المعركة تحتدم داخل أروقة صنع القرار في واشنطن

المعركة تحتدم داخل أروقة صنع القرار في واشنطن

كررت بعض الصحف «الإسرائيلية» خلال الأشهر الماضية آراءً حول تغيرات في طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن توجهات الرئيس دونالد ترامب تخالف إلى هذا الحد أو ذاك ما تريده «إسرائيل» أو حكومة نتنياهو، لكن هذا الاستنتاج يبدو قاصراً في فهم طبيعة ما يجري داخل أروقة دوائر صنع القرار الأمريكي، وإذا ما أردنا حقاً أن ننظر بتمعن قليلاً لظهر أمامنا أن موضوع العلاقة مع الكيان هو جزء تفصيلي من صورة أكبر!

أصدر الرئيس ترامب خلال الأسبوع الماضي قرارات بإقالة عدد من الموظفين في مواقع عديدة كان بعضها حساساً جداً، هذا في ظل تصاعد خلاف بينه وبين إيلون ماسك، الذي دعم الرئيس في حملته الانتخابية بمبلغ يفوق 277 مليون دولار، ثم كُلّف بعد فوز ترامب بإدارة وزارة استشارية تحت اسم «الكفاءة الحكومية» التي كان يفترض أن تخفض الإنفاق الفيدرالي، وتعيد هيكلة عدد من المؤسسات لخفض التكاليف.

من جرت إقالته؟

إلى جانب استقالة إيلون ماسك وإقالة مستشار الأمن القومي مايك والتز، أصدر ترامب قراراً بإقالة 3 موظفين مهمين هم: رئيسة قسم إيران و«إسرائيل» في مجلس الأمن القومي، وتدعى ميراف سيرين وهي تحمل الجنسية «الإسرائيلية» إلى جانب جنسيتها الأمريكية، وأقال إيرك تريغر وهو منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي، والذي يُعد أهم وأعلى مستشار للرئيس ترامب في قضايا الشرق الأوسط، كما وينظر إليه بوصفه من «صناع القرار في السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط» ويمسك تريغر ملفات حساسة في المنطقة، وكان حاضراً في كل اللقاءات التي عقدها ترامب في جولته الأخيرة، أما الإقالة الثالثة فكانت لنائبة المبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان، مورغان أورتاغوس التي تعد من الداعمين «لإسرائيل» أيضاً.

ما إن جرت هذه الإقالات حتى علّقت «يديعوت أحرونوت» على الخبر، واعتبرت أن إزاحة هؤلاء المسؤولين مضر «لإسرائيل»، نظراً لأنهم من أبرز الداعمين لها، ولكن الجريدة المعروفة أشارت دون إسهاب إلى أن سبب الإقالة قد لا يرتبط «بإسرائيل» فحسب بل يتماشى مع سياسة «أمريكا أولاً» دون أن توضح معنى ذلك، وأشارت ««يديعوت أحرونوت» أيضاً إلى: «توجّه الرئيس الأمريكي إلى إضعاف مجلس الأمن القومي، وتركيز إدارة السياسة الخارجية الأميركية في يده هو شخصياً».

لفهم معنى كل ذلك، علينا أولاً أن نُعيد تثبيت حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن السياسيين وأيّاً كان موقعهم يفترض أن يعملوا في خدمة المصالح العميقة لبلدانهم، وهذا ينطبق بالتأكيد على الولايات المتحدة، وهذا ما دفع الصحافة داخل «إسرائيل» لإعادة التذكير بخطابٍ شهير لرئيس وزراء بريطانيا في القرن التاسع عشر، اللورد بالمرستون حين قال: «ليس لبريطانيا أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون. مصالحنا دائمة وأبدية، ومن واجبنا أن نتبع تلك المصالح» فاستذكار كلمات اللورد الآن تثبّت أن المصالح الأمريكية هي ما تحرك صُنّاع القرار في واشنطن، لكن ذلك وحده لا يكفي لتفسير ما يجري، ففهم «المصالح» داخل الولايات المتحدة هو موضوع أساسي للانقسام، ويجري خلاف حاد حول طبيعة «المصلحة» في هذه اللحظة بالذات، ففي حين هناك تيار داخل صُنّاع القرار في واشنطن يرى أنّ مصلحتهم هي في ممارسة دور أكثر تدخلاً في الملفات الدولية الساخنة، ويرون ضرورة للانخراط في الجبهات الساخنة في العالم، ويقود هذا التيار من يطلق عليهم اسم «تيار المحافظون الجدد»، فإن هناك بالمقابل تيار انكفائي يمثله ترامب.

