تعويل حكومي على المستثمرين.. الاستثمار مزارع وحكومة!

تعويل حكومي على المستثمرين.. الاستثمار مزارع وحكومة!

في اجتماعات لهيئة الاستثمار، اشتكى ممثل وزارة الزراعة سامر مارديني، من ضعف المشاريع الزراعية المشمّلة، أي توقف المستثمرين الخاصين عن التقدم لترخيص مشاريع زراعية كبيرة، ودعت غرف الزراعة الحكومة إلى الحوافز وتهيئة المناخ الاستثماري وغيرها من الإجراءات لتحفيز الاستثمار الزراعي الخاص!.

يبدو هذا النقاش الذي تداولته وسائل الإعلام المحلية آتياً من زمن آخر، حيث تتوقع وزارة الزراعة، أن يقيم المستثمرون  مشاريع للاستثمار الزراعي في الحرب، وتتوقع غرف الزراعة أن يؤدي التحفيز الحكومي إلى تنشيط المستثمرين الزراعيين، في هذه الظروف!.

اشتكى (مارديني) من التوقف التقريبي للمشاريع خلال عامي 2013-2014،  مع أنه بنفسه يؤكد أن مشاريع الاستثمار الزراعي كمشاريع كبرى للقطاع الخاص، لم تشكل قبل الأزمة، إلا نسبة ضئيلة من مجمل المشاريع المشملة في هيئة الاستثمار حيث بلغت 152 مشروعاً خلال 23 عاماً. وينبغي الإشارة إلى أن هذا العدد يعود للمشاريع المرخصة وليس المنفذة أو التي أقلعت بالإنتاج، التي تعتبر أقل من ذلك بكثير.

 

استثمار المزارعين والحكومة

تؤكد البيانات العالمية لمراحل ما قبل الأزمة العالمية الحالية، بأن النسبة الأهم للاستثمار الزراعي عبر العالم، تعود لما يسمى الاستثمار من المزرعة، يليها الاستثمار الحكومي. أي أن ما يستطيع المزارعون ادخاره أو اقتراضه ليقوموا بإعادة زراعة أراضيهم، هو المصدر الرئيسي لاستمرار الاستثمار الزراعي الذي يتراجع عبر العالم، أما الاستثمار الحكومي في الزراعة فهو ثاني المصادر الهامة والذي يتركز الجزء الهام منه في تمكين المزارعين وليس في تحفيز الشركات الزراعية وكبار المستثمرين. حيث يبلغ استثمار المزارعين نسبة 79,4% بينما نسبة استثمار المزارعين مع الاستثمار الحكومي في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل بلغت 96% من مجمل الاستثمار الزراعي في الفترة بين 2005-2007 بحسب تقرير لمنظمة الفاو، ليتبقى 4% لاستثمار الشركات الكبرى والجهات الدولية.

 

استثمار المزارعين السوريين!

وهذا ينطبق على سورية، التي يعتبر الاستثمار من المزرعة فيها أهم مصدر الاستثمار، معتمداً سابقاً على الدعم الحكومي الزراعي، الذي يشكل جزءاً من الاستثمار الحكومي الزراعي، والذي بتراجعه تراجعت قدرة المزارعين على الاستثمار في مزارعهم.

بكل الأحوال فإن ظروف الإنتاج الزراعي الحالي في سورية، والتي تعتمد أيضاً بشكل أساسي على الاستثمار من المزرعة، هي بوضع مترد بالتأكيد، ويدل على ذلك، خسارة مساحات زراعية كبرى خلال الأزمة وخروجها من العملية الإنتاجية لأسباب أمنية واقتصادية، ففي عام 2014 انخفضت نسبة مساحة القمح 76% ، و الشعير 83%، و الشوندر السكري إلى 60%، و مساحة القطن إلى 38%، بحسب تصريحات لوزير الزراعة بتاريخ 3-12-2014.

