مبادرة الحوكمة العالمية: نحو نظام دولي متعدد الأقطاب
في مشهد يعكس تحولاً جيوسياسياً عميقاً، أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحوكمة العالمية خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين الصينية (١-٢ أيلول ٢٠٢٥). هذه المبادرة ليست مجرد خطاب دبلوماسي عابر، بل تمثل رؤية استراتيجية لإعادة صياغة النظام العالمي بعد عقود من الهيمنة الغربية الأحادية. تأتي المبادرة في لحظة فارقة من التاريخ العالمي، حيث تتعدد الأزمات العابرة للحدود وتتزايد الحاجة إلى نموذج حوكمة أكثر شمولية وعدالة.
السياق التاريخي والجيوستراتيجي
عقدت قمة تيانجين في ذكرى مرور ٨٠ عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة، وهي مناسبة رمزية ذات دلالة عميقة. في كلمته خلال الاحتفالات، استذكر الرئيس شي جين بينغ كيف كانت الصين "خروفاً سميناً ينتظر الذبح" خلال الحقبة الاستعمارية، مؤكداً أن العالم بحاجة إلى العدالة وليس الهيمنة. هذا الخطاب ليس مجرد استحضار للماضي، بل هو تأكيد على رفض منطق القوة الذي حكم العلاقات الدولية لقرون.
تشكل المبادرة الصينية امتداداً لسلسلة من المبادرات التي طرحتها بكين في السنوات الأخيرة، بما في ذلك مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية. لكن هذه المرة، تقدم الصين تصوراً شاملاً للحوكمة العالمية يقوم على خمسة مبادئ أساسية:
الأسس الخمسة للمبادرة
- المساواة في السيادة: تدعو المبادرة إلى تمكين جميع الدول - بغض النظر عن حجمها أو قوتها الاقتصادية - من المشاركة الفعالة في صنع القرار الدولي. هذا المبدأ يتحدى بشكل مباشر سياسات الهيمنة التي تمارسها بعض القوى الكبرى، ويمنح أولوية لرفع مستوى تمثيل الدول النامية وحقوقها في التصويت والتأثير.
- سيادة القانون الدولي: تؤكد المبادرة على ضرورة الالتزام الصارم بمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، والالتزام بالقواعد والمعايير المعترف بها دولياً، مع رفض واضح للمعايير المزدوجة وفرض "القواعد الداخلية" لأي دولة على المجتمع الدولي.
- التعددية الحقيقية: ترفض بكين منطق "الأندية المغلقة" التي تحتكر القرار الدولي (مثل مجموعة السبع)، وتدعو إلى مشاركة أوسع للدول الصاعدة والنامية في الحوكمة العالمية. هذا يتجلى في الدفاع عن دور الأمم المتحدة المركزي في إدارة الشؤون العالمية.
- النهج المرتكز على الإنسان: تضع المبادرة التنمية البشرية في صلب أولوياتها، ساعيةً إلى ضمان استفادة جميع شعوب العالم من نتائج الحوكمة العالمية بشكل عادل. هذا البعد التنموي يميز الرؤية الصينية عن النماذج الأخرى التي تركز على البعد الأمني والعسكري.
- العمل الفعلي والملموس: تدعو المبادرة إلى الانتقال من "خطاب النوايا" إلى مشاريع ملموسة، في إشارة إلى البراغماتية الصينية والسعي للإنجاز لا للشعارات.
منظمة شنغهاي: منصة للتعددية العالمية
تمثل منظمة شنغهاي للتعاون الإطار الأمثل لترجمة هذه المبادرة إلى واقع ملموس. فمنذ تأسيسها عام ٢٠٠١، تطورت المنظمة من منصة أمنية إقليمية إلى منظمة جيوسياسية شاملة تضم ١٠ دول أعضاء و١٤ دولة شريكة، تمثل معاً حوالي ٤٠٪ من سكان العالم و٢٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. خلال قمة تيانجين، التي وصفت بأنها "الأكبر في تاريخ المنظمة"، تم اعتماد أكثر من ٢٠ وثيقة وقراراً، أبرزها:
- إستراتيجية التنمية ٢٠٣٥: والتي تمثل مخططاً لتنمية المنظمة على مدى العقد المقبل.
- إنشاء بنك تنمية تابع للمنظمة: لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية في دول المنظمة، وتعزيز استخدام العملات الوطنية في التجارة البينية.
- إطلاق منصات تعاون في مجالات الطاقة والصناعة الخضراء والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي.
- تبني معاهدة "حسن الجوار والصداقة والتعاون طويل الأمد" لتعزيز الأمن المشترك.
