في سورية: انتهى الطور الأول وبدأ طورٌ ثانٍ من الحركة الشعبية!
(نشر المقال لأول مرة في موقع تقدُّم الكويتي)
ستبقى صناديق سوداء كثيرة مغلقة لسنوات وربما لعقود قادمة، حول ما جرى بالضبط يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر، وفي الأيام القليلة التي سبقته في سورية.
سيكون من الصعب أيضاً، وضع اليد بشكلٍ ملموس، في أي وقت قريب، على حقيقة الاتفاقات الدولية التي شكلت الإطار الذي أدى لفرار بشار الأسد وسقوط سلطته دون قتالٍ عملياً.
ما يمكن تأكيده حتى الآن، والاستناد إليه في فهم ما جرى، وفي تقييم المرحلة التي وصلت إليها سورية، واستشراف ما هي مقبلة عليه، هو الأمور التالية:
أولاً: انهيار سلطة بشار الأسد، ورغم أن الطريقة التي حصل بها كانت مفاجئة، إلَّا أنه لم يكن خارج التوقعات المنطقية؛ الأسد فقد منذ سنوات ما تبقى من الحاضنة الشعبية التي لم يقدم لها أي حلول من أي نوع، لأي مشكلة، بما في ذلك أصغر المشاكل وأبسطها. وزادها فقراً عبر رفع درجات النهب واللبرلة، وأغلق أبواب الحل السياسي بكل طريقة ممكنة، وأعاق كل الجهود التي بذلت لإعادة لحمة سورية بعد توقف القتال لأكثر من 5 سنوات متواصلة بجهود مجموعة أستانا بالدرجة الأولى. بالتوازي، فإن سلطة بشار الأسد حاولت الاستمرار إلى ما لا نهاية في لعبة انتهى زمنها؛ والمقصود هو محاولة اللعب بين الأقطاب الدولية المختلفة، مع وضع كل البيض الأساسي في سلة الغرب من تحت الطاولة… الاشتداد المتسارع للصراع الدولي، ضيّق هوامش هذه اللعبة، وأوصلها إلى نهايتها مع تعنت الأسد ضد تسوية مع تركيا برعاية روسية وإيرانية، كان من شأنها كسر العقوبات الغربية، ومع تعنته في رفض تطبيق القرار 2254 الذي يشكل خارطة الحل السياسي المؤدية لاستعادة وحدة سورية.
ثانياً: مع اتضاح أن الأمور متجهة نحو وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، كان من الواضح لدينا أن الخطوة التالية ستكون سورية، بوصفها الخاصرة الضعيفة بفعل الكارثة المستمرة منذ ما يقرب من 14 سنة. بهذا المعنى، فقد كان مطلوباً “إسرائيلياً” وأميركياً، شل المركز السياسي في سورية، بالتوازي مع إشعال كل الجبهات، في الجنوب والشمال الشرقي والشمالي الغربي والوسط، باتجاه فوضى هجينة شاملة، وباتجاه مقتلة جديدة أضخم من كل ما مر، ووصولاً إلى تقسيم سورية نهائياً. وإذا كان هذا الأمر واضحاً لنا كقوة سياسية محلية، فإنه بالتأكيد كان واضحاً أيضاً، وبشكلٍ أكثر تفصيلاً، للقوى الدولية والإقليمية المستهدفة بالمشاريع الأميركية والصهيونية، وبينها بما يخص سورية ثلاثي أستانا، وخاصة روسيا وتركيا. ولذا ليس من المستبعد الافتراض أنه قد تم انتزاع زمام المبادرة من يد “الإسرائيلي” والأميركي، وبطرق غير متوقعة، باتجاه تمرير إنهاء النظام بأيسر الأشكال وأقلها تكلفة، وبما يضع أساساً لاستعادة وحدة سورية بدلاً من تقسيمها.
