حول «خذلان» إيران لحزب الله!
بمجرد أن بدأت الضربات «الإسرائيلية» بالاشتداد ضد لبنان وضد حزب الله، انطلقت حملة إعلامية واسعة عنوانها الأساسي «تخلي إيران عن حزب الله».
استندت هذه الحملة إلى جملة من الأمور والادعاءات والتحليلات:
- تصريحات مجتزأة للرئيس الإيراني الجديد، وأخرى ملفقة تم نفيها رسمياً من الجانب الإيراني، ومع ذلك ما تزال متداولة.
- الادعاء بأن اتفاقاً أمريكياً إيرانياً حول العودة إلى الاتفاق النووي قد تمت صياغته فعلاً، وأن أحد شروطه هو التخلي عن حزب الله.
- الاستناد إلى كون الرئيس الإيراني الجديد بزشكيان، إصلاحياً وليبرالياً، ويرغب ببناء علاقة مع الغرب، وبالتالي فإنه يُجري تحولاً في مسار السياسة الخارجية الإيرانية منذ استلامه قبل حوالي شهرين.
- القول بأن «إسرائيل» ما كانت لتجرؤ على توسيع عدوانها على لبنان لولا أنها كانت قد ضمنت مسبقاً أن إيران لن تتدخل في المعركة.
أهداف الحملة
سنناقش «الأفكار» السابقة تباعاً ضمن هذه المادة، ولكن قبل ذلك لا بد من تبيان الأهداف الفعلية لهذه الحملة.
يمكن تلخيص أهداف الحملة والمعاني الضمنية التي تحملها، بما يلي:
- خلق شعورٍ مسبق بالهزيمة، عبر تصوير حزب الله معزولاً عن داعمه الأساسي، وبالتالي أضعفَ وأكثر قابلية للهزيمة.
- عبر القول بأن حزب الله قد تم خذلانه من إيران، التشكيك بجدوى جبهة الإسناد والاستنزاف انطلاقاً من لبنان التي يقودها حزب الله، والتشكيك بصحة تقديرات حزب الله السياسية والعسكرية، والتشكيك تالياً بقدرته على خوض المعركة.
- وعبر التشكيك بصحة تقديرات الحزب وبقدرته على خوض المعركة وبجدوى تلك المعركة من الأساس، محاولة تحميله مسؤولية الإجرام «الإسرائيلي» في الداخل اللبناني، سعياً وراء إحداث شرخٍ داخلي كبيرٍ في لبنان يُبنى على الشروخ الموجودة أساساً، ويعززها على أمل إضعاف الحزب من الداخل وصولاً إلى إنهاء جبهة الإسناد عبر الوصول إلى اتفاق منفرد مع «الإسرائيلي» يعزل لبنان عن فلسطين، ويريح الكيان من الاستنزاف المستمر الذي يعيشه.
- استثمار الحملة في محاولة إعادة بث الروح في الفالق السني الشيعي في المنطقة، وهو الفالق الذي تم ردمه بشكلٍ شبه كامل بعد 7 أكتوبر، مع دخول حزب الله والحوثيين وإيران على خط المواجهة بأشكالٍ مباشرة مساندةً لغزة ولحماس ولعموم المقاومة الفلسطينية، ناهيك عن أن عملية ردم هذا الفالق كانت قد خطت خطوتين كبريين قبل ذلك، أولاهما كانت تشكيل ثلاثي أستانا الذي ضم تركيا وإيران إلى جانب روسيا، ومن ثم التسوية السعودية الإيرانية برعاية صينية، وما رافقها من تسويات عربية أخرى مع إيران.
- استخدام الحملة لمحاولة تقليل الضغط الشعبي على الأنظمة العربية وخاصة المطبّعة منها، ومحاولة حرفه باتجاه إيران. وكذلك لمحاولة تقويض المكسب السياسي-الشعبي الذي حققته إيران خلال السنة الماضية ضمن أوساطٍ واسعةٍ من الشعوب العربية، والذي لا ينكره أي مراقبٍ موضوعي.
