هل ستصبح مولدوفا هزيمة جديدة لـ«السياسة الزرقاء»؟

هل ستصبح مولدوفا هزيمة جديدة لـ«السياسة الزرقاء»؟

أكد استفتاء مولدوفا الأخير للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتزامن مع الجولة الأولى من انتخاباتها الرئاسية، تراجع نفوذ الغرب على أوروبا الشرقية. فالاستفتاء في هذه الدولة الصغيرة المجاورة لأوكرانيا لم يستطع الانتهاء بنتيجة «نعم» إلّا بشق الأنفس وبأغلبية ضئيلة هي 50.38%، وبفارق 11400 شخص فقط عن المصوِّتين بـ «لا»، رغماً عن كلّ التدخّلات الغربية. كما تزامن مع تقدُّمٍ غير مريح للرئيسة الحالية مايا ساندو الموالية للغرب والخبيرة الاقتصادية السابقة في البنك الدولي بالجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، مما يهدّدها بمعركة صعبة في الجولة الثانية المقرَّرة في الثالث من الشهر المُقبِل.

مولدوفا الدولة الصغيرة السوفييتية السابقة والمجاورة لأوكرانيا هي من بين النقاط في الفضاء المحيط بروسيا التي تأمل سياسة واشنطن وبروكسيل إحراز اختراق أكبر فيها.

وفي استفتاء الانضمام للاتحاد الأوروبي فإنّ أكثر الأمور التي اعتبرها معارضو الانضمام إدانةً لحكومتهم هو أن مئات الآلاف من الناخبين المؤيّدين للانضمام هم أصلاً من المغتربين المولدوفيين الذين يعيشون بالفعل في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى الشكوك حول ما إذا كانت الأصوات تُجمَع في الأراضي المتنازَع عليها في مولدوفا. وهذا يعني أن معظم المقيمين المولدوفيين رفضوا عضوية بلدهم في الاتحاد الأوروبي في الواقع، الأمر الذي اعتُبِر نتيجةً مهينةً للفصيل المهيمن الموالي للغرب من النخبة السياسية في البلاد.

وحتى بالنسبة للانتخابات الرئاسية لمولدوفا التي جرت بالتزامن مع الاستفتاء على الانضمام للاتحاد الأوروبي، ورغم تقدم الرئيسة الحالية مايا ساندو الموالية للغرب بالجولة الأولى بـ41.98% من الأصوات مقابل 26.31% للمرشَّح المنافس لها، ألكسندر سيانوبلو، المؤيّد لعلاقات جيدة مع روسيا، لكنها نتيجةٌ لم تكن مرضيةً لساندو التي كانت تتوقع نسبة أعلى بكثير، فبرّرت ذلك بأنه ناجم عمّا سمّته «الهجوم القذر على الديمقراطية من مجموعات إجرامية... وانتهاكات شابتْ عملية فرز الأصوات» بسحب وصفها، موجهةً أصابع الاتهام إلى روسيا، فيما يبدو استباقاً من ساندو لصعوبات أكبر تتوقّع أن تواجهها في الجولة الثانية من هذه الانتخابات الرئاسية التي ستجري قريباً، في 3 تشرين الثاني المقبل.

وكانت ساندو قد تقدمت فيما مضى أيضاً على مرشحٍ آخر قريب من موسكو في انتخابات 2020، وبعد فوزها طلبت مباشرةً الانضمام للاتحاد الأوروبي وبعد بدء روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا عام 2022، لتبدأ محادثات الانضمام في حزيران من العام الجاري 2024.

وجاءت تصريحات الرئيسة ساندو متناغمة مع تصريحات الاتحاد الأوروبي التي تتهم روسيا بالتدخل غير المسبوق في عملية التصويت الأخيرة في مولدوفا، التي تعتبر من أكثر العمليات السياسية أهميةً في تاريخ البلاد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.

فبحسب بيان مسؤول الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بالنيابة عن الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد: «يدين الاتحاد الأوروبي تدخُّل روسيا الشرّير في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء الدستوري في مولدوفا».

بدورها كانت الولايات المتحدة الأمريكية أكدت في وقت سابق بأنها ستساعد مولدوفا على التصدي لـ«التدخلات الروسية في هذه الانتخابات الرئاسية»، واعتبر البيت الأبيض أنّ روسيا «لم تنجح في تقويض الانتخابات في مولدوفا».

