فقاعة التكنولوجيا تنفجر: تسريح عمّال وتمهيد لانهيار اقتصاد الدولار

فقاعة التكنولوجيا تنفجر: تسريح عمّال وتمهيد لانهيار اقتصاد الدولار

توسّعت خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة عمليات التسريح الجماعي للعمال في كبرى شركات التكنولوجيا المرتبطة بـ«وادي السيليكون»، وبـ«وول ستريت» (أي بالدولار)، وبرز بشكل خاص تسريح ميتا/فيسبوك لـ11,000 عامل، وتويتر لـ 4,400 عامل، إلى الحديث عن تسريح أمازون لـ 10,000 عامل، وإلغاء بنوك مثل «سيتي جروب» و«باركليز» لوظائف الاستشاريين والموظفين التجاريين، وليس انتهاءً بإفلاس أضخم منصّة أمريكية/عالمية للعملات المشفّرة (FTX). وهكذا تنفجر الفقاعة التكنولوجية بقيادة أضخم منصات «التواصل/التحكم» الاجتماعي، والدَّولَرة الرقمية المتاجِرة بالبيانات والأفكار والأشياء والبشر، والتي تمثّل ذروة ما وصلت إليه الأموَلَة المتمركزة حول الجغرافيا نفسها التي تملك أكثف مرور لكابلات الإنترنت والتحكم به في العالَم (الولايات المتحدة الأمريكية). ولذلك فإنّ أزمة هذه الشركات، ولو أنها أزمة رأسمالية العَولَمة الإمبريالية أحادية القُطب عموماً لكنها كذلك أزمة أمريكية/دولارية على وجه الخصوص، وليست سوى شرارة لتوسّع الانهيارات والإفلاسات المالية والصناعية لبقية قطاعات الاقتصاد في كلّ مكانٍ بالعالَم يبقى متمسّكاً بالعبودية للدولار المتضخّم وهرم ديونه ونهبه.

في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ظهرت تقارير عن أرباح تلك الشركات تظهر خسائر كبيرة، واستمرت عمليات التسريح الجماعي للعمال في صناعة التكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وامتدت إلى قطاعي المال والعقارات مع تكثيف هجوم الشركات على الوظائف والأجور في فترة ركود اقتصادات الدولار واليورو ومن لفّ لفّهما، مع مواصلة البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بالنفخ في قِربة رفع أسعار الفائدة المثقوبة.

لتكوين صورة عن أهمية حجم هذا القطاع في وول ستريت، نذكر أنّ أسهمه تمثل ما يقرب من 25% من بورصة S&P 500 والذي تشكل فيه كل من آبل Apple وغوغلGoogle  ومايكروسوفت Microsoft  وأمازون Amazon ما يقرب من 20% من قيمته السوقية.

وفي خطوة متوقعة على نطاق واسع، ألغت شركة ميتاMeta  (الشركة الأم لـفيسبوك وإنستغرام وواتساب) 11 ألف وظيفة في وقت مبكر من صباح الأربعاء 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. وانخفض سعر سهم الشركة إلى حوالي 100 دولار للسهم، وهو الأدنى منذ 2016.

وفي رسالة إلى الموظفين، كتب مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي للشركة ومؤسس فيسبوك، أنه «قرر تقليل حجم فريقنا بنسبة 13%» وأنه «آسف بشكل خاص لأولئك المتضرّرين».

وقال زوكربيرغ إنّ الزيادة في الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي التي حدثت خلال أزمة وباء كوفيد-19 لم تصبح «تسارعاً دائماً سيستمر حتى بعد الوباء» كما كان يعتقد كثيرون، وبدلاً من ذلك كتب: «أدى الانكماش الاقتصادي الكلّي والمنافسة المتزايدة من منصات التواصل الاجتماعي الأخرى مثل TikTok إلى انخفاض عائداتنا كثيراً عمّا كنتُ أتوقّعه. لقد فهمتُ هذا بشكل خاطئ، وأنا أتحمّل المسؤولية عن ذلك». وأضاف بأنّ الشركة بحاجة إلى أن تصبح «أكثر كفاءة في رأس المال» وكانت «إعادة هيكلة الفرق لزيادة كفاءتنا».

