رئيس الأرجنتين يغمد منشاره: هكذا اصطدم «الرأسمالي الفوضوي» بالحقائق والتوازنات

رئيس الأرجنتين يغمد منشاره: هكذا اصطدم «الرأسمالي الفوضوي» بالحقائق والتوازنات

في العاصمة بوينس آيرس، تم تنصيب الرئيس الأرجنتيني الجديد، خافيير ميلي، الليبرالي الذي آثر الظهور دائماً مع منشار بيده (كإشارة إلى أنه جاء ليتخلص من الجهاز الحكومي المتضخم وما يسميها بالطبقة السياسية). لكن على ما يبدو، فإن التوازنات أجبرت ميلي على تأجيل تنفيذ جوهر خطته الانتخابية: حل البنك المركزي والتخلي عن البيزو.

في 10 كانون الأول الجاري، أدى خافيير ميلي، أول رئيس ليبرالي من نوعه في تاريخ الأرجنتين، اليمين الدستورية. وبعد أدائه اليمين، ألقى خطاباً أمام المؤيدين المجتمعين. وأعلن أنه سيبدأ في «إعادة بناء البلاد»، مشيراً إلى أن ما وصفها بالإصلاحات ستكون «صادمة». وقال: «لم تتلق أية حكومة إرثاً أسوأ مما تلقيناه نحن». وأضاف أن معظم الإصلاحات «التدريجية» لم تحقق النتائج المرجوة لكن معظم الإصلاحات «الصادمة» نجحت. وحذر من أن البلاد ستواجه الركود التضخمي (ظاهرة تجمع بين ثلاثة عوامل: النمو الاقتصادي الضعيف أو غير الموجود أصلاً، والتضخم المرتفع، والبطالة)، لكنها ستكون «كأس المر الأخير» التي ستكون بداية لإعادة بناء الأرجنتين حسب وصفه.

الرئيس «المجنون» يعتلي سدة الحكم

كان فوز ميلي في الانتخابات الرئاسية الخريفية في الأرجنتين حدثاً عالمياً مثيراً. فالسياسي الشهير، الذي يصف نفسه بأنه أناركي (فوضوي) - رأسمالي، اشتهر بخطبه «الجريئة» في البرامج التلفزيونية، حيث انتقد بشدة النهج البيروني الأرجنتيني (نسبة إلى الحاكم الأرجنتيني التاريخي خوان بيرون، والذي أسس لمنهج يقوم على العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي والسيادة السياسية)، ودعا إلى تطبيق وصفات «جذرية» لإنقاذ الاقتصاد الأرجنتيني، الذي يعاني من التضخم ثلاثي الأرقام: على سبيل المثال، اقترح ميلي استبدال البيزو الأرجنتيني عبر إحلال الدولار الأمريكي بدلاً منه، وإغلاق البنك المركزي، وتقليص الإنفاق الحكومي بنسبة 40%. وقد وجد حماسه صدى لدى الناخبين الأرجنتينيين: فبعد خسارته بفارق ضئيل أمام مرشح الائتلاف الحاكم وزير الاقتصاد، سيرجيو ماسا، في الجولة الأولى، حقق ميلي فوزاً حاسماً في الجولة الثانية، حيث حصل على 56% من الأصوات.

لكن خلال الأيام العشرين الأولى التي انقضت منذ فوزه في الانتخابات، تحوّل ميلي من «الجذرية» إلى البراغماتية. وقد تناولت الصحافة الأرجنتينية كيف يتعامل ميلي مع برنامجه الانتخابي وأي من وعوده الانتخابية قرر البدء بها وأي منها ينوي تأجيلها على ما يبدو:

أولاً: تقليص الوزارات

كان واحد من الوعود الانتخابية الرئيسية لميلي هو تقليص الإنفاق الحكومي بنسبة 40%، بما في ذلك من خلال تقليص عدد الوزارات. وفي التجمعات الانتخابية، غالباً ما ظهر ميلي مع منشار بيده، كإشارة لعزمه على التخلص من الجهاز الحكومي المتضخم و«الطبقة السياسية»، وفي مقطع فيديو انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، ظهر بشكل حازم وهو يمزق أسماء «الوزارات الزائدة»: مثل وزارة السياحة والرياضة، والثقافة، والبيئة والتنمية المستدامة، وشؤون المرأة.

