ثلاثة أحداث وقلق واحد: خطر على اقتصاد «إسرائيل»
بالنسبة للأسواق المالية فإنّ «إسرائيل» تعيش حالة من الاضطراب الأمني والسياسي والاجتماعي. وثمّة ثلاث عمليات: عودة القتال في منتصف شهر مارس/آذار مع نشاط العدوان «الإسرائيلي» في قطاع غزة ولبنان، وصولاً إلى تجدد التهديد الصاروخي وهجمات الحوثيين، إلى إقرار الكنيست لأكبر ميزانية للدولة على الإطلاق، بلغت قيمتها نحو 620 مليار شيكل. كل هذا يجري على خلفية الحروب التجارية وعدم اليقين في الاقتصاد العالمي في ضوء السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. كلها تجعل من الصعب على اقتصاد الاحتلال أن يعمل، وفق المقال الآتي الصادر عن مركز دراسات الأمن القومي للاحتلال (INSS)، العدد 1974، بتاريخ 8 نيسان 2025، حيث طرح السؤال العريض: لماذا زادت احتمالات الأزمة المالية في «إسرائيل»؟
- ترجمة «قاسيون» بتصرف
تزايدت المخاطر التي تهدد الاقتصادي «الإسرائيلي» في الآونة الأخيرة، ما يزيد من احتمالية حدوث أزمة مالية في الكيان، وهي ناتجة عن ثلاثة أحداث تزامنت في وقتٍ واحد: انتهاء وقف إطلاق النار في غزة، وميزانية «الدولة» لعام 2025 الإشكالية، وعدم الاستقرار السياسي الذي انعكس في إقالة حرّاس البوابة وعودة الثورة القانونية.
الحدث الأول
عودة القتال في منتصف شهر مارس/آذار، ونشاط الجيش «الإسرائيلي» في قطاع غزة ولبنان، وصولاً إلى تجدد التهديد الصاروخي وهجمات الحوثيين من اليمن على «إسرائيل». وإلى جانب عنصر عدم اليقين الذي يصاحب هذه المرحلة من الحرب وأهدافها، ما يجعل من الصعب على الاقتصاد أن يعمل، على سبيل المثال، تؤثر عودة القتال سلباً على النمو في «إسرائيل» بعد تجنيد جنود الاحتياط، إذ سيتعيّن على الشركات مرة أخرى العثور على بديل لهؤلاء الموظَّفين الذين سيجنَّدون مرة أخرى، إضافة إلى زيادة التكلفة المرتبطة بتجنيدهم. وأظهرت دراسة أجرتها وزارة المالية في عام 2024 أنّ التكلفة الاقتصادية لجنديّ الاحتياط تبلغ نحو 48 ألف شيكل شهرياً. في أكتوبر/تشرين الأول 2024، قدَّر محافظ بنك «إسرائيل» البروفيسور أمير يارون، أنّ التكلفة الاقتصادية لعدم تجنيد الحريديم تبلغ نحو 10 مليارات شيكل سنوياً (أي ما يعادل 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي).
فتمويل الحرب حتى الآن تطلَّب جمع ديونٍ بمبالغ ضخمة، تجاوزت حتى جمع الديون خلال أزمة كورونا في عام 2020. وبالتالي، بلغ جمع الديون في عام 2024 مبلغ 278 مليار شيكل مقارنة بـ 265 مليار شيكل في عام 2020. فأدّت هذه العمليات إلى جانب نمو الناتج المحلي الإجمالي شبه الصفريّ، إلى زيادة كبيرة في نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي، من 60% في عام 2022 إلى 69% في عام 2024.
الحدث الثاني
إقرار الكنيست لأكبر ميزانية للدولة على الإطلاق، بلغت قيمتها نحو 620 مليار شيكل. في ظاهر الأمر ينبغي أن يكون إقرار ميزانية الدولة علامةً إيجابية على الاستقرار السياسي والاقتصادي. ولكنّ الميزانية التي أقرَّت تشكل إنجازاً سياسياً لحكومة بنيامين نتنياهو، ولكنها فشلٌ اقتصادي للبلاد.
وقد أكّد بنك «إسرائيل» ووزارة المالية مراراً وتكراراً أنّ أولويّات الحكومة الحالية لا تتوافق مع التحدّيات الاقتصادية التي تواجه دولة «إسرائيل». لذلك ليس مستغرباً الفجوة الكبيرة بين توصيات الهيئات المهنية بشأن ميزانية عام 2025 والميزانية التي تمّت الموافقة عليها فعلياً.
