أزمة الكيان الصهيوني تتجه لمزيد من التفاقم
بعد نحو ثلاثة أشهر من الأزمة المستجدة التي اجتاحت كيان الاحتلال الصهيوني ومؤسساته المدنية والعسكرية، والضغوط الأمريكية العلنية والخفية بما فيها ما ظهر من علامات لتدخّل مباشر من واشنطن بتنظيم الاحتجاجات في «إسرائيل» خوفاً عليها من نفسها، اضطر نتنياهو أخيراً إلى «تأجيل» المضيّ قدماً بمشروع التعديلات القضائية على أنْ يعود إلى استئنافه بعد نهاية «الأعياد اليهودية» في نيسان أو ربما في الصيف، بحسب اتفاق مع المتشدّدين الآخرين في ائتلافه الحكومي ولا سيّما إيتمار بن غفير الذي أخذ تعهّداً من نتنياهو بأن يسمح له بقيادة العصابة الصهيونية المسلّحة المسمّاة «الحرس الوطني» الذي يعني من جهة، تصعيداً محتملاً لاعتداءات الاحتلال على الفلسطينيين وبالتالي تصعيد ردود المقاومة، ومن جهة ثانية يتّجه لتعميق أكثر للشّرخ بين ميليشيات الاحتلال وزيادة احتمال صدام دموي فيما بينها، وخاصةً مع تصاعد الخلاف بين نتنياهو وبايدن.
تدحرج انفجار الأزمة العميقة غير المسبوقة داخل الكيان الصهيوني، لتصل مستويات عالية خلال الأيام القليلة الماضية، إلى درجة التهديد بإضراب وعصيان شامل والبدء بتنفيذه بالفعل، في كامل مؤسسات «إسرائيل» بأذرعها «المدنية» النقابية والصحية والتعليمية وغيرها، فضلاً عن العصيان الجزئي في مؤسسة جيش الاحتلال، والذي قُرِعَ بشأنه جرس الإنذار من قبل كثير من مسؤولي الكيان ومسؤولين أمريكيين بأنّ استمراره يشكل خطراً وجودياً مميتاً على قوة «الردع» لدى «إسرائيل».
حتى أنّ رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، وجّه رسالة علنية يوم الإثنين 27 آذار 2023 إلى «قادة الجيش وجنوده النظاميين والاحتياطيين» قال فيها «إنّ المجتمع الإسرائيلي يشهد أيامًا معقدَّة، من كل جهة ومن كل اتجاه، يستحيل عدم الشعور بالقلق إزاء ما يجري». وأضاف أنّ الفترة الحالية «تختلف عن كلّ ما عهدناه سابقًا حيث لم نواجه مثل هذه الأيام التي تجتمع فيها التهديدات الخارجية مع العاصفة الداخلية».
حدث هذا بعد الحدث الذي شكلّ ذروة الموجة الحالية من أزمة الكيان، وهو إقالة نتنياهو لوزير الحرب يوآف غالانت من منصبه (مساء الأحد 26 آذار) بعد تصريحات هذا الأخير التي أكد فيها رفضه للتعديلات القضائية، وكان نتنياهو يفكر باستبدال غالانت ليحلّ محله وزير الزراعة ورئيس الشاباك السابق آفي ديختر، الذي أفادت التقارير بأنه مؤيد أيضاً لتعليق حملة التعديلات القضائية لكنه تعهد يوم الأحد بالتصويت لصالحها.
وقبل ذلك كان وصل عدد المتظاهرين ضد حكومة نتنياهو (مساء السبت 25 آذار) إلى 200 ألف شخص، وبعد إقالة غالانت صرّح نفتالي بينيت (الإثنين 27 آذار) بأنّ «إسرائيل» تواجه أكبر خطر منذ حرب أوكتوبر 1973، فيما أصدر رئيس المعارضة يائير لابيد ووزير «الجيش» السابق بيني غانتس بياناً مشتركاً تعقيباً على إقالة غالانت قالا فيه إن نتنياهو «تجاوز الخط الأحمر»، وقدّم القنصل العام «الإسرائيلي» في نيويورك آساف زمير استقالته. بينما نقلت وسائل إعلام الاحتلال عن موظفين كبار في الإدارة الأميركية قولهم: «نحن قلقون جداً من الوضع ومن إقالة غالانت» وأضافوا «هذه ليست هي السيطرة على المِقوَد التي وعَدَنا بها نتنياهو».