اللافت في قمة تيانجين هو التقارب غير المسبوق بين دول أعضاء ذات مصادر توتر تاريخية، مثل الهند وباكستان، والصين والهند. فقد شهدت القمة عقد لقاء بين رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الصيني شي جين بينغ، وهي أول قمة بينهما على الأراضي الصينية منذ ٧ سنوات. اتفق الزعيمان على اعتبار بلديهما "شريكين في التعاون لا خصمين"، والتعهد بحل النزاع الحدودي المستمر بينهما. هذا التقارب يبدو مدفوعاً جزئياً بالرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على كلا البلدين.
تحديات الهيمنة الغربية وفرص التعددية القطبية
تواجه المبادرة الصينية تحديات جسام، أبرزها استمرار الهيمنة الغربية على المؤسسات المالية الدولية وأنظمة الدفع العالمية. فالنظام المالي العالمي لا يزال قائماً على هيمنة الدولار الأمريكي ونظام التحويلات عبر "سويفت" التي تتحكم بها واشنطن. بالإضافة إلى ذلك، هناك خلافات داخلية بين أعضاء منظمة شنغهاي، مثل الخلافات الحدودية بين الصين والهند، والتنافس بين الهند وباكستان.
لكن في المقابل، توجد فرص تاريخية لنجاح المبادرة، تتمثل في:
- التحول الجيوسياسي العالمي: مع صعود اقتصادات الدول النامية، لم يعد النظام أحادي القطبية قادراً على إدارة الأزمات العالمية بشكل فعال.
- الرغبة العالمية في بديل: كثير من دول العالم تشعر بالتهميش في بنية النظام الدولي القائم، وتتطلع إلى نموذج أكثر عدالة وتمثيلاً.
- القوة الناعمة الصينية: تقدم بكين نفسها كقوة داعية للعدالة والمساواة والتنمية المشتركة، في مقابل النهج القائم على القوة والعقوبات.
- الإنجازات التنموية الصينية: نجاح الصين في انتشال مئات الملايين من براثن الفقر يقدم نموذجاً ملهماً للعديد من الدول النامية.
دور دول البريكس ومنظمة شنغهاي في بناء النظام العالمي الجديد
تمثل دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) ومنظمة شنغهاي للتعاون النواة الصلبة للنظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب. خلال القمة، أكد الرئيس شي أن الصين وروسيا هما "الفائزان الرئيسيان في الحرب العالمية الثانية"، وشدد على أن العلاقات بينهما صمدت أمام الاختبارات وأصبحت نموذجاً للعلاقات بين الدول.
تعمل هذه الدول على بناء نظام مالي بديل يتحدى هيمنة الدولار، من خلال تعزيز استخدام العملات الوطنية في التجارة البينية، وإنشاء بنك التنمية التابع لمنظمة شنغهاي. كما تعمل على تطوير منصات تعاون تقني في مجالات حساسة مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والفضاء، حيث أعلنت الصين عن استعدادها للتعاون في بناء مركز تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ودعت الدول القادرة للمشاركة في مشروع محطة أبحاث القمر الدولية.
نحو مستقبل أكثر تعددية
مبادرة الحوكمة العالمية التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ تمثل نقطة تحول تاريخية في النظام الدولي. هي ليست مجرد خطاب سياسي، بل مشروع متكامل لبناء نظام عالمي أكثر عدالة وتعددية، يقوم على مبادئ المساواة في السيادة، واحترام القانون الدولي، والتعددية الحقيقية، والنهج المرتكز على الإنسان، والعمل الفعلي.
رغم التحديات التي تواجهها، إلا أن المبادرة تجسد تطلعات كثير من دول العالم، وخاصة الدول النامية التي عانت لقرون من هيمنة القوى الاستعمارية. نجاح هذه المبادرة يعتمد على قدرة الصين وحلفائها على تقديم بديل عملي وفعال لإدارة الشؤون العالمية، وقدرتهم على تجاوز الخلافات الداخلية وبناء إجماع حول الرؤية المشتركة.
في كلمة للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا للرئيس شي، أشار إلى إعجابه بشعور شي القوي بالعدالة، قائلاً: "لقد كنتَ مصدر إلهام للتغييرات العميقة التي يجب على البشرية أن تسعى إليها - بأن نتحدث أكثر عن السلام لا عن الحرب، وبأن نتعاون أكثر مما نتنافس، وبأن نُبدع أكثر مما نُدمّر". ربما تختصر هذه الكلمات جوهر الرؤية الصينية للحوكمة العالمية، التي قد تشكل أساس النظام العالمي الجديد في القرن الحادي والعشرين.