وتتضمن الميزانية الكثيرَ من القرارات المتعلّقة بالقوى العاملة في «إسرائيل»، بما في ذلك رفع اشتراكات التأمين الوطني، وتجميد شرائح ضريبة الدخل، وتقليص أيام النقاهة، ورفع ضريبة القيمة المضافة، وهو ما قد يضر بمستوى الطلب في الاقتصاد. كما يتضمن تخفيضات واسعة النطاق في ميزانيات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وعلى النقيض من ذلك، تفتقر الميزانية إلى محركات النمو الرئيسية، ولا تتضمن تخفيضات كبيرة في أموال الائتلاف غير الضرورية، كما أن الأموال التي وعد بها «قانون النهضة» لإعادة إعمار غلاف غزة والشمال لم يتم تضمينها أيضاً. وبدلاً من تلك البنود التي قد تشجع النمو والاندماج في سوق العمل، تتضمن الميزانية مخصَّصاتٍ كجزءٍ من اتفاقيات الائتلاف، التي تحفز عدم التجنيد في الجيش «الإسرائيلي» وعدم المشاركة في سوق العمل. علاوة على ذلك، فإنّ توزيع الأموال على المؤسَّسات المُعفاة من الضرائب في التعليم الحريدي التي لا تدرس المواد الأساسية يؤدّي إلى إدامة المشكلة وتفاقمها، لأنّ التعليم الذي تقدّمه لا يزيد من قدرة طلّابها على الكسب في المستقبل.
باختصار، وعلى الرغم من وعد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في ديسمبر/كانون الأول 2024 بأنّ عجز الموازنة لن يتجاوز 4%، فإنّ هدف العجز المخطَّط له في الميزانية المعتمَدة هو بالفعل 4.9%. ويأتي هذا بعد عامين لم تتمكَّن خلالهما دولة «إسرائيل» من تحقيق هدف العجز المخطَّط له نتيجةً للحرب، حيث وصل إلى 4.1% في عام 2023 و6.8% في عام 2024. وكلّ هذا أدى إلى زيادة كبيرة في نسبة الدَّين إلى الناتج المحلّي الإجمالي في «إسرائيل» من 60% إلى 70% في وقت قصير. وإذا نجحت خطّة رئيس الأركان الجديد، إيال زامير، لإعادة احتلال قطاع غزة، فإنّ العجز، ومعه نسبة الدَّين إلى الناتج المحلّي الإجمالي، سوف يرتفع بشكل كبير.
الحدث الثالث
هو عدم الاستقرار السياسي الذي يرافق عودة الثورة القضائية ومحاولات إقالة المستشار القانوني للحكومة ورئيس الشاباك. منذ بداية الحرب قامتْ ثلاث وكالات تصنيف ائتماني بتخفيض التصنيف الائتماني لـ«إسرائيل». وفي كل التقارير التي أصدروها منذ انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أشاروا إلى الخوف من عدم الاستقرار السياسي وتفاقم الاستقطاب في المجتمع «الإسرائيلي». وفي العام الماضي هاجم وزير المالية سموتريتش قرارات شركات التصنيف الائتماني في عدة مناسبات، مدّعياً أنّ الشركات تتعامل مع قضايا غير اقتصادية، وأنه يتوقع نمواً مرتفعاً للاقتصاد «الإسرائيلي» بعد نهاية الحرب.
ولكن هناك مشكلة أساسية في هذه الحجة: إذ تشير دراسات واسعة النطاق في علم الاقتصاد إلى أن المؤسسات الاقتصادية والسياسية تؤثر على نمو وازدهار البلدان. على سبيل المثال، أظهر الفائزون بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2024 (درون أسيموجلو، وسيمون جونسون، وجيمس روبيسون) أنّ البلدان التي تتمتّع بمؤسَّسات ديمقراطية وسيادة قانون مستقرّة تميل إلى الازدهار اقتصادياً، في حين تكافح البلدان ذات المؤسّسات الضعيفة لتحقيق نمو كبير في الأمد البعيد. وهذا يعني أنّه حتى من منظور اقتصادي بحت، فإن إضعاف السلطة القضائية يؤثّر على التصنيف الائتماني للبلاد. لذلك يتعيّن على وكالات التصنيف الائتماني أنْ تعالج القضايا السياسيّة في كل دولة تدرسها لتقييم المخاطر المستقبلية التي تهدّد الاقتصاد. والخلاصة هي أنّ عدم الاستقرار السياسي يسهم في ارتفاع تكاليف تمويل الديون، كما يتضح من ارتفاع علاوة المخاطر في «إسرائيل» في عام 2023 ــ حتى قبل بدء الحرب.
ولكي نفهم بشكل أفضل تأثير العمليات الثلاث التي تحدث معاً على القوة المالية لـ«دولة إسرائيل»، كما يراها المستثمرون الدوليّون، فمن المفيد أن ننظر إلى التقلبات في عقود مقايضة الائتمان الافتراضي (CDS) وهو عقد مالي يستخدم كأداة للحماية من إفلاس الجهة المصدرة للدَّين. وبعبارة بسيطة، فإنه تأمين ضد خطر عدم سداد الديون. كلما ارتفع مؤشر مقايضة مخاطر الائتمان في بلدٍ ما، زاد قلق المستثمرين بشأن الاستقرار الاقتصادي في البلاد. ويتغير هذا المؤشر يوميا، مما يتيح لنا الحصول على رؤية فورية حول مخاطر الائتمان في البلدان.