 

الاستثمار الحكومي الزراعي

إن الاستثمار الحكومي الزراعي بشكله المباشر من خلال منشآتها الاقتصادية، أو مزارع الدولة لم يعد يشكل نسبة هامة من الإنتاج الزراعي السوري، حيث لم تستطع المنشآت الزراعية الحكومية أن تغطي من حاجات السوق للمستلزمات، أو من المنتجات إلا الجزء القليل، ويتضح ذلك من مساهمة مؤسسة الأعلاف، والدواجن، والمباقر ومنتجاتها. الحكومة في 2015 ترفع مخصصات هذه المؤسسات، التي كانت شديدة الانخفاض لتستثمر في المباقر 247 مليون بعد أن كانت المبالغ لا تتعدى 5 مليون، وتستثمر في الدواجن 500 مليون، بعد أن كانت مخصصاتها 20 مليون فقط، أما إكثار البذار فخصص لها في عام 2014: 85 مليون، وستنخفض إلى 73 مليون في 2015.

ومع ذلك فإن مجمل مخصصات وزارة الزراعة، لا تتجاوز 7,7 مليارات ل.س في 2015، بتراجع عن 5,9 مليار في 2014 من أصل إنفاق استثماري يبلغ 410 مليار ل.س، ما يشكل نسبة 1,8%.

بينما بالمقابل أنفقت الحكومة على استيراد مواد غذائية ممكن إنتاجها محلياً (العدس المجروش والحب، رب البندورة، الزيت النباتي، الفروج المجمد، التونا، السمنة النباتية، الطحين الأبيض) خلال تسعة أشهر في عام 2014، مبلغاً يصل إلى (21,9) مليار ل.س، استوردها القطاع الخاص لصالح مؤسسة التجارة الخارجية، عبر الخط الائتماني الذي تم استهلاكه بالكامل حالياً، وفق بيانات المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، التي نشرها الإعلام الرسمي.

استثمار الحكومة الزراعي في سورية، يعتمد بشكل أساسي على المساهمة في تأمين جزء من المستلزمات، وعلى شراء المنتجات الاستراتيجية بأسعار مناسبة، وكلتا العمليتين تتراجع، ولا تتوسع في ظروف الحرب، التي تقتضي خطة إسعافية لدعم ما تبقى من المزارعين.

فارتفعت أسعار المستلزمات بنسب كبيرة، تتراوح بين 277%- 114% في أنواع الأسمدة التي توزعها الدولة، و أربعة أضعاف في الوقود، وبنسب متقاربة في بقية المستلزمات كالبذار والأدوية. وأدت طرق التوزيع إلى زيادة حصة السوق السوداء من مبالغ الدعم الزراعي التي ثبتت ولم تتجاوز 10 مليار ل.س خلال سنوات 2013-2014-2015

 

تقليص ما تبقى من التمويل

على الرغم من صدور القانون 11 في 9/6/ 2014 حول القروض والتمويل من المصرف الزراعي الذي نص على تسهيل تقديم التمويل النقدي والعيني للمزارعين الذين لم يسددوا كل التزاماتهم للمصرف، فإن كتاب رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الزراعة المؤرخ في 20/10/2014 يرى غير ذلك حيث يوجه بالتالي: (تمويل الزراعات المروية «قمح – شعير» ومناطق الاستقرار الأولى للزراعات البعلية بالبذار والأسمدة للموسم الشتوي 2014 – 2015 أما مناطق الاستقرار الثانية فيتم التمويل بالبذار فقط و يتم تمويلها بالأسمدة حيث توفر الإمكانيات لاحقا) أي أن الجانب النقدي من التمويل لن يوزع، والجانب العيني يوزع لمناطق دون أخرى، أما الأسمدة فتوزع وفق الإمكانيات، وهذا يتناقض مع واقع إنتاج الأسمدة، الذي توقفت خطوط إنتاجها بسبب عدم وجود إمكانيات لتخزين الأسمدة، وكان التصدير هو (الحل) وفق ما ذكرته مصادر المؤسسة العامة للمؤسسة العامة لصناعات الكيميائية في صحيفة تشرين الرسمية بتاريخ 24-11-2014، حيث أعلنت أن (110 آلاف طن من الأسمدة كانت مخزنة في مستودعات الشركة نتيجة عدم قدرة المصرف الزراعي على استجرارها بسبب الظروف الأمنية وتراكم المخزون في مستودعات الشركة الأمر الذي أدى إلى توقف الإنتاج.. سيتم تصديرها، بقيمة إجمالية للكميات المصدرة والمذكورة سابقاً بحدود 26 مليون دولار.)!

