دول الشرق والبنية التحتية للتوجّه شرقاً

دول الشرق والبنية التحتية للتوجّه شرقاً

أنهى رئيس الوزراء الروسي زيارته الثانية إلى الصين لهذا العام، والتقى هناك بالرئيس شي جين بينغ وتحدث الطرفان بإسهاب عن العلاقات الثنائية للبلدين وحجم الإنجازات التي تحققت في مجالات التعاون الاستراتيجي، ما يعيد طرح مسألة «توجّه روسيا شرقاً» وأين وصلت هذه العملية التي فرضها الواقع بعد أن كانت الحظوة للغرب في كثير من المجالات الاستراتيجية لعقود مضت.

عند قراءة تطور العلاقات الثنائية الروسية-الصينية منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي يبدو واضحاً أن كلا البلدين كانا يدركان مبكراً أهمية تطوير مجالات التعاون المشترك، وخصوصاً بعد اتضاح أن التنمية الحقيقية الملحة في كلا البلدين ترتبط بشكلٍ أساسي بضرورة إعادة النظر بالعلاقات التي يمكن بناؤها وتطويرها، وكيفية إصلاح الخلل البنيوي الذي تطور في روسيا بعد عملية النهب التاريخية بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي، وكل ما رافق ذلك من نشوء طغمٍ ماليةٍ مرتبطةٍ بالغرب، وتعتاش على دور الوساطة في نقل هذه الثروات إلى الخارج. فعملية القطع مع الغرب واعتماد «التوجه شرقاً» وبالرغم من كونه كان حاضراً بشكل من الأشكال في الخطاب الرسمي الروسي، إلا أنه ظل تحت ضغط شديد من قبل فئات وازنة في جهاز الدولة عملت في الواقع في اتجاه مخالف تماماً، ولكن تطور الأحداث وتحديداً خلال العقد الماضي وضعت روسيا أمام مسألة مصيرية، وخصوصاً مع اشتداد الأزمة الرأسمالية العميقة والهجمة الغربية المرافقة لها التي باتت ترى في تفكيك روسيا وإحراقها هدفاً استراتيجياً. من هنا تحديداً وجدت هذه الأخيرة نفسها منذ 2014 أمام استحقاقات جدّية بدأت تحوّل كل الشعارات حول ضرورة بناء علاقات استراتيجية متكاملة مع الشرق والصين تحديداً من شعارات سياسية عامة إلى سياسة ملموسة مع خطوات عملية.


أرقام جديدة فاقت التوقعات!

من بكين، صرّح رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ ما يقرب من 18 تريليون روبل، أو 1.5 تريليون يوان صيني ليكون بذلك قد نجح البلدان في تحقيق الهدف الذي حدده الرئيس بوتين ونظيره الصيني في الوصول إلى تبادل تجاري يقدر بـ 200 مليار دولار. لكن ما يثير الانتباه في هذا الإعلان هو أن الأرقام التي يجري الحديث حولها كانت هدفاً ثنائياً يفترض تحقيقه في عام 2024، لكن، وبحسب جريدة نيويورك تايمز «لعبت الحرب الروسية في أوكرانيا دوراً في تسريع هذه العملية بشكلٍ كبير» حتى تم إنجازها قبل الوقت المحدد، إذ ارتفعت صادرات الصين إلى روسيا بنسبة 69% في الأشهر الـ11 الأولى من هذا العام مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021.

في الحقيقة يبدو دور الحرب الروسية في أوكرانيا الذي تقدمه الجريدة الأمريكية كتفسير لهذا التطور السريع دوراً شكلياً، فالحرب لم تكن السبب الجوهري لهذا التسارع، فما جرى في الواقع هو أن روسيا بدأت تقع تحت ضغط العقوبات الغربية منذ 2014 وما إن بدأت الحرب حتى ازدادت وتيرتها واستهدفت الطرق الأساسية للتبادل التجاري الروسي-الغربي، ومع فرض الحزمة الثانية عشرة من العقوبات على روسيا مؤخراً كانت الصين وغيرها من دول آسيا الصاعدة وجهة طبيعية للبضائع الروسية، وتحديداً خامات الطاقة، بعد تقييد وصولها إلى وجهاتها الغربية التقليدية. وهنا بالتحديد ينبغي الوقوف قليلاً.