إنّ مؤشر مقايضة مخاطر الائتمان «الإسرائيلي» (بالدولار) لمدة 10 سنوات منذ 1 يناير/كانون الثاني 2023 قد بدأ في الارتفاع بشكل معتدل في بداية عام 2023 وقفز بشكل كبير مع اندلاع الحرب. واصل مؤشر أسعار المستهلك (CDS) اتجاهه الصعودي ولكن بدرجة معتدلة في العام الأول من الحرب. وفي ضوء الإنجازات التي تحققت ضد إيران بعد الهجوم «الإسرائيلي» في أكتوبر/تشرين الأول 2024، انخفض مؤشر القوة النسبية (CDS) بشكل حاد. واستمر تراجعه في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان. ومع استئناف القتال في قطاع غزة في أوائل مارس/آذار 2025، ارتفع مستوى الدفاع الصاروخي «الإسرائيلي» مجدَّداً. والمعنى العملي لهذه العلاوة هو أن الأسواق تضع في الحسبان مخاطر أكبر للإفلاس في «إسرائيل».
يميل هذا المؤشر إلى أن يسبق قرارات شركات التصنيف الائتماني. على سبيل المثال، خفضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لـ«إسرائيل» في فبراير/شباط وسبتمبر/أيلول 2024، بعد فترة طويلة من ارتفاع أسعار مقايضة مخاطر الائتمان. وبشكل عام، انخفض التصنيف الائتماني لـ«إسرائيل» بحسب وكالة موديز من مستوى ما قبل الحرب A1 إلى المستوى الحالي Baa1 مع نظرة مستقبلية سلبية. ويعتبر هذا المستوى قريباً جداً من مستوى Ba1، وهو المستوى الذي تعتبر فيه السندات سنداتٍ غير مرغوب فيها. إنّ الانخفاض إلى هذا المستوى قد يدفع «إسرائيل» إلى أزمة مالية حيث ستجد صعوبة في جمع الديون في الأسواق المالية لتمويل نفقاتها (بما في ذلك نفقات الحرب).
هذا الخطر موجود إضافة إلى احتمال خفض شركات التصنيف الائتماني لـ«إسرائيل» مرة أخرى، كذلك يتضح من بيانات مقايضة مخاطر الائتمان لسندات العشر سنوات لعدة دول إلى جانب تصنيفاتها الائتمانية وفقاً لوكالة موديز. ويتبين بأنّ المستثمرين يقدّرون أنّ مخاطر السندات «الإسرائيلية» كما تنعكس في مقايضة مخاطر الائتمان أعلى من تلك التي تنعكس في التصنيف الائتماني للبلاد. على سبيل المثال، فإن التصنيف الائتماني لـ«إسرائيل» أعلى من تصنيف إيطاليا واليونان والهند، وبالتالي، وفقاً لموديز، فإنّ السندات «الإسرائيلية» أقل خطورة من سندات هذه الدول. وعلى النقيض من ذلك، ووفقاً لمؤشر مقايضة مخاطر الائتمان (الذي يتغيّر في الوقت الحقيقي ويميل إلى التنبؤ بانخفاضات التصنيف الائتماني)، ينظر المستثمرون إلى السندات «الإسرائيلية» على أنها أكثر خطورة من السندات من بلدان أخرى.
الصورة الاقتصادية التي تظهر من خلال وقوع الأحداث الثلاثة التي حللتها المقالة في وقت واحد لا تبشر بالخير لـ«إسرائيل». وليس المقصود أن نقول إنّ الأسواق العالمية هي التي تجبر «إسرائيل» على اتخاذ قرارات «غير مسؤولة» في مجال الأمن القومي للكيان. مع ذلك من المهم التأكيد على أن قادة الكيان يجب أن يأخذوا في الاعتبار أن الأمن القومي «الإسرائيلي» مرتبط أيضاً بالطريقة التي تنظر بها الأسواق المالية إليه. بالنسبة للأسواق المالية فإنّ «إسرائيل» تعيش حالة من الاضطراب الأمني والسياسي والاجتماعي، وكلّ هذا لا يحدث في فراغ: هذه العمليات الثلاث تجري على خلفية الحروب التجارية وعدم اليقين في الاقتصاد العالمي في ضوء السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. بسبب الحروب التجارية، نشهد انخفاضات في الأسواق المالية العالمية وهناك مخاوف بشأن تباطؤ عالمي وربما حتى ركود تضخمي، وهو ما قد يحدث في عام 2025. وسوف يواجه الاقتصاد «الإسرائيلي» تحديات أكثر أهمية بكثير إذا تحققت هذه السيناريوهات. ولذلك، يتعين على «إسرائيل» أن تكون منتبهة للمؤسسات المالية الدولية، وأن تمارس الحذر خلال هذه الفترة، وأنْ تحاول قدر الإمكان الحد من عناصر عدم اليقين التي تخيّم على اقتصادها.