 

وإذا ما راقبنا سلوك الرئيس الأمريكي منذ توليه الدورة الثانية للرئاسة، نرى وضوحاً أنّه حاول تنفيذ أجندته في عدد كبير من الملفات، لكنه اصطدم كما هو متوقع بنفوذ التيار الآخر داخل واشنطن، فالحقيقة أن هناك جيشاً كبيراً من الموظفين البيروقراطيين الذين يفترض منهم تنفيذ التوجه العام، وهؤلاء هم ممثلون بطبيعة الحال للتيارين الأساسيين في السياسة الأمريكية، ويحاول كل تيار استخدام نفوذه لإعاقة الخصم وفرض أجندته، فعندما رأى ترامب أن مستشار الأمن القومي لا يعمل كما يجب، ويعبر عن مصالح التيار الآخر، قام بإقالته، لكنه اصطدم مجدداً بهيكل من الموظفين داخل جهاز الأمن القومي، جرى تعيينهم من قبل المستشار السابق، وهم يعملون وفق أجندة مختلفة، ولذلك نشهد الآن سلسلة إقالات لن تكون محصورة بهذه الشخصيات، بل سنرى أسماءً جديدة في هذه القائمة، وليست داخل جهاز الأمن القومي فقط، بل هي موجودة أيضاً بكل المؤسسات على اختلاف مهامها.

ترامب والمعركة الفاصلة

مع كل خطوة يتخذها ترامب في فرض أجندته سيلاقي ممانعة أكبر في الداخل، فحجم التحول المطلوب كبير ولن يمر بسلاسة، فبعد أن أظهر ترامب قدرته على أن يخطو خطوات في الشرق الأوسط، وفي الملف الأوكراني، بالاتجاه الذي يريده رأينا انتكاسات في هذه الملفات، ما يفسر إلى حد ما سلسلة الإقالات الجديدة، وهو ما يعني أننا سنشهد في الأيام القليلة القادمة رداً من تيار «الصقور في واشنطن» سيحاولون من خلاله منع ترامب من المضي قدماً في أجندته.

في هذا السياق، يبدو الخلاف المتصاعد بين ترامب وماسك مؤشراً على ذلك، فإذا ما ابتعدنا عن التفاصيل المعلنة لهذا الخلاف حول ملفات محددة، ينبغي أن نذكّر أن الدعم الذي قدمه الملياردير كان كبيراً، وربما حاسماً في نجاح الرئيس ترامب في الانتخابات، ويتبادل الرجلان اليوم الاتهامات ويتوعدان بإجراءات موجعة، وفي الحقيقة يستطيع كلّ منهما بما يمثلانه داخل الولايات المتحدة من شن حرب داخل أروقة صنع القرار الأمريكي، قد لا يكون من السهل حسم نتائجها الآن، لكن ما يبدو مؤكداً أن موجة الإضرابات الداخلية ستشهد تصاعداً ملحوظاً في الفترة القادمة.

 

 

انعكاسات على الكيان والعالم

 

في ظل أجواء مشحونة كهذه سيكون من الطبيعي أن يشعر قادة الكيان بالخطر، وخصوصاً أن مصير «إسرائيل» مرهون إلى حد كبير بمجريات ما يجري في واشنطن، لكن ذلك لا يرتبط بالكيان فحسب، بل يرتبط بشكل مباشر في عدد كبير من الملفات، والمؤكد أن استمرار مواجهة بهذا الحجم داخل الولايات المتحدة، ستفرض حالة من عدم اليقين في العالم كلّه، وهو ما يعني بشكلٍ ملموس أن الدول ستجد نفسها مضطرةً لوضع هذا الواقع في الحسبان عند وضع توجهاتهم العامة، فالرهان اليوم على أن التوجّه الأمريكي سيكون ثابتاً هو رهانٌ يحمل كثيراً من المخاطرة، ومن البديهي أن تستعيض الدول عنه باعتماد استراتيجية أكثر مرونةً وتنوعاً، وتكون ضعيفة التأثر بالنتائج الختامية للصراع في واشنطن.