ثالثاً: بعد أن قام بشار الأسد بآخر خدماته لأعداء سورية عبر الحل العملي للجيش السوري، تم استكمال هذه “الخدمة”، بعمليات القصف الواسع التي قام بها الكيان الصهيوني مدمراً قسماً هائلاً من عتاد الجيش، ومن ثم بعدوان بري توغل من خلاله في محافظة القنيطرة السورية وجبل الشيخ، وصولاً إلى حدود ريف درعا وريف دمشق. ويعبر هذا السلوك ضمناً عن عدم رضا الصهيوني عن الاتجاه الذي تسير وفقه الأمور، وإصراره على محاولة التدخل في صياغتها بالاتجاه الأساسي الذي يريده؛ أي باتجاه التقسيم والحرب الأهلية الداخلية، وهو ما يقوم الشعب السوري بنضال ثابت ضده، برز بين أشكاله وقوف أبناء ريف درعا بصدور عارية في وجه الاحتلال، وهم أنفسهم من المعارضين الذين نكل بهم الأسد سابقاً، واتهمهم بالعمالة والخيانة الوطنية…
رابعاً: ما جرى حتى الآن في سورية هو إسقاط للسلطة وليس إسقاطاً للنظام؛ النظام ما يزال قائماً من حيث جوهره؛ فالتوجه الاقتصادي الذي تعلن عنه السلطة الجديدة ما يزال هو نفسه الاتجاه السابق نحو اللبرلة و”اقتصاد السوق الحر”، وفي الاتجاه الديمقراطي ما يزال الاستئثار وعقلية “الحزب القائد”، هما الأمر السائد حتى اللحظة، إضافة إلى إشارات ورسائل غير مطمئنة بما يخص حريات وحقوق الناس، ويضاف إلى ذلك أن الموقف الوطني، بما في ذلك اللفظي، ما يزال متخبطاً، ويتضمن إشارات شديدة السلبية، بما فيها تلك التي أطلقها قبل أيام محافظ دمشق المعين حديثاً في حديثه مع إذاعة أميركية، والتي اضطر للتراجع عنها تحت ضغط الشارع السوري الذي لم ولن يقبل بالذل الوطني، ولن يتخلى عن موقعه بما يخص ضرورة استعادة أرضه المحتلة، ووقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني.
خامساً: ولأن ما جرى ليس أبعد حتى اللحظة من إسقاط السلطة، كما جرى سابقاً في تونس ومصر، حيث جرى إلى حدٍ بعيدٍ تغيير الطرابيش وإبقاء النظام على حاله، فإن أمام الشعب السوري موجة جديدة من النضال باتجاه امتلاك السلطة الحقيقية على بلاده وثرواته. ورغم ما قد تبدو عليه الصورة لكثيرين من سوداوية انطلاقاً من أن فصيلاً ما يزال مصنفاً تحت قوائم الإرهاب هو من استولى على السلطة، إلَّا أن الوقائع على الأرض أكثر تعقيداً من جهة، ومساحة العمل والنضال السياسي أوسع مما قد يجري تصويره من جهة ثانية؛ يعود ذلك إلى تضافر عدة عوامل، بينها أن سورية أعقد وأكبر من أن يتمكن أي فصيل من الهيمنة عليها، وأيضاً أن الشعب السوري متحفز للحدود القصوى لمنع تكرار الماضي، ومتحفز للعمل السياسي الواسع المنظم، وللمشاركة الفاعلة في تقرير مصيره بنفسه، وهذا ما نعايشه بشكلٍ يومي على الأرض السورية.
سادساً: ضمن النضال العام للشعب السوري، يفتتح حزبنا، حزب الإرادة الشعبية، مرحلة جديدة من العمل التنظيمي والسياسي الواسع النطاق في الشارع السوري، ويتابع بذلك نضاله المستمر منذ ما قبل 2011، ولكن الآن مع أفق أوسع للعمل ومع استعدادٍ أعلى من عموم السوريين للانخراط الجاد في العمل السياسي.
سابعاً: بعد أيام قليلة من فرار بشار الأسد، بدأت محاولات لتفجير السلم الأهلي في عدة أماكن في سورية، ساهم بها تجار الحرب السابقة بمختلف أشكالهم، وبالتأكيد هنالك أيادٍ خارجية على رأسها الصهيوني، تحاول دفع الأمور نحو الدم. تم حتى الآن تطويق التجربة الأولى للتفجير، والعامل الأول في منعه كان وعي السوريين الذي اكتسبوه ودفعوا ثمنه عذابات كبرى ودماء غزيرة، وتوقهم إلى إنهاء الاقتتال. ولكن هذه التجارب ستتكرر، وإغلاق الباب أمامها نهائياً لن يتم إلَّا عبر الدخول سريعاً في المرحلة الانتقالية وفق مخططها العام المنصوص عليه في القرار 2254 الذي يضمن مشاركة واسعة لكل القوى السياسية السورية باتجاه صياغة دستور جديد وبعده انتخابات شاملة يقرر فيها الشعب السوري مصيره بنفسه.
أخيراً: موقع سورية وتموضعها الدولي، ليس ملكاً لمن يجلس على كرسي حكمها، أياً تكن خلفيته؛ تموضع سورية ملك للشعب السوري الذي سيحدد هو في نهاية المطاف، اتجاه السفينة ومرساها.
المصدر: موقع تقدم الكويتي