انهيار قريب... للهرم المقلوب!

انهيار قريب... للهرم المقلوب!

مع قرار (أوبك+) الأخير تخفيضَ الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً -وخاصةً أنّ الجميع يعلم أنّ قراراً من هذا النوع لا يمر دون موافقةٍ بل ودورٍ أساسي للسعودية تحديداً في اتخاذه- عادت إلى الواجهة الأحاديث عن احتمالات انهيار البترودولار. وقد ازداد زخم هذا النوع من التوقعات مع التهاوي المتسارع في البورصات وفي الإنتاج على المستوى العالمي، وخاصة في الغرب، وبوتائر أسرع مما هي عليه في الدول الصاعدة.

البترودولار كما هو معلوم، هو الاسم الرمزي ليس فقط لتلك الأموال الناجمة عن استخراج النفط والتي تقوم دول الخليج العربي خاصة باستثمارها في الغرب وفي الولايات المتحدة خاصة، بل وأهم من ذلك، أنّه الاسم الرمزي للمرحلة الجديدة من النظام المالي العالمي ما بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية (عام 1971) من التزاماتها وفقاً لبريتين وودز (1944).

الحقيقة هي أنّ النظام المالي العالمي منذ بريتين وودز، بقي كما هو في الجوهر حتى بعد 1971 (حين أعلن نيكسون إنهاء ارتباط الدولار بالذهب)؛ فحتى قبل ذلك التاريخ، كانت مطابع الفيدرالي الأمريكي تعمل بلا توقف مغرقة العالم بأسره بالأوراق الخضراء وساحبة منه ثرواته مقابل تلك الأوراق التي بلا رصيد حقيقي.

المعادلة بين الكتلة النقدية وكتلة البضائع هي دائماً معادلة موضوعية قانونية، يمكن الاحتيال عليها مؤقتاً، ولكن لا يمكن القفز عنها. وقد استخدمت الولايات المتحدة أدوات عديدة في عملية الاحتيال هذه، بينها أدوات مخفية، من طراز الألاعيب المالية عبر المنظمات الدولية وخاصة صندوق النقد والبنك الدولي، وأخرى علنية ومباشرة، كاستخدام القواعد العسكرية والحروب لمعاقبة أي أحد يفكر بشق عصا طاعة منظومة الدولار.

الهرم المالي

الألاعيب المالية الكبرى معقدة إلى درجة يمكنها أن تغرق أي أحد يبحث عن حقيقتها، ولكنها في الوقت نفسه واضحة في وقاحتها واحتيالها إلى الحد الذي يكاد معه المرء يصدق عينيه حين يعاينها عن قرب...

إذا نظرنا في المقال المهم الذي ترجمته قاسيون منذ أيام لـ(غلازييف وميتيايف)، فإنّ هنالك فكرة شديدة الوضوح يمكنها وحدها أن تشرح جوهر فكرة الاستعمار الحديث، أو ما يسمى الاستعمار الاقتصادي (التبادل اللامتكافئ).

ملخص الفكرة هو التالي:

  • عملت النخبة العالمية منذ بريتين وودز، وبعد 1971 بشكل متسارع، على تعظيم الهرم المالي العالمي... يمكننا أنْ نراقب الأرقام التي تصف حجم الناتج الإجمالي العالمي كأحد المؤشرات على تضخم الهرم المالي. عام 1960 كان إجمالي الناتج العالمي هو 1.4 ترليون دولار. اليوم هو 96.1 ترليون دولار. أي أنّه تضاعف قرابة 70 مرة.

imgcd1


  • إذا كان رقم الناتج الإجمالي العالمي قد تضاعف 70 مرة، فهل تضاعف الناتج العالمي فعلاً 70 مرة؟ قطعاً لا... ما تضاعف هو الأموال، وتضاعفت بمقادير أكبر بمرات من زيادة إجمالي البضائع... يمكننا أن نقارب هذه المسألة على أساس القيمة الشرائية للدولار، عبر سؤال بسيط: ما هو كم البضائع التي يمكن أن يشتريها رقم الناتج العالمي اليوم، مقابل كم البضائع الذي يشتريه رقم الناتج العالمي عام 1960؟
  • أبسط الطرق للإجابة هي أن ننظر في القيمة الشرائية للدولار عام 1960 مقارنة بقيمته الشرائية اليوم، وسنجد أنّ القيمة الشرائية للدولار عام 1960 هي عشرة أضعاف قيمته الشرائية اليوم.

imgcd2


ما يعني أنّه إذا كان رقم الناتج العالمي قد تضاعف 70 مرة خلال 60 عاماً، فإنّ الناتج العالمي قد تضاعف في الحقيقة 7 مرات فقط، والفارق بين 70 و7، هو أحد المداخل نحو تضخيم الكتلة النقدية بشكل مقصود، وتالياً نحو تضخيم النهب.

