هل أشعل ترامب نيران معركة الذهب بين الولايات المتحدة وأوروبا؟
فالنتين كاتاسونوف فالنتين كاتاسونوف

هل أشعل ترامب نيران معركة الذهب بين الولايات المتحدة وأوروبا؟

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم القديم (أوروبا) في التدهور بسرعة، حيث ظهرت تناقضات خطيرة حول قضية الحرب في أوكرانيا، وبالتالي حول مسألة الموقف من روسيا واستمرار العقوبات المفروضة عليها.

ترجمة قاسيون

تعتبر واشنطن الصين خصمها الرئيسي. ورغم أن أوروبا لا تعتبر الصين حليفاً، إلا أنها لا تريد أن تصل علاقاتها مع بكين إلى حالة العداء المفتوح. 

بالتوازي مع ذلك، أعلن ترامب أنه يرغب في السيطرة على غرينلاد وجعلها الولاية الأمريكية رقم 51، وهو طموح لم يلقَ إعجاباً لدى الدنمارك (التي تسيطر على غرينلاد) ولا لدى الدول الأوروبية الأخرى.

وبرزت تناقضات كبيرة أيضاً بشأن حلف شمال الأطلسي (الناتو). حيث تطالب واشنطن الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف بزيادة إنفاقها العسكري بشكل كبير حتى يصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يريد الأوروبيون الاستقرار عند نسبة 2%.

ومؤخراً، فرض ترامب رسوماً جمركية بنسبة 20% على السلع الأوروبية، مما وضع الولايات المتحدة وأوروبا على شفا حرب تجارية. وقد رد الاتحاد الأوروبي بإعلان فرض رسوم بنسبة 25%. 

يمكن الاستمرار في سرد قائمة التناقضات التي ظهرت خلال أقل من ثلاثة أشهر من وجود ترامب في البيت الأبيض، وهذه التناقضات قد تتفاقم مستقبلاً، فبالإضافة إلى الرسوم الجمركية، يمكن للطرفين استخدام وسائل ضغط أخرى. ولدى الولايات المتحدة وسيلة لا تملكها أوروبا، وهي الذهب الذي خزنته الدول الأوروبية في الولايات المتحدة.

بدأت بعض الدول بتخزين الذهب في الولايات المتحدة منذ زمن بعيد. فمع بداية الحرب العالمية الثانية، نقلت فرنسا وبريطانيا جزءاً من احتياطيات الذهب إلى الولايات المتحدة. وبعد استسلام ألمانيا عام 1945، نُقل كل الذهب الذي تم العثور عليه في أراضي الرايخ الثالث الألماني إلى الولايات المتحدة بموجب اتفاقية السلام، وكان يُفترض أن يكون ذلك مؤقتاً. لكن عملياً، أمرت واشنطن ألمانيا بالاحتفاظ بذهبها دائماً في الخارج كضمان لبقاء القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها، والتي أصبحت عملياً مستعمرة أمريكية بعد الحرب.

بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت خزائن الولايات المتحدة تضم ذهباً من احتياطيات دول أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بدعوى أن العالم غير مستقر وأن الولايات المتحدة هي المكان الأكثر أماناً على وجه الأرض.

قبل عشر سنوات، كانت نحو ستين دولة تخزن جزءاً من احتياطياتها الذهبية في الولايات المتحدة، بما في ذلك معظم دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الجنوبية وكندا وأستراليا واليابان والعديد من دول شرق المتوسط وحتى الصين والهند.

كل شيء كان هادئاً نسبياً حتى عام 2009 عندما ظهرت فضيحة «الذهب التنغستني»: اشترت الصين نحو 70 طناً من الذهب من بورصة المعادن في لندن. وبعد اختبار السبائك، جاءت النتائج صادمة: كانت السبائك مصنوعة من معدن التنغستن (الذي له كثافة الذهب نفسها)، ومغطاة بطبقة رقيقة من الذهب. وكانت تحمل ختم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وأرقام تسجيل الخزانة الأمريكية، مما يشير إلى أنها كانت مخزنة في قلعة فورت نوكس (مبنى خزانة سبائك الإيداع الأمريكية) لسنوات عدّة قبل البيع. أثارت هذه الحادثة الشكوك لأول مرة حول مدى موثوقية «خزنة» الذهب الأمريكية.

