أزمة الرأسمالية وتهاوي أسطورة التوظيف التقني: كيف غير الذكاء الاصطناعي معادلة سوق العمل؟
في مشهد يختزل تحولات العصر، أرسل خريج من جامعة مرموقة في الولايات المتحدة أكثر من 6000 طلب توظيف بعد تخرجه، ليقابل بصمتٍ مطبق. لم يحصل حتى على وظيفة في "ماكدونالدز". هذه القصة ليست مجرد حالة فردية، بل هي تعبير عن تحول جوهري في سوق العمل الغربي، حيث لم يعد الحصول على وظيفة في قطاع التكنولوجيا حلماً يتحقق بسهولة، بل أصبح رهينة بأزمات الرأسمالية وتداعيات الذكاء الاصطناعي.
نظام اقتصادي في مفترق طرق
تشهد الرأسمالية العالمية أزمة هيكلية متعددة الأوجه، كما تُظهر الدراسات التي تحلل تطور النظام الاقتصادي منذ سبعينيات القرن الماضي. فالأزمات لم تعد دورية فحسب، بل أصبحت "مستوطنة" في بنية النظام ذاته، وفقاً لتحليل الكاتب خوسيه تابيا في كتابه "الأزمات الست للاقتصاد العالمي". يعتمد تابيا على نظرية النظم العالمية لإيمانويل والرشتاين ليؤكد أن الاقتصاد العالمي، وليس الاقتصادات الوطنية، هو الوحدة الرئيسية للتحليل في فهم الأزمات المعاصرة. في هذا الإطار، لم يعد مستغرباً أن تؤدي الأزمات المتلاحقة إلى تشوهات عميقة في سوق العمل، خاصة في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة.
الولايات المتحدة، كقلب النظام الرأسمالي العالمي، تقدم نموذجاً صارخاً لهذه الأزمة. فبينما كان يُعتقد أن قطاع التكنولوجيا هو المحرك الآمن للتوظيف والنمو، ها هو ذا القطاع يلفظ آلاف العمال سنوياً. في عام 2024، تم فصل 150 ألف مبرمج، وفي العام الحالي يقترب الرقم من 90 ألفاً. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي تعبير عن تحول في نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، حيث تُستبدل القوى العاملة البشرية بتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تقدم كفاءة أعلى بتكلفة أقل.
الذكاء الاصطناعي: من أداة دعم إلى بديل للعمالة
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة في إدارة الموارد البشرية، بل تحول إلى منافس مباشر للقوى العاملة التقليدية. وفقاً لتقارير متخصصة، يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة حوالي 56% من المهام التي كان يقوم بها موظفو الموارد البشرية، وهي النسبة التي تتزايد مع تطور التقنيات. هذا التحول لا يقتصر على القطاع التقني فحسب، بل يمتد ليشمل قطاعات متعددة، حيث أصبحت الشركات تفضل الاستثمار في الحلول التقنية بدلاً من توظيف البشر.
اللافت أن هذا التحول يأتي في وقت تتراجع فيه الهجرة إلى الولايات المتحدة، والتي كانت تشكل مصدراً رئيسياً للعمالة في قطاعات مثل الزراعة والبناء والرعاية. إذا كان تراجع الهجرة سيؤدي نظرياً إلى زيادة فرص العمل للمواطنين، فإن الواقع يشير إلى أن الشركات تفضل الاستثمار في الأتمتة أكثر من الاعتماد على عمالة محلية بأسعار أعلى. هذا التحول يخلق مفارقة صارخة: فبينما يتراجع عدد المهاجرين بنحو 1.2 مليون عامل، تستمر البطالة في الارتفاع بين الخريجين والمتخصصين.
تحول مفاجئ في أولويات التوظيف
في مفارقة تلفت الانتباه، أصبح توظيف خريجي العلوم الإنسانية أسهل من توظيف المبرمجين في بعض القطاعات. كيف حدث هذا؟ الإجابة تكمن في طبيعة المهارات المطلوبة في سوق العمل الجديد. بينما يمكن للذكاء الاصطناعي أداء الكثير من المهام التقنية المتخصصة، تبقى المهارات "الإنسانية" مثل التفكير النقدي، والإبداع، والتواصل، وإدارة العلاقات، خارج نطاق استبدال الآلة – على الأقل في المدى المنظور.