الهرم المقلوب

العلاقة بين الكتلة النقدية الضرورية والكتلة البضاعية، هي علاقة موضوعية، يكون فيها كم النقد الضروري مساوياً لكتلة البضائع مقسومة على سرعة الدوران (قيمة سرعة الدوران هي بين 1 و5). ما يعني أنّ الكتلة النقدية الضرورية هي دائماً أقل من كتلة البضائع. وإذا أردنا أن نرسم (الهرم المالي) على هذا الأساس، فسيكون هرماً قاعدته هي البضائع (أي القسم الأكبر منه) ورأسه هو المال، أي (القسم الأصغر منه).

ما نراه على أرض الواقع هو أنّ الكتلة النقدية المعروضة هي أكبر بكثيرٍ من كتلة النقد الضروري، وأكبر بطبيعة الحال من كتلة البضائع بأضعاف مضاعفة، أي أننا أمام هرمٍ مقلوب:


imgcd3


معنى الهرم المقلوب؟

دون الدخول في تعقيدات كبيرة، فإنّ خطورة الهرم المقلوب هو أنّ أصحاب البضائع، وضمناً أصحاب الخامات (والنفط ضمناً)، سيبيعون بضائعهم بأرخص الأثمان لمصدري النقد (لأصحاب الدولار بالدرجة الأولى)، وسيشترون البضائع المصنعة بأغلى الأثمان. وهذا ينطبق أيضاً على العمال، أصحاب قوة العمل، الذين يبيعون قوة عملهم بأبخس (الأثمان-الأجور)، ويشترون كل أنواع البضائع الأخرى بأغلى الأثمان...

هذه العملية بشكلها الواسع، تسمى بالتبادل اللامتكافئ أو مقص الأسعار، وهي إحدى أهم آليات النهب الاستعماري خلال الخمسين عاماً المنصرمة.

ورغم أنّ أصحاب الدولار قد تمكنوا من قلب الهرم، وعبر قلبه تمكنوا من نهب بضائع بقيمة ترليونات الدولارات، أي تمكنوا من نهب كميات فلكية من عمل الناس لا في دول المركز الغربي فقط، بل وفي كل دول العالم... رغم ذلك إلا أنهم لم يتمكنوا ولن يتمكنوا من تغيير العلاقة بين البضائع والنقد: البضائع هي الأساس الذي يبنى عليه الهرم، حتى الهرم المقلوب قاعدته هي البضائع.

من هنا نفهم خطورة تسعير أي مادة أساسية بغير الدولار على أصحاب الدولار؛ ليس النفط فقط، بل أي بضاعة أساسية على الإطلاق... فكل بضاعة يجري إخراجها من التسعير بالدولار، أو إخراجها جزئياً، تخرج مباشرة من قاعدة الهرم المالي الدولاري، وتهدده بالانهيار..

من هنا نفهم لماذا كان تسعير الغاز بالروبل مفصلاً هاماً في التحول نحو منظومة مالية دولية جديدة، بل نظامٍ عالمي جديد بالمعنى الشامل... ومن هنا نفهم خطورة التبادل بالعملات المحلية على الهرم المالي الدولاري... فكل بضاعة حقيقية بقيمة سوقية تساوي دولاراً واحداً يجري سحبها من تحت سطوة التبادل الدولاري، تترك فراغاً في قاعدة هرم الدولار من المفروض أن يحمل فوقه مئة دولار (كما يوضح كل من غلازييف وميتيايف في مقالهما المشار إليه آنفاً)... مثلاً: سحبت روسيا ما قيمته 20 مليار دولار غاز من هرم الدولار المالي (هذه لا تقابل 20 مليار دولار ضمن الهرم، بل 2000 مليار أي 2 ترليون دولار)... وعلى هذا المقياس يمكن النظر في جملة البضائع والخامات الأخرى...

يمكن أن تبدو المسألة تماماً كبيت الأوراق الذي يمكن أن يؤدي سحب ورقة واحدة منه إلى انهياره بأكمله... فكيف إذا كان ما يجري هو سحب جملة أوراقٍ، وفي وقت واحد؟