القوقاز مجدَّدًا... نحو السلام
رهام الساجر رهام الساجر

القوقاز مجدَّدًا... نحو السلام

تستمر قوى الحرب الإمبرياليّة في محاولاتها لا لتأخير وعرقلة الحلول السياسيّة السلميّة فحسب، بل والاستمرار في إشعال الحرائق في العالم ولا سيّما قوس التوتر ومساحة الجغرافيا التي تقطنها شعوب الشرق العظيم.

لقد مرّ ما يقرب من عامين مُذ أنهى اتفاق وقف إطلاق النار المُبرم في تشرين الثاني 2020 بين أرمينيا وأذربيجان حربًا وحشيّة استمرت ستة أسابيع، في حين أنّ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بوساطة روسيّة كان يهدف إلى إنهاء العمليّات القتاليّة واسعة النطاق، إلا أنّ تصاعد العُنف المُسلّح بين الجانبين لم يتوقف منذ ذلك الحين بسبب محاولات التوتير المُستمرّة، والتي بلغت ذروتها في أيلول مع أكثر الاشتباكات دمويّة على طول الحدود المشتركة بينهما.

تطبيع العلاقات

في نهاية شهر تشرين الأول الفائت، التقى رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف لمُناقشة خطوات تطبيع العلاقات بين يريفان وباكو، والوصول لاتفاق سلام يُنهي عقودًا طويلة من الصراع على إقليم ناغورنو كاراباخ، وبعد انتهاء الاجتماع أصدر القادة الثلاثة بيانهم المشترك الرابع منذ حرب كاراباخ عام 2020 بعد محادثات مطوّلة مساء الإثنين (31 تشرين الأول) في مدينة سوتشي الروسيّة، وأكدوا التزامهم بالتطبيع الشامل لعلاقات باكو-يريفان ، وضمان السلام والاستقرار والأمن والتنمية الاقتصاديّة المُستدامة في جنوب القوقاز، بالإضافة للامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها لمناقشة القضايا وحلّها «فقط على أساس الاعتراف المُتبادل بالسيادة وسلامة الأراضي وحرمة الحدود، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة وإعلان ألما-آتا لعام 1991»، وأضاف البيان «أكدنا على أهميّة التحضير النَشِط لإبرام مُعاهدة سلام بين أذربيجان وأرمينيا من أجل تحقيق سلام دائم وطويل الأمد في المنطقة... على أساس التطورات الحالية، تم الاتفاق على مواصلة البحث عن حلول مقبولة للطرفين ستقدم روسيا كل مساعدة ممكنة لذلك»، في حين أشار الرئيس الروسي إلى أهميّة اللقاء كونه خلق الظروف لخطواتٍ أخرى نحو تسوية الوضع بشكل عام، ولم يُخفِ بوتين حقيقة أنّه «لا يمكن تنسيق كل شيء، كان لا بُدّ من إخراج بعض الأشياء من التفاصيل الأوليّة التي تمّ وضعها على مستوى الخبراء»، كما أكّد على إمكانيّة الاتفاق على مستقبل روسيا وأذربيجان وأرمينيا، وكل دول المنطقة «لأنّ تطبيع العلاقات من مصلحة كل الشعوب التي تعيش في هذه المنطقة»، وكان البيانان الأولان قد أرسيا وقفًا لإطلاق النار في كاراباخ وشكّلا فريقًا عاملًا مشتركًا لإعادة فتح طُرُق العبور الإقليميّة، بينما أعاد البيان الثالث تأكيد التزام الزعيمَين بالبيانين السابقين.

photo_2022-11-11_15-28-37

جبهة ثانية

عندما نجحت روسيا في إحلال السلام بين أرمينيا وأذربيجان، أحدث هذا السلام صدمةً لدى الغرب وخاصةً فرنسا والولايات المتحدة – العضوين الآخرين في مجموعة مينسك – حيث إنّ روسيا أثبتت قدرتها على التوسّط في المفاوضات والسلام بمفردها، أو بمعنى أدق التوصّل لحلّ ذو توجّهٍ إقليميّ لا يُفسح المجال للقوى الخارجيّة للتدخّل والتلاعب بالوضع لصالحها، إذ إنّه لا يمكن أن يكون السلام الذي يتم بوساطة وإشراف روسيّ سوى خسارة استراتيجيّة لها. ومع ذلك، بينما كانت روسيا تسعى لإنهاء التوتر، واصلت واشنطن بشكلٍ فعّال البحث عن طرق لاستغلال الوضع وإعادة إشعال آلة الحرب، اتخذت على إثرها عددًا من الإجراءات لفتح جبهة ثانية ضد موسكو -عبر تكثيف حملاتها في إطار التوتير ورفع حرارة جنوب القوقاز - أبرزها زيارة مدير وكالة المخابرات المركزيّة وليام بيرنز إلى يريفان في 15 تموز، ومن ثم تعيين السفير فيليب ريكر كمستشار أول لمفاوضات القوقاز في 24 آب، لتأتي زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي ليريفان - والتي لا يُعدّ ذهابها لمنطقة توتر دولي بُغية إشعالها تجربة جديدة لها - في 18 أيلول بعد أقل من أسبوع على تجدد المواجهات كانحياز علني - وفق الطريقة الأمريكيّة - لأحد أطراف النزاع ودعمه في «صراع عالمي بين الديمقراطية والاستبداد».

كانت وما زالت التحرّكات الغربيّة في منطقة القوقاز عمومًا وجنوبها بشكلٍ خاصّ لا لتهديد المحيط الحيويّ الروسيّ ومحاولة إشغاله عن مسعى إطفاء الحرائق في أكثر من منطقة في العالم فقط، بل ومنطلقًا لساحة عمليّاتها في المنطقة الممتدة من بحر قزوين إلى البحر المتوسط أيضًا، بغية تعقيد الوضع وصولًا لتفجيره ومنع إمكانيّة قيام أيّ تكتل جامع بين دوله يحلّ مُجمل قضاياه بما يخدم مصالحه، إلا أنّ التطورات التي جرت وتجري أظهرت كيف أنّه باستطاعة روسيا اقتلاع مخالب أمريكا وحلفائها من المنطقة تمهيدًا لإنجاز عمليّة وحدة شعوبها.