الصين والهند... ووهم الحرب الوشيكة
رهام الساجر رهام الساجر

الصين والهند... ووهم الحرب الوشيكة

مع استكمال تجلّي ميزان القوى الجديد باتجاه يُعاكس مصالح المراكز الإمبرياليّة الغربيّة، في إطار سعيها العامّ لخلق وإعادة إحياء بؤر التوتر، تظهر تطورات ذات طابع عسكريّ على المستوى العالميّ، إلا أنّ ما يميز هذه التطورات ضمن الفضاء الجديد هو بروز حلول ذات توجّهات إقليميّة، كإمكانية مُعزِّزة مضادَّة لإمكانيّة الحرب بما لا يفسح المجال لهذه القوى بالتدخّل والتلاعب بالوضع لصالحها.

خضعت العلاقات بين الصين والهند لتقلبات جيبيّة منذ أوائل خمسينيّات القرن الماضي، مُذ نالت الهند استقلالها التامّ، وجرى تغييرٌ جذريّ في الهيكل الاجتماعيّ والسياسيّ في الصين، إلا أنّ «العامل الأمريكي» كان ثابتًا بطريقة أو بأخرى في كلّ تغيير في اتجاه تطور العلاقات الثنائية.

تَـرِكَـة تاريخـيّة

تجدّدت الاشتباكات على حدود الهند والصين المتنازع عليها في الهيمالايا بالقرب من تاوانج في ولاية أروناتشال براديش شمال شرق الهند، في 9 كانون الأول الجاري، كان هذا أهمّ حادثٍ بين البلدين منذ الاشتباكات العنيفة على طول خط السيطرة الفعلية (LAC) في جالوان في حزيران عام 2020، ويستند استمرار النزاع بين البلدين على أمرين: تركةٍ تاريخيّةٍ من ميراثٍ استعماريّ، حيث تمّ العمل على تحييد مناطق بعينها من عملية إنهاء الاستعمار آنذاك – وهي أنهار وجبال وتضاريس يصعب الاتفاق على تحديدها وترسيمها – لاستغلالها لاحقًا كصواعق تفجير من جهة، ومن جهة أخرى سياسة الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ المتمثّلة بعبارة «تحويل مركز ثقل العمليات العالمية إلى المحيطين الهندي والهادئ» للتصدي للصعود الآسيوي عبر تصعيد التوتر في آسيا وخصوصًا بين العملاقين الآسيويين.

اتصال وثيق

حاولت العناوين الرئيسة للصحف الغربيّة بالتزامن مع الحادث إثارة فكرة الصراع المُحتدم بين الجارين النوويَّين، وإلى أيّ المآلات سيصل هذا «الخطر المحدق» بالعالم في حال اندلعت الحرب بينهما، ليصدر على إثرها، يوم الخميس الفائت، بيان صحفي مشترك عن الجولة السابعة عشرة من اجتماع مستوى قادة الفيلق الهنديّ الصينيّ، أكد على اتفاق قادة عسكريين هنود وصينيين خلال اجتماع في نقطة التقاء الحدود بين تشوشول ومولدو على الجانب الصينيّ، في 20 الشهر الجاري، على «الحفاظ على الأمن والاستقرار على الأرض في القطاع الغربّي، والبقاء على اتصال وثيق، والحفاظ على الحوار من خلال القنوات العسكريّة والدبلوماسيّة والعمل على حلّ مقبول للطرفين للقضايا المتبقية في أقرب وقت ممكن»، في حين قال بيان لوزارة الدفاع الهندية أنّه بسبب «التصور المختلف» لمكان خط السيطرة الفعلية (LAC)، كانت هناك «مواجهة أدت إلى إصاباتٍ طفيفة لعدد قليل من الأفراد من كلا الجانبين»، ولم يؤدِّ الحادث إلى أيّ تصعيد آخر وفقًا لبيان الوزارة، إذْ إنّ الجانبين «انفصلا على الفور عن المنطقة» وعقد القائد العسكريّ الهندي في المنطقة اجتماعًا مع نظيره الصيني «لمناقشة القضية وفقًا لآليات منظمة لاستعادة السلام والهدوء».