واحتشد مئات المتظاهرين مقابل منزل نتنياهو في القدس المحتلة ووصلوا إلى مدخل بيته في حادث غير مسبوق خلال الاحتجاجات. بينما تظاهر الآلاف في «تل أبيب» وقطعوا طريق «أيالون» أمام حركة المرور. ومع نزول متظاهرين من مؤيّدي نتنياهو وبن غفير كاد الوضع يتطور إلى صدامات مباشرة بين «الشارعين» فيما حذّر مسؤولون من «صراع الأخوة» الذي ربّما يؤدي إلى سفك دم الصهاينة لدماء بعضهم البعض.
على أثر هذه الضغوط قرّر نتنياهو تعليق طرح التصويت على التعديلات القضائية، علماً أنّ هذه الخطوة لم تكن لتمرّ دون موافقة أحزاب الائتلاف الحاكم، التي من أبرزها «الصهيونية الدينية» بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وحزب «قوة يهودية» بقيادة إيتمار بن غفير.
وقال بن غفير، وهو وزير ما يسمى «الأمن القومي»، في بيان له: «وافقت على تأجيل التصويت على خطة الإصلاح مقابل تعهد نتنياهو بالمصادقة عليها بعد الأعياد».
وفي مقابل موافقته على تأجيل تمرير التعديلات القضائية، حصل بن غفير - بحسب البيان - على التزام من رئيس الحكومة نتنياهو على تشكيل ما يسمى «الحرس القومي». مما يجعل السؤال مشروعاً حول هل سنشهد مزيداً من الصدام تصطف فيه «ميليشيا الحرس» والشارع المؤيّد لمشروع التعديلات القضائية من جهة، ضد الشارع «الإسرائيلي الآخر» من جهة أخرى؟ وكيف سيتصرّف جيش الاحتلال إزاء ذلك وهو الذي بدأ الانقسام يشقّ طريقه إلى صفوفه أصلاً.
تصاعد التوتّر بين نتنياهو وبايدن
مساء الأربعاء (29 آذار) بات واضحاً بأنّ مجرّد «تعليق» أو «تأجيل» مشروع نتنياهو بخصوص التعديلات القضائية، لم يجعل البيت الأبيض يطمئن على الإطلاق، حيث يبدو أنّ بايدن يريد تراجعاً كاملاً عنها، وأصدر تصريحاً بمثابة «إهانة علنية» لنتنياهو حيث قال: «لن أدعوه إلى زيارة واشنطن، ولا يمكن لإسرائيل الاستمرار بالوضع الحالي». وقال بايدن في حديث مع الصحافيين إنه يأمل أنّ يتمكن السياسيون في «إسرائيل» من إيجاد تسوية بشأن التعديلات القضائية، زاعماً في الوقت نفسه بأنّ «الولايات المتحدة لا تريد التدخل في السياسة الداخلية لإسرائيل»، وهو الزعم الذي يكافئ القول بأنّ واشنطن «لا تريد التدخّل» بأهمّ ثكنة عسكرية لها في الشرق الأوسط! وهي تشاهدها تنزلق إلى أخطر أزمة وجودية في تاريخها، وضمن تغيرات عاصفة عالمية وإقليمية تلحق بهيمنة واشنطن الهزيمة تلو الأخرى.
وبالتزامن بادر رئيس كيان الاحتلال إسحق هرتسوغ بمحاولة «لمّ الشمل» ودعا أحزاب «المعارضة الإسرائيلية» للاجتماع الأول في منزله ونتج عنه دعوة إلى الائتلاف الحكومي «بالتصرف بمسؤولية».
ولم يتأخّر نتنياهو بأن صرّح، فيما يبدو رداً على بايدن، فقال: «إسرائيل دولة ذات سيادة ولا تتخذ قراراتها بناء على الضغوط من الخارج».
بالمحصلة فإنّ هذا الصراع يضعف الكيان الصهيوني وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، مما يسمح بفرصة مهمّة للقوى الوطنية والمقاوِمة في فلسطين المحتلة ولقوى الشعوب في المنطقة عموماً، لكي تحقق مصالحها وتوجّه ضربات للكيان. كما أنّ هذه التطورات تجعل حلّ القضايا والأزمات العالقة لبلدان المنطقة تصبح أقرب موضوعياً.