مع ذلك فإنّ الخسارة الحقيقية هي على حساب العمّال: بطالة لمن سُرّحوا، ومزيد من الاستغلال لمن بقوا. ورغم الأزمة زاد صافي ثروة زوكربيرغ الشخصية بمقدار 1.78 مليار دولار لتصبح 37.2 مليار دولار بعد إعلانه هذا التسريح للعمال مباشرة. وبينما ادّعى أنّ تسريح العمال كان يُنظر إليه على أنه «الملاذ الأخير»، فمن الواضح أنّ وول ستريت، التي خسرت 70% من استثماراتها في أسهم ميتا منذ بداية عام 2022، كانت تطالب زوكربيرغ باتخاذ تدابير جذرية لخفض التكاليف، بما في ذلك القضاء على 20% من القوى العاملة البالغ عددها 87000 في شركته.

لجأ بعض العمّال المسرّحين إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن اشمئزازهم من التسريح والطريقة التي نفذتها بها الشركة التي تبلغ تكلفتها 270 مليار دولار. نشر كارلوس جيفوني Carlos Giffoni، الذي كان يعمل مديراً للمنتوجات في Instagram، على حسابه بموقع LinkedIn قائلاً: «استيقظت للتو لأكتشف أنه تم تسريحي عبر رسالة بريد إلكتروني». وأكد بأن ذلك تم «بلا تحذير، وعلى الرغم من أنّ قائدي في فريق العمل أخبرني مؤخراً أنني ذو أولوية عالية ولن يطالني التسريح». فلنا أنْ نتخيّل حال جيش المسرّحين الأكبر عدداً والأصغر مكانة؛ حيث يمكن إيجاد بديل لهم بسهولة، وأغلبهم من الدول الفقيرة في آسيا وإفريقيا، والأكثر عرضة للاستغلال والأجور المنخفضة، والذين تستغلّهم ماكينات «التنقيب عن البيانات» لهذه الشركات، بأعمال نمطية مملّة ومستنزفة للأعصاب (على سبيل المثال: التعرّف على الصور الضرورية لبناء خوارزميات الذكاء الاصطناعي)، فضلاً عن أنهم أقل حمايةً لحقوقهم قانونياً.

في اليوم نفسه تم تأكيد تسريح عمال بشركات تكنولوجيا أخرى، بما في ذلك 1000 وظيفة في شركة Salesforce التي هي من كبريات أرباب العمل في سان فرانسيسكو، وكذلك كانت شركة Microsoft  قد خفضت عمالتها بحوالي 1000 وظيفة (1% من عمّالها) في أكتوبر/تشرين الأول.

تسريحات البنوك والرهن العقاري

في الفترة نفسها، ضربت عمليات التسريح البنوك وقطاع المال الغربي، فذكر تقرير لـ CNBC أنّ «سيتي غروب»: «سرّح حوالي 50 موظفاً تجارياً في أسبوع»، وذكرت أيضاً أن بنك «باركليز» ومقرّه لندن قام بإلغاء 200 وظيفة عبر «مكاتب الخدمات المصرفية والتجارية هذا الأسبوع»، وأنّ «كريدي سويس» «سيقلل 2700 موظفاً في الربع الرابع ويهدف إلى خفض إجمالي 9000 وظيفة بحلول عام 2025».

وانقلب قطاع الإسكان والرهن العقاري الأمريكي رأساً على عقب بسبب زيادة أسعار الفائدة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وارتفاع أسعار الفائدة على الرهن العقاري لأعلى مستوى لها منذ 21 عاماً، وانخفاض نشاط الإقراض بشكل حاد. ووفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي، قامت بنوك الرهن العقاري المستقلة بإلغاء 8200 وظيفة في شهر سبتمبر/أيلول (مثلاً، سرّحت شركة الوساطة العقارية السكنية Redfin في سياتل 13% أو 862 موظفاً).

لماذا تنهار أسهم ميتا؟

أولاً- السبب الأكبر هو أنّ دخل الشركة كان ينخفض مع ارتفاع نفقاتها، وهذا يعني انخفاض «معدّل الربح». وسوف تضطر الشركة في العام المقبل إلى إنفاق أعلى بمقدار ما بين 96 إلى 101 مليار دولار في عام 2023 وذلك مقارنة مع العام الماضي 2021 الذي كان الأكثر ربحاً عندما حققت 117 مليار دولار. صافي الدخل الإجمالي، على سبيل المثال انخفض بنسبة 52% في الربع الثالث من هذا العام ونفقاتهم ارتفعت 19%. والأموال التي قالوا إنهم سينفقونها فقط لتشغيل أعمالهم هذا العام تتراوح ما بين 85 إلى 87 مليار دولار. لا يحبّ المستثمرون ذلك، فيبيعون الأسهم.