وعد ميلي الناخبين بأنه سيقلل عدد الوزارات من 18 إلى 8، وقد أوفى بوعده. في 6 كانون الأول الجاري، أعلن الرئيس المنتخب تشكيل الحكومة الجديدة: وزارة الأمن، والخارجية، والداخلية، والدفاع، والاقتصاد، والعدل، بالإضافة إلى وزارتين جديدتين: وزارة رأس المال البشري ووزارة البنية التحتية التي دمجت عدة وزارات ودوائر سابقة.

ثانياً: إغلاق البنك المركزي والتخلي عن البيزو

يبدو أن ميلي قرّر عدم التسرع في إجراء التحولات التي كان يتحدث عنها: إغلاق البنك المركزي والتخلي عن البيزو. ورغم أنه لم يتخل تماماً عن هذه الخطط، لكنه أكد أن أحداً «لم يقل إن إلغاء البنك المركزي سيكون فورياً».
وبعد فوزه في الانتخابات، اختفى مستشاروه الاقتصاديون، بما في ذلك «خبير دولرة الاقتصاد الأرجنتيني» إميليو أوكامبو، واستُبدل بهم خبراء اقتصاديين «أكثر اعتدالاً» وهم ذاتهم الذين عملوا في حكومة الرئيس ماوريسيو ماكري (2015-2019)، سانتياغو باوسيلي، الذي اختاره ميلي ليكون رئيس البنك المركزي، ولويس كابوتو، الذي تولى حقيبة وزارة الاقتصاد. وقد قرّر الأخير، وفقاً لوكالة بلومبرغ، جعل الانتقال إلى الدولار مهمته «متوسطة الأجل»، مع التركيز أولاً على تحقيق فائض الميزانية الإيجابي في عام 2024.

ثالثاً: «تحسين» جهاز الدولة الاقتصادي

خلال الحملة الانتخابية، وصف ميلي جهاز الدولة الاقتصادي أيضاً بأنه «ورم سرطاني» يجب استئصاله. حيث ارتفع التوظيف في قطاع الدولة بنسبة 34% من 2011 إلى 2022، بينما في القطاع الخاص في الفترة نفسها - فقط بنسبة 3%. وبدوره، أدى ذلك وفقاً لحجج ميلي إلى عجز مزمن في الميزانية يزيد عن 4% من الناتج المحلي الإجمالي، رغم أن معدلات الضرائب مرتفعة نسبياً في البلاد مقارنةً بدول أمريكا اللاتينية الأخرى.

لحل هذه «المشكلة»، اقترح ميلي - بالإضافة إلى إلغاء حوالي نصف الوزارات - خصخصة الشركات الحكومية في مختلف المجالات، من الطاقة والنقل إلى الإعلام. بالإضافة إلى ذلك، يخطط الرئيس الجديد لتقليص النفقات الحكومية بشكل كبير على مختلف مشاريع البناء والبنية التحتية التي بدأتها الحكومة السابقة.

كل هذا أثار خوفاً بين الموظفين الحكوميين وموظفي الشركات الحكومية من الإقالات الجماعية، حيث تستعد النقابات والمنظمات العمالية لمواجهة الرئيس الجديد في الشوارع. لهذا، يبدو أن ميلي - مدركاً لخطر الاحتجاجات الجماعية - قرر التخفيف من لهجته واعترف بأن الانتقال من حوالي 20 عاماً من حكم البيرونيين إلى رؤيته الخاصة للرأسمالية «قد يستغرق وقتاً أطول مما كان يتوقع».