هذا التحول يمثل صدمة للعديد من الخريجين الذين استثمروا سنوات في تعلم مهارات تقنية كان يُعتقد أنها طريق مضمون للنجاح. الواقع الجديد يقول إن القيمة المضافة لم تعد في البرمجة التقليدية، بل في القدرة على توظيف التقنية لحل مشاكل بشرية واجتماعية معقدة. هنا تبرز قيمة الخلفيات الإنسانية التي تقدم فهماً أعمق للسياق البشري والاجتماعي.
تداعيات أوسع: من الولايات المتحدة إلى العالم
لا تقتصر هذه التحولات على الولايات المتحدة وحدها، بل تمتد إلى العالم ككل. فالاقتصاد العالمي أصبح متشابكاً إلى درجة أن الأزمات في الاقتصادات الكبرى تنتشر بسرعة إلى جميع الزوايا. الدول الأفريقية، على سبيل المثال، تواجه تداعيات هذه الأزمة من خلال تقلبات أسعار السلع الأساسية وتراجع الاستثمار المباشر، مما يؤثر بدوره على فرص العمل والاستقرار الاجتماعي.
في العالم العربي، نرى تأثيرات مماثلة وإن كانت بأشكال مختلفة. فبينما تدمر الحرب في غزة سوق العمل الفلسطيني – حيث فقد 201,000 وظيفة في القطاع وحده – تواجه دول عربية أخرى تحدياً في استيعاب الخريجين الجدد في سوق العمل الذي لم يعد قادراً على استيعابهم.
مستقبل غامض ومسؤولية جماعية
يطرح هذا التحول أسئلة مصيرية حول مستقبل العمل ودور النظام التعليمي في إعداد الأجيال القادمة. إذا كانت المهارات التقنية التقليدية لم تعد مطلوبة بنفس الدرجة، فما هو نوع التعليم الذي نحتاجه؟ وكيف يمكن إعادة تأهيل القوى العاملة الحالية لتتناسب مع متطلبات السوق الجديدة؟
الذكاء الاصطناعي نفسه قد يكون جزءاً من الحل، من خلال برامج تطوير المهارات والتدريب المهني التي تركز على المهارات الإنسانية والتقنية المتقدمة. لكن هذا يتطلب استثمارات كبرى وإرادة سياسية واجتماعية لمواجهة التحدي.
الأزمة الرأسمالية الحالية، هي أزمة لا يمكن للبشرية أن تستمر في العيش على طريقتها، رغم أن البعض يقدم رؤى أكثر إصلاحية تركز على ضرورة تكيف النظام نفسه مع المعطيات الجديدة.
خاتمة: نحو نموذج جديد
القصة التي بدأنا بها – عن الخريج الذي أرسل 6000 سيرة ذاتية دون جدوى – ليست قصة فشل فردي، بل هي قصة فشل نظام. نظام اقتصادي أصبح عاجزاً عن توفير فرص العمل اللائق، ونظام تعليمي لم يعد قادراً على مواكبة التحولات، ونظام اجتماعي يقف عاجزاً أمام معاناة الأفراد.
الخروج من هذه الأزمة يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات سطحية. يتطلب إعادة نظر جذرية في عقد العمل الاجتماعي، وفي دور التقنية في حياتنا، وفي أولوياتنا كمجتمعات. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة لتحرير البشر من العمل الروتيني وفسح المجال للإبداع والإنسانية، أو يمكن أن يكون أداة قمع واستغلال تزيد من تركيز الثروة والسلطة. الخيار ليس تقنياً فحسب، بل هو في الأساس خيار سياسي وأخلاقي.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة لتحرير البشر من العمل الروتيني وفسح المجال للإبداع والإنسانية أو يمكن أن يكون أداة قمع واستغلال