صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بين الدعم المزعوم والتدخل المشروط
في الأيام الأخيرة، تصاعد الحديث إعلامياً عن موافقة البنك الدولي على تقديم منحتين ماليتين لسورية بقيمة 150 مليون دولار لكل منهما، إحداهما مخصصة لدفع رواتب الموظفين، والثانية لتحسين البنية التحتية لشبكات الكهرباء.
وقد ارتبط هذا القرار، وفق ما تم تداوله، بدعم سياسي ومالي من إحدى الدول الإقليمية، وموافقة ضمنية من دولة كبرى ذات نفوذ واسع في هذه المؤسسة المالية.
فهذه الخطوة بحسب ما قيل جاءت بدعم من المملكة العربية السعودية وتسديدها للديون السابقة المستحقة على سورية (15 مليون دولار دين صغير ومتواضع)، وسط مباركة من الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك التأثير الأكبر في توجهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ورغم الترحيب الظاهري بهذا التحرك، إلا أن الطريقة التي تم بها تسويق هذا الدعم تطرح تساؤلات عدة حول حقيقة الدور الذي تلعبه المؤسسات المالية الدولية في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية عميقة، مثل سورية، ومدى الأثمان التي تُطلب مقابل هذا «الدعم».
التضخيم الإعلامي للدور
الخبر بحد ذاته يبدو إيجابياً، ويرسم صورة «مشرقة» عن تعاون دولي يُفترض أنه يصب في مصلحة الشعب السوري، لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك!
فما لوحظ في معظم التغطيات الإعلامية، هو تضخيم مبالغ فيه لدور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتصويرهما كجهات إنقاذ قادرة على إخراج أي اقتصاد من محنته.
لكن هذا التصور السطحي يتجاهل السياق التاريخي والسياسي لتدخلات هذه المؤسسات المالية الدولية، والتي كثيراً ما جاءت مشروطة بإصلاحات اقتصادية ذات طابع تقشفي صارم، مع شروط قاسية ترتبط بالسياسات النقدية- خفض الدعم- تحرير الأسعار- وخصخصة القطاعات الحيوية، والتي تؤثر مباشرة على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمعات.
ففي حالات عديدة، أدت وصفات الصندوق إلى تفكيك أنظمة الدعم الاجتماعي، ورفع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وخصخصة قطاعات الدولة الحيوية، ما أدى إلى تفاقم معدلات الفقر والبطالة، وتراجع السيادة الاقتصادية لصالح سياسات مفروضة من الخارج.
التمويل المشروط والتوظيف السياسي
منح القروض أو تقديم المنح لا يأتي بشكل مجاني، ولا يخضع فقط لاعتبارات اقتصادية، بل غالباً ما يرتبط بحسابات سياسية دقيقة.
فالموافقة الأخيرة لم تكن لتحدث دون تدخل مباشر من قوى سياسية فاعلة على المستوى الدولي. وهذا يطرح إشكالية أساسية تتعلق بتسييس المساعدات، واستخدامها كأدوات ضغط لفرض أجندات محددة، تحت غطاء التنمية والدعم الاقتصادي.
المفارقة أن هذه المؤسسات تُروّج لكونها كيانات «محايدة» تعمل على تحسين الاقتصاد العالمي، بينما تشير التجارب إلى أنها في كثير من الحالات أداة تنفيذ للسياسات الخارجية للدول المهيمنة داخلها، ما يجعل من استقلالية القرار الاقتصادي للدول المقترِضة أمراً مهدداً.
فالتمويل المشروط يُفرَض غالباً تحت ذريعة «إصلاح الاقتصاد»، لكنه في كثير من الأحيان يؤدي إلى نتائج عكسية، منها ارتفاع معدلات الفقر، تآكل الطبقة الوسطى، وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والتجارب المؤلمة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا شاهدة على ذلك.
أما الإشارة إلى احتمال أن يؤدي «التعاون» مع هذه المؤسسات إلى رفع العقوبات، كما ورد في حديث بعض الاقتصاديين أو بعض وسائل الإعلام، فهي تعكس بوضوح كيف أن الاقتصاد يصبح رهينة لمعادلات سياسية لا تمت بصلة لمصالح الشعوب.
الفرصة البديلة... الاعتماد على الذات
بعيداً عن الهالة التي تُصنع حول المساعدات والقروض الخارجية، فإن النهضة الاقتصادية الحقيقية لا تأتي من القروض والمنح، بل من الإنتاج الحقيقي، وإعادة تشغيل عجلة الصناعة والزراعة، وتحقيق التوازن بين الاستيراد والتصدير، وتشجيع الاستثمار الداخلي.
أما الاتكاء على الخارج، فهو في أفضل الأحوال حل مؤقت، وفي أسوئها مدخل لتبعية طويلة الأمد.
فما يحدث اليوم في سورية يعكس لحظة فارقة، وفرصة لإعادة تقييم العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية. ولا ينبغي أن يُنظر إلى هذا التمويل المحدود باعتباره إنجازاً سيادياً أو بداية لنهاية الأزمة، بل يجب التعامل معه بحذر، وقراءة ما بين سطوره، لأن ما يبدو كدعم مالي قد يكون في حقيقته منفذاً لتدخلات أعمق، تطال البنية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية للدولة.
بالمقابل فإن الإعلام بدوره مدعو اليوم لتبني خطاب نقدي واقعي ومسؤول، في التعامل مع هذه الجهات، بعيداً عن التهويل أو التبجيل الأجوف، وألا يكتفي بتكرار روايات ظاهرها الدعم وباطنها الارتهان.