رابعاً: الانسحاب من عضوية البريكس وقطع العلاقات مع الصين

خلال السباق الرئاسي، انتقد ميلي الصين مراراً وتكراراً، واصفاً الحزب الشيوعي الصيني بـ«القاتل المأجور» زاعماً عدم وجود حريات لدى الشعب الصيني. وفي مقابلة مع الصحفي الأمريكي، تاكر كارلسون، وعد ميلي بـ«عدم إجراء أي صفقات مع الشيوعيين»، الذين يشملون أيضاً البرازيل المجاورة.

لكن بعد فوزه في الانتخابات، غيّر ميلي نبرته، وشكر الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على رسالة التهنئة التي أرسلها له. والآن، يقول ميلي إنه لن يخطط لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الصين، «بل لتقليصها فقط»، جازماً أن هذا لن يؤثر على التعاون في القطاع الخاص. (تربط صحف أرجنتينية تغيّر نهج ميلي بحقيقة أن الصين هي المشتري الرئيسي لفول الصويا الأرجنتيني الذي يمثل حوالي ثلث إجمالي صادرات البلاد)، وأن الأرجنتين هي ثالث أكبر دولة في أمريكا الجنوبية تتلقى قروضاً من البنوك الصينية الحكومية. وبالإضافة إلى ذلك، خلال الحكومة السابقة، أصبحت الأرجنتين عضواً في البنك الآسيوي للتنمية، وانضمت إلى مبادرة «الحزام والطريق» واتفقت على التجارة باليوان، بينما بدأ الصينيون في الاستثمار المباشر في اقتصاد عدة مقاطعات أرجنتينية.
وخفّف ميلي أيضاً من نبرته تجاه البرازيل، ودعا رئيس البلاد، لولا دا سيلفا، إلى حضور حفل تنصيبه (رغم أن الأخير قرر عدم الحضور). وتحدث ميلي أيضاً هاتفياً مع البابا فرانسيس، رغم أنه سابقاً وصف البابا المولود في بوينس آيرس بـ«الأحمق» و«ممثل الشر على الأرض».

كما كان من بين الوعود الانتخابية لميلي سحب طلب الأرجنتين في البريكس، الذي قدمته الحكومة السابقة (وكان من المفترض أن تصبح البلاد عضواً في المنظمة بحلول 1 كانون الثاني 2024). والآن، يبدو أن الرئيس الصيني يخوض محاولات لإقناع ميلي بغير ذلك.

خامساً: التقارب مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني

خلال حملته الانتخابية، تحدث ميلي مراراً وتكراراً عن رؤيته للولايات المتحدة و«إسرائيل» كحلفاء جدد للأرجنتين. لذا، لم يكن مفاجئاً أن يقوم بأول زيارة خارجية له بعد انتخابه - وقبل حفل التنصيب - إلى الولايات المتحدة. هناك، التقى ميلي بالرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون (لكنه لم يستطع أن يلتقي بدونالد ترامب، الذي أعرب الرئيس الأرجنتيني عن تعاطفه معه دائماً خلال السباق الرئاسي). كما عقد فريق الرئيس المنتخب اجتماعات مع مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، ومسؤولين كبار في وزارة الخارجية ووزارة الخزانة الأمريكية، وكذلك مع رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجييفا، حيث ناقشوا إعادة هيكلة قرض بقيمة 43 مليار دولار.

وأعلن ميلي سابقاً عن خطط لنقل سفارة الأرجنتين من تل أبيب إلى القدس خلافاً لموقف المجتمع الدولي ورغبته في زيارة الكيان، لكن الرحلة لم تحدث قبل التنصيب. وفي هذا السياق، عين ميلي السياسي رودولفو بارا رئيساً لوزارة العدل، وكان ترك هذا المنصب سابقاً في عام 1996 بعد أن تبين أنه كان عضواً في مجموعة معادية للسامية في سن المراهقة. وقد أثار تعيين بارا استياء المنظمات اليهودية في الأرجنتين، وقد يؤثر سلباً على العلاقات مع الكيان.