ثانياً - فقدان ثقة المستثمرين في فكرة «الميتافيرس» metaverse. ولنتذكر أنّ السبب الرئيسي لتغيير فيسبوك اسمها من Facebook إلى Meta كان هذا المشروع الذي أطلقه زوكربيرغ وأثار «جعجعة» كثيرة ودعاية ضخمة من أجواء «الخيال العِلمي»، والنتيجة: فقدت الشركة بالفعل أكثر من نصف تريليون دولار من قيمتها السوقية، وخسرت حتى الآن حوالي 9 مليارات دولار في الأرباع الثلاثة الأولى من هذا العام لوحده. الملفت أنّ استعمال «الميتافيرس» لم يجذب حتى موظفي الشركة نفسها، وكثر مؤخراً تداول معلومات عن محاولات الشركة ليس «تشجيع» موظفيها على استعماله بل وحتى «إجبارهم» على ذلك بشكلٍ أو بآخر، مما يدلّ على إخفاق الترويج والاقتناع به.

ثالثاً - يوجد ضغط منافسة من Tick Tock والناس ينفقون وقتاً أقل على Facebook والمعلنون يدفعون لميتا أموالاً أقلّ للإعلانات.

facebook-connect-ile-anlatilan-metaverse-99b1

يجدر بالذكر بأنّ Microsoft وAmazon تمثلان جزءاً كبيراً من الاقتصاد على عكس ميتا. بالنسبة لمايكروسوفت قد يبدو للوهلة الأولى غريباً أن تنخفض قيمة سهمها بنسبة 8% في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي رغم نمو إجمالي إيراداتها 11%. يفسر بعض المحللين الاقتصاديين ذلك بأنّ الأهم للشركة من المال الذي جنته في الماضي هو ما ستجنيه في المستقبل، ويبدو هذا منسجماً مع منطق رأس المال الذي لا يشبع ويطلب تزايد أرباحه، وهو الأمر الذي يصطدم مع واقع القانون الموضوعي لميل معدل الربح للانخفاض عموماً، والتشاؤم وسط الأزمة الحالية للمنظومة الرأسمالية خصوصاً مع معرفتهم بأن القادم أسوأ بالنسبة لأرباحهم، وارتباطاً بالتغيُّر العام بالمشهد الجيوسياسي والاقتصادي العالَمي بوصفهم شركات مرتبطة «بالدولار» المأزوم في نهاية المطاف.

فتك الدولار بالعملات المعتمدة عليه يرتدّ ضعفاً في الداخل

يلفت المحللون الانتباه إلى أنّ وجود الدولار «القوي للغاية» بالنسبة لعملات الاقتصادات التي تدور في فلك منظومته، له تأثير كبير على شركات التكنولوجيا الأمريكية وخاصة أنّها «معولَمة» في سوق عملها ومنتوجاتها، ولذلك عندما تمارس أعمالها التجارية خارج الولايات المتحدة، وتبيع منتجاتهم دولياً فإنها تتقاضى الأموال بعملات أضعف أو ما يكافؤها بالدولار، أو تحوّلها إلى الدولار المتضخّم، فيحصلون على دولارات أقلّ بالنهاية. وسيستمر ذلك في الحدوث أكثر لأنّ مجلس الاحتياطي الفيدرالي لا يواصل فقط «الطباعة بلا رصيد» وبلا دعم من كتلة سلعية ذات قيمة حقيقية مثل الذهب أو البضائع المصنّعة، بل ويواصل رفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية والذي يجعل أسعار السندات ترتفع ويجذب المزيد من الأموال للدخول إلى الدولار مما يجعل الدولار «أقوى» بالنسبة لكثير من العملات، وبالتالي يفاقم ضعف وهشاشة الاقتصاد القائم عليه، وسيظلّ هذا يؤثر على الشركات التي تمارس الأعمال التجارية في الخارج، طالما تتعامل بالدولار.