مسارات متوازية

إنّ أيّ مراقب خارجي للأحداث التي أثَّرت على علاقات الهند مع الصين على مدار العامين أو الثلاثة أعوام الماضية – عندما كانت علاقاتهما قد اتخذت منعطفًا سيّئًا، وبدت الحرب في بعض الأحيان بينهما حتميّة، في حين شهدت الفترة نفسها تحسنًا واضحًا في العلاقات بين نيودلهي وواشنطن – قد كوّن انطباعًا بأن التغيير في مسار العلاقات بين البلدين لم يعد ممكنًا، إلا أنّه وعلى الرغم من عدد الخطوات التي اتخذتها لتحقيق علاقة أوثق مع واشنطن، ترى نيودلهي أنّه وفي ظل ظروف معينة، قد تتوقف الهند عن التمتع بوضعها غير المنحاز في العالم لتنحاز باتجاه مصالحها الإقليميّة مع الصين، ومع أنّ الصين والهند قد طورتا بشكلٍ سريع البنية التحتية العسكريّة على جانبي خط السيطرة الفعلية (LAC)، إلا أنّ المفاوضات بينهما لم تتوقّف على المستويين العسكريّ والدبلوماسيّ لتقليل الأعمال العدائيّة وحلّ المواجهة سلمياً. لذا فإنّ تطوير القدرات العسكريّة الداخليّة والمفاوضات الثنائيّة تجري على مسارات متوازية ضمن عملية مُكثَّفة تهدف إلى الحدّ من العداء وحلّ المشكلات العالقة وصولًا لتطوير العلاقات بين البلدين، وهذا ما لا يدركه عقل الغرب الجماعيّ كما يمثل تحدّيًا مباشرًا للفهم التقليدي للعلاقات الهنديّة الصينيّة التي كانت واشنطن تتابعها منذ عقود، فحقيقة أنّ الهند قد عزلت المسار الثنائي مع الصين عن أيّ تدخلٍ لن يكون محلَّ إعجاب الغرب، كون التناقض في الأساس هو أنّه من دون الهند لا توجد «استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ» ضد الصين.

مصالح وطنيّة

في مقابلة حديثة مع إحدى الصحف الهندية، طرح رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفن رود، السؤال الذي يزعج العقل الغربي أكثر من غيره: «ماذا تفعل الهند في النهاية، إذا قامت الصين من جانب واحد بحلّ الحدود، كما فعل غورباتشوف مع الاتحاد الروسي داخل الاتحاد السوفييتي في عام 1989؟». وكرر رود «ماذا ستفعل الهند بعد ذلك فيما يتعلق بصعود الصين إذا تم حل الحدود، وانطوت الهند والصين وروسيا في سوق واحد هائل من الفرص المتبادلة؟». في مثل هذا السيناريو، لم يتمكن رود سوى من رؤية خيارَين للهند: إما أنْ «تلحق بركب» الصين ضمن البريكس ومنظمة شنغهاي أو «تتوازن» معها ضمن الرباعيّة، في حين غاب عن ذهن الوزير أنّ الفضاء الجديد يُبرز للهند – كما كل القوى الصاعدة – خيارًا ثالثًا، ألا وهو السعي وراء المصالح الوطنية مع الاحتفاظ بالاستقلال الاستراتيجي ضمن فضاء متعدد الأقطاب بعيدًا عن التماشي مع السياسات الغربية، فمصالح الولايات المتحدة لا تفضّل صعود الصين أو الهند كقوى عالمية، بل على العكس إنّ تدمير البلدين لبعضهما بعضاً جزئيًا أو كليًا يعني أنّ الولايات المتحدة أنهت وبشكل ناجز سياستها تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

تجربة تراكميّة

التدريبات العسكريّة الهنديّة-الأمريكيّة المشتركة الأخيرة بالقرب من خط السيطرة الفعلية (LAC)، والمناورات العسكريّة الفلبينيّة الأمريكيّة وحتى اشتباك تاوانغ الحدودي مع الهند، تهدف جميعها لخلق مزيد من التوتير لحصار الصين من جميع الجوانب قبل زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المتوقعة للصين في بداية العام المقبل، الأمر الذي يعني فتح المجال لظهور المزيد من نقاط الاحتكاك والتوتير بين الصين وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وحتى تايوان على التوالي، لضمان إحداث اختراقات ولو جزئيًا للتنفيس عن أزمتها العميقة، عبر محاصرة الصين وإنهاك الهند ومِن ورائهما كامل آسيا ضمن صراعات بينيّة، إلا أنّ القوى الصاعدة قد راكمت تجارب كافية في استراتيجيّة إطفاء الحرائق وتأريض التوترات ووضع حدٍّ لمشروع الفوضى الأمريكي بمختلف أشكاله وتجليّاته، كالتجربة  التراكمية للصين بترسيم الحدود وحلّ النزاعات مع الدول المجاورة من خلال المفاوضات السلميّة مع 12 من أصل 14 دولة فيما تبقّت الهند وبوتان، ونزاع الصين مع بوتان هو نزاع حدودي بحكم الواقع مع الهند، كما أنّ الاتفاقيات التي حلِّتْ بها الصينُ نزاعاتها الحدودية مع الاتحاد السوفيتي ساعدت على البدء بحقبة جديدة من العلاقات بين البلدين، لذا فإنّ إمكانية حلّ القضايا العالقة بين البلدين وجعلِها واقعًا أعلى بكثير بما يكفي لكي تعيد الجارتان كتابة علاقاتهما الثنائية.

 

آخر تعديل على السبت, 31 كانون1/ديسمبر 2022 13:40