هل يُنقِذُ توسيعُ الاستيطان «إسرائيل» أم يعمّق أزمتها؟

هل يُنقِذُ توسيعُ الاستيطان «إسرائيل» أم يعمّق أزمتها؟

أعلنت حكومة الاحتلال الجديدة بقيادة بنيامين نتنياهو وبن غفير ذات التركيبة الأشدّ تهوّراً وإجراماً، توسيعَ الاستيطان في رأس أولوياتها، بما في ذلك عودة المستوطنين لمستعمرات أخليت منذ 2005، وخاصةً شمالي الضفة. فإذا كانت مقاومة الشعب الفلسطيني بكل أشكالها وخاصةً العمليات الفدائية، قد تصاعدت عام 2022 لمستويات نوعية وغير مسبوقة منذ سنوات، وإذا كان الاحتلال يواصل تخبّطه من فشل أمني إلى آخر في حماية مستوطنيه وثكناته من عمليات المقاومة، لدرجة ظهور دعوات «الهجرة العكسية» لمستوطنين يريدون الهرب من «إسرائيل» بالآلاف، وإذا كان الاحتلال لا ينجح سوى بارتكاب مزيد من الجرائم وقتل الأطفال والعزّل، ويفشل في إنهاء «أمواج» المقاومة بعمليته «كاسر الأمواج» التي طالت إخفاقاتها وباتت محلّ سخرية في الأوساط «الإسرائيلية» نفسها – فهل يتوقّع نتنياهو وحلفاؤه نتيجةً مختلفةً عن «انقلاب السحر على الساحر» إذا هم رفعوا مستوى استفزاز الفلسطينيين باستيطان أوسع وهروب إلى «الأمام»؟

يبدو أنّ جزءاً من تفسير هذا الاندفاع المتجدّد من نتنياهو وتحالفه لتوسيع وتسريع الاستيطان وقضم الأراضي، ينبع لا من موقع قوّة، بل من موقع ضعف وإحساس بدنوّ انعكاسات مضادة لمصلحة كيان الاحتلال من جرّاء الأحداث والتطوّرات العاصفة في علاقات القوة على المستوى الدولي والإقليمي والمحلّي، فيظنون بأنهم إذا سرّعوا ووسّعوا الاستيطان قد يحسّن هذا موقعهم أو على الأقل يؤخّر من تفاقم مشكلاتهم وتراجعهم التاريخي وأزمتهم، في حين أن الحقائق الموضوعية تشير إلى عكس ذلك، عندما نقرؤها من منظور أنّ كلّ جريمة إضافية يرتكبها هذا الكيان هي خطوة تزيد هروبه «للأمام» أيْ «للأسفل» نظراً لأنّ أزمته وأزمة الحركة الصهيونية العالمية جزء صميميّ من أزمة الإمبريالية وموت الأحادية القطبية الأمريكية مقابل صعود عالمٍ أكثر عدالة للشعوب وبالتالي لكلّ حركات التحرّر الوطني لهذه الشعوب، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.

«التشريعات» و«التعديلات» الاستعمارية التي في جعبة حكومة الاحتلال الجديدة تعتبر مفصلية لأحزاب كتحالف «الصهيونية الدينية» وحزب «قوة يهودية» لتوسيع المشروع الاستيطاني. علماً بأنّ عدد الوحدات الاستيطانية الجديدة التي تمت «المصادقة» عليها سلفاً نهاية تشرين الأول/أوكتوبر 2022 قد تجاوز بالفعل 13 ألف وحدة جديدة، إلى جانب التصعيد الصهيوني الأوسع والأشد عدوانية من حيث الاعتداء على الفلسطينيين وأرضهم وممتلكاتهم، حيث تم تسجيل أكثر من 840 اعتداءً، أيْ نحو ضعف اعتداءات العام 2021. كما فاق عدد مقتحمي المسجد الأقصى 48200 مستوطِن في 2022 بزيادة أكثر من 41% عن العام الذي سبقه.

وبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هدمت سلطات الاحتلال في عام 2022 نحو 140 منزلاً ومنشأة فلسطينية في القدس المحتلة خلال العام، ما أدى إلى تهجير 325 فلسطينياً من منازلهم، وتضرّر نحو 621 آخرين.

ويعتزم المجرم الصهيوني المتطرّف، إيتمار بن غفير، الذي تسلّم منصب وزارة ما يسمى «الأمن القومي»، طرح قانون لتشديد عقوبة مهاجمة المستوطنات لتصل إلى 3 سنوات من السجن الفعلي، وجرى الاتفاق بين بن غفير ونتنياهو على منح ميزانية 45 مليار شيكل على مدار 7 سنوات لهذه الغاية. 