 

تحديد المناطق الآمنة

أما البند الثاني من كتاب رئيس مجلس الوزراء المذكور سابقاً فينص على التالي: (التمويل في المناطق الآمنة التي تتمكن فروع المصرف الزراعي التعاوني من ممارسة نشاطها الفعلي بشكل طبيعي ضمن مقراتها على أن يتم تحديد المناطق الآمنة بالتعاون ما بين السادة المحافظين واللجنة الأمنية في المحافظة( وبحسب تجربة المزارعين، التي نقلها مراسل قاسيون في حماة، فإن تقييم السلطات المحلية والأمنية، للمناطق الآمنة غير دقيق، وأدى إلى خروج مساحات من الأراضي الزراعية من إطار التمويل الحكومي، أي عملياً خروجها من الإنتاج، لأن طاقة المزارعين أقل بكثير من أسعار السوق السوداء.

أي أن عمليات التمويل تتقلص بطرق عدة، فمن اختصار الدعم النقدي، وإلغائه وصولاً إلى تحديد الدعم العيني للبذار والسماد بأنواع محددة من المنتجات، وبمناطق محددة، وإلغاء السماد من تمويل مناطق أخرى. يضاف إلى كل ذلك إخراج مناطق من إطار الدعم، بناء على التقييم الأمني!.

أما آخر الإجراءات فكان حصر مناطق استلام القطن في المنطقة الوسطى، وهو ما يحذر مزارعو الحسكة منه مطالبين بفتح مركز استلام في القامشلي، حيث سيكون من المستحيل على مزارعي القطن نقل منتوجهم إلى حمص أو حماة في الظروف الأمنية، وتكاليف النقل المرتفعة، وسيترك إنتاجهم تحت رحمة تجار الحرب، ناقلاً المنتوج السوري إلى الأسواق التركية أو غيرها.

 

أي استثمار زراعي؟

إن البحث عن استثمار زراعي اليوم، يجب أن ينطلق من إعانة ما تبقى من مزارعين في سورية، ممن مازالوا حريصين على استمرار زراعة أراضيهم مدفوعين بحاجتهم إلى الدخل الزراعي، إلا أن التجربة خلال الأزمة تقول، إن أسعار البيع لسوق الجملة تعادل التكاليف، إلا في الحالات الاستثنائية التي يستطيع فيها المزارعون الوصول إلى أسواق تهريب للبنان وتركيا، أو في الحالات التي يدفع تجار التصدير فيها أسعاراً مناسبة وهي مقتصرة على منتجات محددة مثل الحمضيات والبندورة وزيت الزيتون نسبياً والتي تبقى رهناً لأسواق التصدير غير المستقرة، والتي أدت إلى تراجع الإنتاج في المناطق الآمنة، في حالة البندورة المحمية بنسبة 50% خلال عامين من الأزمة.

وهذا لا يمكن أن يتم دون أن تساهم الحكومة بتحويل الدخل الزراعي الذي يدفعه المستهلكون، إلى المزارعين، وتقليص الحصة الكبرى لحلقات التجارة، عن طريق توسيع وتركيز الاستثمار الحكومي في تأمين المستلزمات من جهة، وعن طريق تأمين أسعار المنتجات بمستوى مناسب يسمح للمزارعين بإعادة استثمارهم لأراضيهم في المواسم المتتالية، دون نقل جزء هام من الدخل الزراعي إلى حلقات التجارة، وإلى كبار تجار سوق الهال.

لذلك فإن (شكوى) الجهات الاستثمارية الزراعية، من تراجع المشاريع الاستثمارية الخاصة في القطاع، يعتبر خارج السياق المنطقي لواقع الاستثمار الزراعي العالمي من جهة، والواقع السوري قبل الأزمة وخلالها، الذي يقول بأن تراجع الحكومة عن دعمها وتوسيع استثمارها في دعم المزارعين وفي الاستثمار الزراعي الفعلي، سيؤدي حتماً إلى تراجع تجديد المزارعين للإنتاج في مزارعهم، وبالتالي تراجع الإنتاج الزراعي، ما يهدد الأمن الغذائي.