في عام 2011، أرسل الرئيس الفنزويلي آنذاك، هوغو شافيز، طلباً رسمياً لبنك إنكلترا لإعادة احتياطي الذهب الوطني الفنزويلي البالغ 211 طناً، والذي كان مخزناً في البنك المركزي البريطاني. لكن اتضح أن هناك فقط 99 طناً من الذهب الفنزويلي في خزائن بنك إنكلترا، بينما استخدمت البنوك الأخرى (مثل JP Morgan Chase و Barclays و Standard Chartered و Bank of Nova Scotia) الذهب الفنزويلي في عمليات مضاربة. وفي نهاية المطاف، تمكّن شافيز من استعادة نحو 150 طناً من الذهب، بينما استمر بنك إنكلترا في «الاحتفاظ» بنحو 60 طناً. ولا تزال إنكلترا ترفض إعادة ما تبقى من الذهب إلى كراكاس. قوضت هذه الحادثة أيضاً الثقة ليس فقط في بنك إنكلترا ولكن أيضاً في الاحتياطي الفيدرالي والخزانة الأمريكية.

وفي أعوام 2010-2011، حاول مدير صندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس كان، مراراً الحصول على 191 طناً من الذهب الذي يخصّ الصندوق والموجود في قلعة فورت نوكس الأمريكية. لكن واشنطن رفضت طلبه. وبعد فترة قصيرة، تم سجن المدير باتهامات ملفقة. ومع انهيار التهم، تم إطلاق سراحه ونقلت إدارة الصندوق إلى كريستين لاغارد، لكن الذهب لم يعد لصندوق النقد.

بعد تلك الحوادث الفضائحية، انخفضت ثقة الدول الأخرى في تخزين الذهب في الولايات المتحدة وإنكلترا إلى الصفر. وبدأت الدول تسحب ذهبها تدريجياً من خزائن الدول الأنغلوسكسونية. ومنذ عام 2013، تمكنت ألمانيا، التي كانت تحتفظ بـ3370 طناً من الذهب في الولايات المتحدة، من استعادة جزء منه. وبحلول نهاية عام 2017، تم نقل 674 طناً، لكن الجزء الأكبر من احتياطي الذهب الألماني لا يزال في الخارج. كما لا يزال 420 طناً من الذهب الألماني مخزناً في بنك إنكلترا.

على خطى ألمانيا، استعادت هولندا 120 طناً من الذهب في عام 2014، ثم استعاد البنك المركزي النمساوي 140 طناً من بنك إنجلترا. وفي عام 2017، سحبت تركيا 29 طناً من الذهب من الولايات المتحدة ونحو 200 طن من إنكلترا.

في عام 2021، أضافت واشنطن المزيد من الزيت إلى النار عندما جمدت أصول الحكومة الأفغانية، بما في ذلك 22 طناً من الذهب المودعة في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وبعد تغيير السلطة في أفغانستان، بدأت موجة جديدة من إعادة الذهب من الولايات المتحدة.

وزاد من التوتر قرار السلطات الأمريكية وبعض الدول الغربية الأخرى بتجميد الأصول الخارجية للبنك المركزي الروسي في نهاية شهر شباط 2022. ورغم أن الأصول المجمدة كانت نقدية فقط، إلا أن ذلك دفع عدداً من الدول إلى بدء عملية استعادة الذهب من الولايات المتحدة.

