بريطانيا بين الطموح الإمبريالي ومحدودية القدرات في عالم متغير
كنان دويعر كنان دويعر

بريطانيا بين الطموح الإمبريالي ومحدودية القدرات في عالم متغير

مع تصاعد الخطاب الأمريكي المنكفئ تحت إدارة ترامب، الذي دعا الأوروبيين صراحة للدفاع عن أنفسهم، دخلت أوروبا سباقاً متسارعاً نحو زيادة الإنفاق العسكري. وفي قلب هذا المشهد، تبرز بريطانيا كمرشح أوروبي لقيادة التوجه نحو دعم أوكرانيا وتعزيز الجبهة الغربية في مواجهة روسيا، مع الاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية.

في ظل تراجع الدعم الأمريكي، تسعى لندن، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، لتقديم نفسها كقوة قادرة على سد الفراغ، عبر رفع الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% من الناتج المحلي بحلول عام 2027، وبناء مصانع ذخيرة وغواصات نووية. ورغم أن هذه الخطط تعكس طموحاً بريطانياً للعب دور مركزي في إعادة تشكيل الأمن الأوروبي، فإنها تعبّر أيضاً عن الأزمة الداخلية التي تعيشها بريطانيا وأوروبا بشكل عام، حيث يدفع عجز هذه الدول عن حل أزماتها الداخلية إلى اتخاذ تدابير أكثر تطرفاً لاستمرار الحرب.

 

من الانكفاء الأمريكي إلى الطموح البريطاني

 

شكلت تصريحات ترامب لحظة تحول جذري في الاستراتيجية الغربية، دفعت أوروبا لإعادة تقييم أولوياتها الدفاعية. وبوزنها الاستعماري والاستخباراتي، وجدت بريطانيا في هذا الفراغ فرصة لتعزيز نفوذها، خاصة في ظل قناعات أوروبية بأن أوكرانيا تسير باتجاه الهزيمة العسكرية. ومن هنا، فإن مراجعة الاستراتيجية الدفاعية للندن لا تهدف فقط إلى مواصلة دعم كييف، بل إلى قيادة مرحلة إعادة التسلح الأوروبي استعداداً لمواجهة تحديات أوسع، خصوصاً في ظل تصاعد التوتر مع روسيا والصين. كما تسعى بريطانيا إلى التأثير على الإدارة الأمريكية للحفاظ على التزاماتها ضمن حلف الناتو، وإبقاء حالة العداء مع القوى الصاعدة. باختصار، تلعب بريطانيا دوراً أساسياً في الاستمرار بسياسة المواجهة، بدلاً من الاعتراف بالتراجع وبناء عالم جديد قائم على الموازين الدولية المتغيرة.

 

ستارمر وتكريس بريطانيا كمحور غربي جديد

 

في مراجعة دفاعية أطلقها من غلاسكو، حذّر كير ستارمر من أن التهديدات الأمنية الحالية "أخطر وأكثر إلحاحاً منذ الحرب الباردة"، مشيراً إلى أن روسيا تمثل تهديداً فورياً، والصين تحدياً استراتيجياً معقداً. وفي تصريحات متعددة، شدد على ضرورة تعزيز الجاهزية القتالية وتطوير الصناعات الدفاعية، بما يشمل بناء مصانع ذخيرة وغواصات نووية، وزيادة مخصصات أوكرانيا إلى 3 مليارات جنيه سنوياً حتى عام 2030. كما وقّعت بريطانيا اتفاقات مع أوكرانيا، مثل الشراكة الممتدة لمئة عام، وتزويدها بـ100 ألف طائرة مسيّرة.

 

تندرج هذه الخطوات ضمن مشروع أوسع لتحويل بريطانيا إلى محور أمني في أوروبا، وتحفيز دول مثل فرنسا وألمانيا على مواكبة هذا التوجه. وتكمن وظيفة هذا المحور في استمرار الصراع مع القوى الصاعدة، وخاصة روسيا والصين، بالنيابة عن الأمريكيين، بغض النظر عن مدى استفادة أوروبا من هذا الصراع، أو بمعنى أدق: على حساب مصالحها الحقيقية.

 

وفي الوقت الذي تحاول فيه بريطانيا الإبقاء على زخم الدعم لأوكرانيا، فإن سياسة التصعيد المستمر تجاه روسيا والصين تعكس إرادة ضمنية للحفاظ على الهيمنة الغربية، أكثر من كونها استجابة واقعية للمتغيرات العالمية.

 

تحديات الواقع الأوروبي والداخل البريطاني

 

رغم الطموح البريطاني، تعاني أوروبا من ضغوط اقتصادية حادة نتيجة فقدان الطاقة الروسية، وارتفاع التضخم، وتراجع نفوذها في أفريقيا ومناطق أخرى من العالم. كما تشهد العديد من الدول الأوروبية صعوداً لليمين، الذي يعارض الاستمرار في تمويل الحرب على حساب الملفات الداخلية، ويعبّر بوضوح عن رغبة متنامية في عدم الانخراط في سياسات الاتحاد الأوروبي التي تدفع الأمور باستمرار نحو المواجهة مع روسيا.

 

وبريطانيا ليست استثناءً؛ إذ تواجه حكومتها أزمات اقتصادية واجتماعية متراكمة، وقرارات مثل إلغاء دعم التدفئة وتقديم الأولوية للإنفاق العسكري على حساب قطاعات الصحة والتعليم.

 

الخلاصة: طموح يتجاوز الإمكانيات

 

تقود بريطانيا توجهاً أوروبياً واضحاً نحو استمرار الحرب، لكنها، مثل شركائها، تواجه ضغوطاً داخلية متزايدة تعيق قدرتها على الاستمرار في هذا الدور. فالرِّهان على إعادة التسلح وبناء الجبهة الغربية يصطدم بتحديات اقتصادية واجتماعية، تجعل من السياسة الدفاعية أداة مزدوجة: لتعزيز النفوذ الجيوسياسي من جهة، وصرف الانتباه عن أزمات الداخل من جهة أخرى.

 

وفي النهاية، يبقى التحدي الأكبر أمام بريطانيا هو تحقيق توازن بين الطموحات الإمبريالية القديمة والقيود الواقعية في عالم يتغير، حيث لم تعد الهيمنة الغربية أمراً مفروغاً منه، ولا التصعيد العسكري طريقاً مضموناً للحل.