- ضمن الإحداثيات السورية، ورغم الهامشية النسبية للموضوع، إلا أن الحملة يجري استخدامها لمحاولة استجلاب زخمٍ شعبي للاصطفافات السياسية المنبطحة للغرب والمعادية لمسار أستانا، والتي يدفع باتجاهها المتشددون وتجار الحرب من كل الأطراف السورية، وإنْ تمايز كل منهم بطريقة نفخه في هذه القربة.
حقيقة الأمر
لفهم حقيقة الأمر، وهل خذلت إيران حزب الله فعلاً، لا بد من تبيان الأمور التالية:
أولاً: واهمٌ من يظن أن سياسة إيران العامة يمكنها أن تتغير من رئيسٍ إلى رئيس، سواء كان الانتقال من الإصلاحيين إلى المحافظين أو بالعكس؛ فالسلطة العليا الفعلية في إيران، ووفقاً للدستور الإيراني نفسه، تتمركز حول المرشد و«مجلس تشخيص مصلحة النظام» و«الحرس الثوري الإيراني»، ولذا فإن استنباط استنتاجات كبرى من تصريحات الرئيس الإيراني، خاصة وأنها قابلة للتفسير بعدة طرق، هو أمرٌ لا يمكن الركون إليه في التحليل الجدي.
ثانياً: يمكن أن نقول ما هو أكثر من ذلك؛ فـ«اللعبة الديمقراطية» لثنائية حزب السلطة، التي اخترعها الغرب، ليست حكراً عليه ولا يمكن لأحد سواه أن يلعبها؛ سواء في بريطانيا بين العمال والمحافظين (حيث يبقى مركز السلطة نفسه عند العائلة المالكة أياً يكن الفائز بالانتخابات)، أو في الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين (حيث يبقى مركز السلطة عند أصحاب الفيدرالي والمجمع الصناعي العسكري والشركات العملاقة أياً يكن الفائز بالانتخابات)، أو في غيرهما من الأمثلة... وضمن هذه «اللعبة»، يجري توزيع الأدوار وفقاً لمتطلبات كل مرحلة.
ثالثاً: المتطلب الأساسي بالنسبة لإيران في هذه المرحلة له وجهان أساسيان، داخلي وخارجي؛ كلمة السر في الداخلي هي منع التفجير الداخلي الذي تعمل عليه الولايات المتحدة و«إسرائيل» منذ سنوات طويلة، وأداته الأساسية هي الفوالق القومية من جهة، والفالق بين المحافظة المتشددة وتطلعات الشباب إلى قدرٍ أكبر من التحرر الاجتماعي. ضمن هذه الخريطة، فإن بزشكيان هو أفضل وصفة للتعامل مع هذين الفالقين، فعلاقته جيدة جداً مع عدد مهم من القوميات في إيران، خاصة الكرد والأذر، وكذلك فإنه منفتح على قدرٍ أكبر من التحرر الاجتماعي.
في البعد الخارجي، فإن واحداً من أهم متطلبات إيران، وبالتوازي مع السير قدماً في الاندماج مع بريكس ومع الاقتصادات والدول الصاعدة وعلى رأسها الصين وروسيا، هو محاولة فصل أوروبا في تعاملها مع إيران عن الولايات المتحدة عبر الإصرار على موضوع الاتفاق النووي الإيراني حتى وإنْ كانت احتمالات عودته صفراً، وذلك سعياً وراء تقليص تأثير حجم الضغط الاقتصادي والعقوبات عليها. وفي هذه أيضاً، فإن بزشكيان ومعه ظريف، هما الشخصيتان الأكثر مناسبة على مستوى الطرح الدبلوماسي لتخديم هذا الهدف.