«البنية التحتية» للتوجّه شرقاً

من خلال تتبع الأحداث منذ عام 2014 تحديداً يمكننا أن نلحظ بعض المسائل الأساسية مثل إنشاء روسيا وقتها نظام خاص للمراسلات المصرفية بديلاً عن نظام SWIFT العالمي الذي تسيطر عليه واشنطن، ويمكن عرض هذه التجربة كمثال على حجم التحول المطلوب في روسيا (موضوعنا الأساسي) لبناء علاقات تجارية مستقلة بعيداً عن الهيمنة الغربية، إذ طرحت موسكو SPFS ليكون نظاماً وطنياً خاصاً قادر على لعب دور صمام أمانٍ احتياطي لإتمام المبادلات المالية بعيداً عن رقابة واشنطن وعقوباتها، وأجرت روسيا بالفعل أول عملية عبر هذا النظام في عام 2017، فرغم كون الأرضية التكنيكية الأساسية قد جرى إنجازها بالفعل ظل تحولها إلى واقع مسألة مرهونة بالكثير من الاعتبارات السياسية والمالية المصرفية، إذ كانت روسيا تحتل المرتبة الثانية من بعد الولايات المتحدة الأمريكية ضمن SWIFT من حيث عدد المستخدمين، واحتلت المرتبة السادسة عالمياً في رسائل الدفعات عبره، وفي عام 2022، أعلن البنك المركزي الروسي، انضمام 70 مصرفاً أجنبياً من 12 دولة إلى نظام التعاملات الجديد وحافظت موسكو على سرية بيانات هذه البنوك درءاً للتبعات التي قد تترتب على مستخدميه، لكنها أعلنت أن إجمالي المؤسسات المالية التي تتعامل مع SPFS قد بلغت 400 مؤسسة مالية، ومع ذلك لم يسهم هذا النظام في عام 2022 سوى في 20% من التحويلات المحلية، من جانب آخر يبدو أن هناك حصة لا يمكن حصرها بعد لأنظمة أخرى بديلة عن SWIFT كتلك التي جرى تفعيلها وتطويرها في الصين مثل CIPS الذي يتعامل مع 1,452 مصرفاً أو مؤسسة مالية (منهم 1,015 في آسيا) وينتشر في 185 دولة، أو نظام SFMS الذي طورته الهند، أو النظام المشابه الإيراني.


على السكة الصحيحة

حجم المهام المطلوب إنجازها في هذا الخصوص لا تزال كثيرة ومتنوعة، ويمكن الحديث عن أمثلة أخرى متعددة مثل طرق النقل البري وأنابيب نقل النفط والغاز كتلك التي يجري تطويرها وبناؤها بين روسيا والصين منذ سنوات، كل ذلك أصبح مسألة ملحة لا تقبل التأجيل، وأصبح السلوك الأمريكي في السنوات الأخيرة وسياسة فرض العقوبات عامل أساسي في تسريع كل هذه العمليات، وتحديداً كونها أصبحت إحدى أولويات الأمن الوطني الأساسية لكل هذه البلدان، فاليوم، انتقل مركز وثقل النمو العالمي إلى الشرق، وأصبح التعويل على ربط متطور بين بلدانه مسألة مجدية وأساسية في عملية التنمية الضرورية التي تشهدها هذه الدول في الشرق، التي أصبحت معنية قبل غيرها في شعار «التوجه شرقاً» وبات إنجاز البنية التحتية الضرورية لهذا التوجه عاملاً حاسماً في نجاحه، والقضية الأخرى أن الشرق كمفهوم اقتصادي وسياسي مرهون أيضاً بتخليص أركانه الأساسية وتحريرها من التبعية إلى الغرب، فإنجاز مهمة توجّه روسيا شرقاً مثلاً لا يرتبط بحاجات روسيا الوطنية فحسب، بل يرتبط في الوقت نفسه بمصالح دول الشرق الأساسية الأخرى، فروسيا تشكّل وزناً اقتصادياً من حيث الإمكانيات والتكنولوجيا والثروات لا يمكن الاستغناء عنه في بناء مشروع متكامل كهذا وخصوصاً مع ضرورة الدفاع عنه وما يحتاجه هذا من إمكانيات عسكرية تستطيع روسيا تأمين جزء أساسي منها، لذلك يصبح تحويل هذا الشعار إلى واقع يحتاج إلى معارك سياسية كبرى، وفي الداخل بشكلٍ خاص، لتخليصها من «أوهام العلاقة مع الغرب» تلك التي نتجت بعد عقود من مصالح عبّرت عن نفسها داخل القرار السياسي الروسي لوقتٍ طويل.