلة نوعية في وضع المرفأ وتعميق أرصفته، حيث أن الشراكة التي تمت في وقت سابق على أساس التطوير، انتهت بتسليم الرصيف الأفضل للمستثمرين. حيث لا تسمح أعماق الأرصفة المتاحة في مرفأي طرطوس واللاذقية حالياً باستقبال سفن الحاويات التي تزيد حمولتها المعيارية عن 2000 حاوية والتي باتت تشكل حوالي 50٪ من أسطول نقل الحاويات العالمي، حيث أن ضعف قدرات المرفأ على الاستقبال والتحميل والتخزين والنقل والتخديم، تغطي على أهمية وميزات موقعه. زيادة قدرات المرافئ السورية هي محور أساسي في تفعيل ميزة الموقع، حيث أن النقل البحري هو جزء أساسي وأكثر فعالية في خط النقل الدولي بسكك الحديد الذي سيصل الشرق بالغرب عبر البر الآسيوي وصولاً للبحر المتوسط، والذي سيأخذ الكثير من حصة النقل البحري الجنوبي عبر بحر الصين والمحيط الهندي وصولاً إلى البحر الأحمر فالبحر المتوسط.
البلاد تحتاج في المرحلة القادمة إلى صياغة خارطة النقل الوطنية، بمرتكزاتها الأساسية الثلاث: محاور تنموية جديدة، وطرق أكثر وأعلى نوعاً وأكثر شمولاً وعدالة بين أقاليم البلاد، وسكك تربط البلاد ببعضها البعض ومدروسة على أسس اقتصادية موضوعية للشحن والنقل والربط السريع بين مراكز البلاد البعيدة عن بعضها البعض، ومرافئ متناسبة في قدراتها مع الموقع الجغرافي المتميز، وقادرة على تحمل طاقات النقل الدولية على طريق تجاري واعد...
وفيما سبق نستطيع القول: إننا نلامس فقط الضروريات والفرص الضائعة عبر عقود في سورية في قطاع النقل دون النقل الجوي، وهي فجوات تنموية يجب تجاوزها، وبالمقابل فإن ضرورات وإمكانات المرحلة القادمة تفرض إحداث نقلات نوعية في قطاع النقل السوري، لجعله أكثر استدامة بيئياً، وأقل استهلاكاً للطاقة وللمساحات وللصيانة، وأكثر قدرة على تحقيق عوائد استثنائية مستمرة، مقابل وفورات محلية هامة في كلف نقل البضائع، ولكن مقابل هذا كلف استثمارية عالية ينبغي البحث في الفرص المتاحة لتلبيتها... ومجمل ما سبق سنحاول تغطيته في أعداد لاحقة في سلسلة حول قطاع النقل السوري.