ورداً على ذلك دعت موسكو الرئيسة المولدوفية إلى إثبات ادّعاءاتها بشأن «التدخل الروسي» في الانتخابات، وقالت موسكو إنّ السلطات المولدوفية استخدمت «أساليب شمولية معادية للديمقراطية في الحملة الانتخابية» واتهمت المتحدثةُ باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا الغربَ «بتدخُّلٍ سافر» في العملية الانتخابية.

إن نتائج هذا الصراع السياسي داخل مولدوفا ستنضم إلى التمظهرات الإقليمية الأخرى للصراع بين الناتو وروسيا في أوروبا الشرقية، كنمطٍ أوسع يشير إلى المشاكل التي تواجه واشنطن وبروكسل في محاولاتهم المستميتة لإدامة بؤر الصراع حول روسيا أو افتعال بؤر جديدة، ولا سيّما مع فشل سياستهما في عزل روسيا عالمياً.

 

مشاكل قومية يستغلها الغرب

 

شبّه البعض مولدوفا بلبنان من حيث كونها دولة صغيرة فيها انقسامات عمودية. فهناك تنوع قومي في البلاد بوجود قوميات رومانية ومجرية وتركيّة وغيرها. ويعمل الغرب على إذكاء صراعات تفتيتية على أساسها.

ولدى مولدوفا تاريخٌ إقليمي معقَّد وكانت جزءاً من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية حتى عام 1991. وأكبر مجموعة عرقية في الدولة هم الرومانيون، وغالباً ما تؤيّد المشاعر القومية لدى هذه المجموعة الحجةَ القائلة بأنه ينبغي اعتبار مولدوفا جزءاً من جمهورية رومانيا. وكان الزعماء السياسيون الرومانيون القوميون يرفعون علم تلك الجمهورية بالفعل فوق المباني الحكومية المولدوفية قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، مما أثار ردَّ فعلٍ عنيفاً من الأقليات الرئيسية الأخرى في البلاد.

وكانت هناك انتفاضتان، متزامنتان في الغالب، أسفرتا عن إنشاء دويلات جديدة معلَنة ذاتياً. كانت الأكثر شهرة هي تلك التي قامت على أساسِ قوميةٍ تتحدث السلافية في شرقي البلاد على الحدود مع أوكرانيا، مما أدى إلى تدخل عسكري روسي وإنشاء «ترانسنيستريا» الموالية لروسيا، والتي يبدو أنّ إنشاءها لعب دوراً في عرقلة انضمام مولدوفا لحلف الناتو.

وكذلك حدث تمرّد أصغر من قبل المتحدّثين باللغة التركية في جنوب مولدوفا، مما أدى إلى إنشاء «غاغاوزيا». مع ذلك توصلت الحكومة المولدوفية عبر التفاوض مع الزعماء الانفصاليين إلى ضمان عدم إعلان استقلالهم الكامل، بل الاعتراف بهم كدويلات تتمتع بقدر من الاستقلال السياسي، فلم تحدث أعمال عنف حقيقية منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين في هذا البلد. ولكن السياسة الغربية في محاولات تفجير محيط روسيا قد تحاول حرف الأمور في اتجاهٍ آخر.

 

مواقف داخلية بشأن «السياسة الزرقاء»

 

كان سؤال الاستفتاء المطروح على الورق من الحكومة المولدوفية هو ما إذا كان ينبغي للبلاد تعديل دستورها لجعل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هدفاً رئيسياً. واتخذت بعض الأحزاب التي تستند إلى تعصبٍ للقومية الرومانية موقفاً يقول إنّه إذا تم التحريض ضدّ روسيا فهذا من شأنه تسهيل دمجِ الدولة في الاتحاد الأوروبي، حيث ينظرون إلى الغرب بوصفه «الفرصة التي حُرموا منها طيلة العشرين عاماً الماضية». وعلى خلفية أغلبيتهم الضئيلة، قالوا إنهم سيجرون هذا التغيير على الدستور، ولكنهم تعرّضوا لصدمة كبيرة، وأصبحت المعارضة المولدوفية تشعر بثقةٍ أكبر في قدرتها على إعادة تنظيم صفوفها للسيطرة على البلاد، ضدّ سياسة الموالين للغرب في أوروبا الشرقية التي يُصطلح على تسميتها «السياسة الزرقاء» نسبةً إلى لون علَمَي كلّ من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.