الديمغرافيا ليست في صالح المحتلّين

رغم كلّ تعزيزات الاحتلال الأمنية ونمط الحياة المشوّه والمريض اجتماعياً ونفسياً الذي اختارته سلطاته ومستوطنوه، بمحاصرة الفلسطينيين ومحاصرة أنفسهم بالذات وراء الأسوار الفاصلة والحواجز العسكرية «الأبدية»، فلم ولن يقدّم لهم ذلك أيّ منعة من تعرّضهم لعمليات المقاومة، ولن يحميهم من الردود العادلة والمحقّة والمتكرّرة للشعب الفلسطيني ضدّ الظلم والاحتلال، عسكرياً وسياسياً، ومن الحجر والسكين إلى الرصاص والصواريخ. ولعلّ المشكلة المزمنة التي أكثر ما تقضّ مضجع «الإسرائيليين»، هؤلاء الفئة البشرية القليلة التي تجسّد أسوأ مفرزات الانحطاط الإنساني والفاشي في التاريخ، التي أنجبتها الرأسمالية والصهيونية – هي تلك المعادلة الخاسرة دوماً منذ زرع كيانهم الغاصب: لا يوجد لديهم ما يكفي من الغاصبين في وجه التفوّق العددي لأصحاب الأرض الفلسطينيين. ومهما بدت هذه المعادلة بسيطة لأول وهلة ولكن لها انعكاساتها الخطيرة على الاحتلال بما في ذلك بالمعنى العسكري المباشر؛ مثلاً عند خسارة الاحتلال لقتلى من صفوفه مهما قلّ عددهم، مما يجعل أبسط عمليّة مقاومةٍ ناجحةٍ ولو كانت فردية خطراً يستنفر الاحتلال ويرهِقُ عدده وعديده.

وفقاً للأرقام، هناك 451 ألف مستوطن في 132 مستوطنة و147 بؤرة استيطانية عشوائية في الضفة الغربية، إضافة إلى 230 ألف مستوطن يقطنون في القدس المحتلة، ولقادة هؤلاء المستوطنين خطط يريدون من وراءها إحكام السيطرة على مساحات كبيرة من الضفة، لضمّها فيما بعد. 

«البؤر الاستيطانية» كأسلوب لنشر الاستيطان السرطاني

تاريخياً بدأ انتشار ظاهرة «البؤر الاستيطانية» غير المرخَّصة في التسعينيات، والتي جاءت كأسلوب احتيالي من إدارة رابين آنذاك مكّنها من التظاهر بخفض معدّل بناء المستوطنات (في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1993) أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين التي سبقت توقيع اتفاق أوسلو سيّئ الصيت. وفي حين مكّن ذلك حكومات الاحتلال من تخفيض المصادقة «الرسمية» على الاستيطان ولكن الخدعة تكمن عملياً في فتح مجال التعويض عن ذلك عبر «البؤر الاستيطانية»، والتي هي تجمعات تُشيّد دون قرار رسمي من الحكومة «الإسرائيلية» تبدأ عادةً ببناء عدد من المنشآت أو الخيام أو البيوت المتنقلة المنفصلة عن المنطقة العمرانية للمستوطنة الأم وترتبط بها بطريق ترابي. ويتم إنشاؤها بالاستيلاء على أراضٍ فلسطينية متاخمة لمستوطنة قائمة، بهدف توسيعها المستقبلي أو تمهيداً لإنشاء مستوطنة جديدة.

ورغم الطبيعة غير القانونية للبؤر الاستيطانية بموجب القانون الدولي وحتى «الإسرائيلي» لكن حكومات الاحتلال لطالما دعمت ضمنياً الحفاظ عليها وسعت لشرعنتها بأنْ تدمجها مثلاً في المستوطنات القائمة، وكذلك يقوم جيش الاحتلال بتوفير الحماية الأمنية لها وتعبيد الطرق إليها وتزويد معظمها بالبنية التحتية من ماء وكهرباء وغيرها.

أخيراً، يوضح الشكل والخريطة التاليان عدد وتوزع البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية وفق تقرير صادر عام 2022 عن معهد الأبحاث التطبيقية في القدس (أريج)، حيث يمكن أن تقدّم كثافة هذه البؤر في بعض المناطق جزءاً من تفسير لماذا يقابلها نشاط مكثف أيضاً للمقاومة الفلسطينية (كما في نابلس مثلاً)، وهذا دليل على أنّ مضي حكومة الاحتلال الجديدة في تطرّفها وتهوّرها السافر وتصعيد وتوسيع الاستيطان والاقتحامات والانتهاكات بأشكالها كافةً، لن يمرّ دون رفع حرارة التوتر والاشتباك مع الشعب الفلسطيني ومقاومته في الفترة المقبلة، وهو ما تخشاه وتعبر عنه بعض الأوساط «الإسرائيلية» وكذلك الرعاة الصهاينة للكيان عالمياً ولا سيّما في الأوساط الأمريكية والغربية والحاكمة.

 1234

1234566