هل سيعتلي الاتحاد السوفييتي خشبة التاريخ مجدداً؟ لا ونعم!

هل سيعتلي الاتحاد السوفييتي خشبة التاريخ مجدداً؟ لا ونعم!

لا يزال الدور التاريخي الذي لعبه الاتحاد السوفييتي على امتداد 69 عاماً (من 1922 حتى 1991) يحظى باهتمام الباحثين والسياسيين المهتمين على امتداد العالم. ولا يزال يُستخدم في المواجهات السياسية والإعلامية حتى يومنا، حيث ورد في آخر استخدامٍ له على لسان المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، التي أدلت بتصريحٍ يَسهُلُ تفسيرُه على نحوٍ خاطئ.

اكتفت بعض المواقع الناطقة باللغة العربية - وبينها بعض المواقع الروسية - بجملةٍ وردت على لسان زاخاروفا لتخرج بصياغة ملتبسة عنوانها العريض أنّ زاخاروفا قالت إنّ «تخيُّلَ وجود الاتحاد السوفييتي اليوم هو نشاطٌ ضد العِلم وضدَّ التاريخ»، ورغم أنّها بالفعل قالت ذلك بطريقةٍ ما، إلا أنّ ذكر ما قالته بالضبط من شأنه أنْ يوضِّحَ السياق العام للحديث. 

ما قالته زاخاروفا فعلاً

في حديث مع راديو سبوتنيك - Sputnik الحكومي الروسي، قالت زاخاروفا إنّ «الجدل الدائر حول مسألة ما إذا كان الاتحاد السوفيتي يمكن أنْ يوجد اليوم أم لا هو جدلٌ غير علمي». وتابعت: «لا أعرف إذا كان من الممكن استخدام الصيغ الشرطية هنا. إنني لم أقرأ في أيّ مكانٍ أنَّ مثل هذا البلد، مثل هذا التعليم، مثل هذا الواقع التاريخي، قد تمت برمجته سابقاً من جانب شخصٍ ما، قبل 500 أو 700 عام مثلاً. لقد كانت عملية البناء هذه عملية تاريخية، لها خصائصها المميزة، وهي التي أدّت إلى مثل هذا الواقع، وإلى مثل هذه الظاهرة... هنالك تاريخ، وهذه عملية. لكن هذا كما ورد في رواية «الزواج» لغوغول: إذا وضعت أذنيك على أنف أحد ما، فإن مثل هذا النموذج الإبداعي لن يكون مناسباً جداً... إنه [الاتحاد السوفييتي] ظاهرة، وهو واقع أصبح جزءاً من العملية التاريخية. لقد قيل الكثير عن العمليات الداخلية التي أدت إلى زواله. يحتاج الأمر إلى كثير من القراءة، إلى كثيرٍ من الفهم، يحتاج إلى معرفة الحقائق، وبالطبع، لا يمكنك وصفه في عبارة واحدة. لكنني أعتقد أن التخيّلات حول متى وإذا كان سيكون أم لا وكيف يمكن أن يكون مجدداً هي محاولات مناهضة للعلم».

وتابعت زاخاروفا: «يشعر الكثيرون من الناس بالحنين إلى الاتحاد السوفييتي، وهذا مفهوم... لقد كان وطننا الأم، كان مساحتنا المشتركة، كان لحظةً في المكان والزمان ضاعت منا، وهو أمرٌ غير موجود اليوم لعددٍ من الأسباب. أنا أفهم جيداً الأشخاص الذين يشعرون بالحنين إلى الماضي - لن أقول الحنين إلى تلك الأوقات فقط، ولن أقول إلى ذلك الفضاء فقط، بل سأقول: إلى ذلك الفضاء وإلى تلك الأوقات معاً. وعلى وجه التحديد كنوعٍ من الواقع التاريخي الذي نشعر به، ويشعر به كل من عاش تلك الحقبة، نحن الذين نتذكره من خلال قصص عائلاتنا التي ترتبط بالعائلات المنتشرة في جميع أنحاء هذا الفضاء».

وأكملت المتحدثة: «البعض - وهذا أمرٌ طبيعي أيضاً - لديه مشاعر مختلفة تماماً. البعض اختبره [الفضاء السوفييتي]، أو على العكس من ذلك عاشه في نفسه، أو لم يشعر به على الإطلاق. هنالك مثل هؤلاء الناس - عدد كبير منهم. لديهم الحق في ذلك - لديهم حياتهم الخاصة وذكرياتهم وعائلاتهم عاشت فترات مختلفة». 

العقل والقلب... والضرورة الموضوعية

قبل أعوامٍ مضت، وتحديداً في عام 2005، صرّح فلاديمير بوتين، الذي كان يشغل حينها منصب رئيس الوزراء، بكلامٍ مشابه، مفادُه أنَّ «مَنْ لا يندم على انهيار الاتحاد السوفييتي ليس لديه قلب. ومن يريد إعادته في شكله السابق ليس لديه عقل». وهو أيضاً مِن نمط التصريحات التي يَسهُلُ سوءُ تفسيرِها، بحيث يغدو اقتطاعُها من السياق محاولةً لقلب معانيها الفعلية.

قبل أيّ شيء، ينبغي التأكيد على مسألة غالباً ما تغيب عن الأذهان، وهي أنّ القادة الروس (بصرف النظر عن مواقفهم الشخصية من تجربة الاتحاد السوفييتي) يطلقون هذه التصريحات في غالب الأحيان خلال السجالات السياسية والإعلامية التي يكون الطرف الآخر فيها هو الولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً، أي أنّ الطرفَ النقيض هو الجهة التي تحاول دائماً أنْ تُظهرَ روسيا بمظهر الدولة المتخلِّفة الراغبة في استعادة ما مضى، لا بناء ما سيأتي بالاستفادة من تفسير ما مضى. لهذا، فإنّ الشحنة الدفاعية التي تأتي جواباً على اتهامٍ غربي يمكنها أنْ تتركَ انطباعاً بأنَّ المتحدِّث يحاوِلُ التنصُّل من تجربة الاتحاد السوفييتي برمّتها، ولا سيّما إنْ زادت وسائل الإعلام الطينَ بلّة باقتطاعها بعضَ الجمل مِن سياقها على نحو يعزِّز سوء التفسير هذا.

لكنّ المهم هو أنّه لا يمكن الحديث عن الاتحاد السوفييتي، دون أنْ يكون حاضراً في البال أننا نتحدث عن تجربة تاريخية أنتجتها الضرورة، ضرورة إيجاد صيغة للتكامل بين عدد من الدول الواقعة على امتداد هذا الفضاء، وهو الفضاء الذي له مصلحة موضوعية في التطور والنمو بعيداً عن المركز الإمبريالي الغربي. ومع تطور وسائل هذا المركز في إخضاع الدول وتفتيتها، ومع تعقد أزمة الرأسمالية برمّتها، يبدو واضحاً أنّ الضرورة والظروف التي دفعت إلى تشكيل الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي ليست حاضرة اليوم فحسب، بل وتزداد أيضاً. وهذا ما يقتضي التمييز بين وجهَي الحقيقة: هل يمكن تكرار تجربة الاتحاد السوفييتي بالشكل الذي كانت عليه خلال القرن الماضي؟ لا... هل ثمّة ضرورة لإيجاد تجربة جديدة بالجوهر ذاته تقف على عتبة أعلى من التطور مستفيدة من التجربة السابقة؟ بالتأكيد نعم!