وفقاً لتقديرات شركة الاستثمار الأمريكية Invesco، في عام 2022، كانت 50% من البنوك المركزية في العالم تخزن الذهب حصرياً على أراضيها. لكن بحلول منتصف عام 2023، ارتفعت هذه النسبة إلى 68%، ومن المتوقع أن تصل إلى 74% بحلول عام 2028. وقد انخفضت كمية الذهب الأجنبي في خزينة بنك إنكلترا بنسبة 12% خلال الفترة من 2021 إلى 2023. أما بالنسبة لتغير احتياطيات الذهب الأجنبية في خزائن الولايات المتحدة، فلا توجد معلومات دقيقة بهذا الشأن.

خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024 فقط، قررت ثماني دول تعتبر من دول «الجنوب العالمي» سحب احتياطاتها الذهبية من الولايات المتحدة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وغانا والكاميرون والسنغال والجزائر ومصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا. وآخر عملية إعادة كبيرة للذهب كانت العام الماضي عندما نقل البنك الاحتياطي الهندي 100 طن من الذهب من إنكلترا إلى خزائنه الوطنية. ورغم ذلك، لا يزال جزء كبير من احتياطي الذهب الهندي (البالغ نحو 822 طناً) مخزناً في الخارج، بما في ذلك في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.

في بداية العام الماضي، شملت قائمة الدول التي تخزن ذهبها كله محلياً: روسيا، والصين، والولايات المتحدة، وفرنسا، وتركيا، وتايوان، والمملكة العربية السعودية، والمملكة المتحدة، وإسبانيا. (ذكرتُ فقط الدول ذات الاحتياطيات الكبيرة من الذهب).

لم أتمكن من العثور على الرقم الدقيق للدول التي تخزن كل أو جزء من احتياطاتها الذهبية في الخارج. وفقاً لموسوعة ويكيبيديا، يوجد نحو ستين دولة تخزن ذهبها في الخارج، لكنها لم تقدم قائمة كاملة أو تاريخاً محدداً لهذه المعلومات أو حجم احتياطيات الذهب الأجنبية في الولايات المتحدة. يُعتقد أن معظم الذهب الأجنبي مخزن في الخزينة تحت الأرض لبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، حيث يُقال إنه يوجد 7000 طن من الذهب، لكن هذا الرقم يتضمن بعض الذهب الأمريكي، لذلك لا يمكن تحديد الكميات الدقيقة للذهب الأجنبي.

وفقاً للمصادر، فإن أكبر كمية من الذهب في الولايات المتحدة تخزنها ألمانيا. ووفقاً للمصادر الألمانية، يوجد حالياً 1236 طناً من الذهب الألماني في الولايات المتحدة، وهو ما يشكل 37% من احتياطيات البلاد، وكل الذهب الألماني موجود في خزينة بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. كما ذكرتُ سابقاً، انتهت الجولة الأولى من إعادة الذهب الألماني من الولايات المتحدة بحلول نهاية عام 2017، ثم حدث هدوء، حيث اكتفت برلين بمطالبة واشنطن بإجراء تدقيق شامل لاحتياطاتها في نيويورك. وقد تم إجراء التدقيق، لكنه كان شكلياً وسطحياً.

وها قد بدأت جولة مواجهة ذهبية جديدة بين ألمانيا والولايات المتحدة بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض. حيث أعلنت برلين أن واشنطن شريك «غير موثوق»، وتسعى لاستعادة الذهب المتبقي في الولايات المتحدة. وقد أصبحت مطالب برلين أكثر حدة بعد إعلان ترامب فرض رسوم جمركية ضد العالم في 2 نيسان 2025. حيث تم فرض الرسوم الجمركية ضد الاتحاد الأوروبي، وبالتالي ضد ألمانيا، بنسبة 20%. في هذا الصدد، نقلت صحيفة The Daily Telegraph موقف ألمانيا قائلة: «تدرس برلين استعادة جزء كبير من احتياطاتها الذهبية من خزينة نيويورك بسبب قلقها من عدم قابلية سياسة ترامب للتنبؤ».

أعتقد أن ترامب وفريقه سيجدون حججاً لرفض طلب ألمانيا. وهذا قد يؤدي إلى ما يمكنني تسميته «الحرب الذهبية عبر الأطلسي».