رابعاً: في البعد الخارجي أيضاً، وبما يتعلق بالمعركة الدائرة في فلسطين ولبنان، والتي تشكل جزءاً أساسياً من معركة عالمية شاملة بين نظام دولي قديم يتداعى، وجديد ما يزال في طور الولادة، فإن إيران تحدد موقعها بشكلٍ صارم كجزء من الجديد، وكجزء فاعل في الوصول إليه. آلية الوصول إلى هذا الجديد هي ما عبرت عنه افتتاحية قاسيون الماضية (الضفدع الغربية تُسلق على نارٍ هادئة)، وباختصار، هي عملية الاستنزاف المتواصل طويل الأمد كردٍ على الفوضى الهجينة الشاملة الأمريكية، وعملية الاستنزاف هذه تقوم بالضرورة على منع الحرب الشاملة، وعلى التصعيد المتدرج المتواصل.
خامساً: المحاججة بأن إيران يمكنها أن تتخلى عن حزب الله مقابل العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، أو مقابل رفع العقوبات، هي محاججة أقل ما يقال فيها إنها سخيفة؛ فحتى من وجهة نظرٍ براغماتية بحتة، ما الذي يضمن لإيران ألا تنكث واشنطن بأي اتفاق لاحق كما فعلت سابقاً، ثم هل يتساوى في الثقل الاستراتيجي والأهمية حزب الله ودوره مع اتفاق نووي إيراني ورفع للعقوبات؟! هذا النوع من المحاججات هو نوع مسيس مسبقاً في إطار حرب نفسية شاملة، غالباً ما يعرف مصنعوه الأساسيون (وليس ناقلوه الببغائيون) أنه مجرد هراءٍ لا أساس له.
سادساً: الادعاءات التي تقول بتخلي إيران عن حزب الله، لا تستند إلى أية معطيات حقيقية، اللهم إلا عمليات تأويل خاطئة أو تلفيق لتصريحات إيرانية، أو إلى تحليلات خلبية تقدمها جهات تسعى وراء كل أو بعض الأهداف الستة التي أوردناها سابقاً؛ فلا الدعم السياسي والدبلوماسي توقف أو تراجع، ولا العسكري ولا المالي... إلا إذا كان هؤلاء ينتظرون من إيران أن تشن حرباً شاملة على الكيان رداً على اعتدائه على لبنان... وهذا الأمر ليس وارداً بالضبط لأنه يتناقض مع استراتيجية «سلق الضفدع»، ويصب في مصلحة القطب المعادي الأمريكي- «الإسرائيلي»؛ وهذه الاستراتيجية نفسها تظهر من سلوك حزب الله نفسه، الذي ما يزال يعمل بثباتٍ انفعاليٍ عالٍ جداً، وبطريقة مضبوطة ومتزنة ومقتدرة، ويقوم بالتصعيد أولاً بأول وبشكل تدريجي محسوب، بحيث يحافظ على الترابط ويقويه بين غزة والجبهة اللبنانية، وبحيث يسد الذرائع وينتزع فتائل التفجير التي يجري العمل عليها في الداخل اللبناني، وبحيث يشدد عملية استنزاف الكيان ومعه داعموه.
أخيراً: فإن من يعتقد أن دخول نتنياهو الجبهة اللبنانية بقدرٍ أوسع مما كان عليه الأمر خلال 11 شهراً مضى، هو جرأة وإقدام ما كان ليفعله لولا اطمئنانه لعدم وجود رد إيراني، إنما يقلب حقائق الأمور؛ فنتنياهو فعلياً يتوسل ذلك الرد الواسع ويتمناه، لأنه بات مخرجاً أساسياً له من أزمته التي تواصل التعمق. وخروجه نحو الساحة اللبنانية، هو في حقيقة الأمر هروب إلى الأمام، مع انسداد الآفاق المتعاظم في غزة وفي الضفة التي كانت هي الأخرى هروباً من غزة وعدم القدرة على تحقيق أي من الأهداف المعلنة فيها...