هل تفتتح بريطانيا دومينو الانهيار الأوروبي؟
في مقابلات أجرتها بعض التلفزيونات مع الشارع البريطاني الذي يغلي مؤخراً على وقع أزمة شاملة، كان لافتاً تكرارهم عبارة: «نحن لسنا في بلد من العالم الثالث حتى يحدث لنا هذا!»، مما يعني أنهم بدأوا يلمسون بالفعل مظاهر «عالَم-ثالثية» في بلدهم الذي لطالما اعتبر نفسه أفضل قادة «العالَم الأول»: التضخّم الأعلى في 40 عاماً – تحذيرات رسمية من سقوط ملايين البريطانيين بقبضة الجوع والبرد (في المملكة الثريّة!) – حكومة دولة «الرفاه» تخطط لتقنين الكهرباء والطاقة وتحويل المتاحف والمكتبات إلى «ملاجئ» لحشر العاجزين عن دفع فواتير الطاقة الباهظة – سقوط مدوٍّ لأوهام تحسّن الأحوال بعد بريكست – تناقض مثير للاشمئزاز بين مواصلتها وعظ الآخرين بـ«حقوق الإنسان» و«حقوق المرأة» وسط تقارير اعترفت بأنّ التدهور الاقتصادي والتعفّن الاجتماعي الداخلي دفع بأعداد إضافية من النساء إلى وباء الدعارة وبيع أجسادهن من أجل الخبز – وصول الإهمال والفشل في اقتصادٍ مدمنٍ على الريعية والنهب الرخيص للأطراف وأشباهها إلى درجة العجز عن تجديد نفسه ومرافقه التحتية والحيوية من قطاع الصحة إلى السكك الحديدية والموانئ والمطارات؛ بدليل أنها بالذات التي بدأت تنفجر فيها التعطّلات والإضرابات، التي قد لا تتوقف عواقبها السياسية عند تغيير حكومة المملكة المتحدة بل قد تودي بها إلى التفكك الفعلي إلى عدة دول.
الإمبراطورية الاستعمارية التي واصلت إرثها الكولونيالي بأشكال أحدث، وكانت «لا تغيب عنها الشمس»، يبدو أنها اليوم تدخل طوراً مظلماً من الأزمة التاريخية لأعلى مراحل الرأسمالية، وقد لا تجد «الطاقة» لإيقاد أيّ ضوء في آخر النفق هذه المرة: فالتوقعات هي أن ترتفع فاتورة الطاقة المنزلية بأكثر من 50% هذا العام وحده. وأن تصل 4650 جنيهاً إسترلينياً (4734 دولاراً أمريكياً) اعتباراً من رأس السنة الجديدة (2023)، و5456 جنيهاً إسترلينياً (5555 دولاراً أمريكياً) اعتباراً من نيسان.
وتقدر شركة سوق الطاقة Cornwall Insight أن الأسعار ستظل مرتفعة حتى عام 2030 على الأقل، مشيرة إلى أنّ المملكة المتحدة تغلق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم وأن العديد من المحطات النووية تقترب من نهاية عمرها الافتراضي، في حين أن الحظر المفروض على النفط والغاز الروسي يفرض على البلد التنافس مع كل دولة أوروبية أخرى للحصول على الغاز الطبيعي من مكان آخر.
أما معدل التضخم فتجاوز 10% وهو أكبر ارتفاع له منذ 40 عاماً. ويتسارع انخفاض قيمة العملة والأجر الوسطي الحقيقي (بعد تعديله وفق التضخم) بنسبة 2.8% عن العام الماضي، وهو أسرع انخفاض للأجور الحقيقية في تاريخ بريطانيا (منذ بدأت الاحتفاظ بسجلات هذا المؤشر). ويرتفع مؤشر أسعار المستهلك بوتيرة أسرع مما في الولايات المتحدة وأوروبا. وربما يعزز هذا احتمال أن تصبح بريطانيا أوّل «حجارة» دومينو الانهيارات الاقتصادية الأوروبية الكبرى القادمة لا محالة.
وتعاني قطاعات النقل أزمة شاملة براً وبحراً وجواً. ويضرب العمال مطالبين بزيادات في الأجور لتعويض ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة.
وأدى إضراب عمال مترو الأنفاق في لندن، قبل أيام، إلى شبه شلل بشبكة النقل في العاصمة، وذلك بعد يوم من إضراب موظفي السكك الحديدية أيضاً.
وخلال شهر يوليو/تموز الماضي اضطر مطار هيثرو البريطاني (غربي لندن) إلى تحديد سقفٍ لعدد المسافرين عبره. علماً بأنه أكبر المطارات البريطانية، وثالث أكثر مطارات العالم ازدحاماً بحركة المسافرين. وسبب نقص مرونة المطار في التكيّف مع الاستيعاب لا يعود إلى إغلاقات وبائية مثلاً أو عدم توفر مساحة كافية (فمساحته أكثر من 12 كيلومتراً مربعاً) بل كشف في الحقيقة عن تراجع كمّي ونوعي باليد العاملة المخصّصة لأهم مطار في بريطانيا. فكيف الأمر إذاً مع مَرافق أخرى في البلاد؟ وقال جون هولاند كاي، الرئيس التنفيذي للمطار: «الزملاء الجدد يتعلمون بسرعة لكنهم لم يصلوا إلى السرعة الكاملة بعد. ومع ذلك، هناك بعض الوظائف الحيوية في المطار التي لا تزال تعاني من نقص كبير في الموارد، ولا سيما عمال المناولة الأرضية، الذين يتم التعاقد معهم من قبل شركات الطيران لتوفير موظفي تسجيل الوصول، وتحميل الحقائب وتفريغها». لذلك طلب المطار من شركات الطيران التوقف عن بيع الرحلات الجوية لبقية ذروة الصيف، وحدد سقفاً عند 100 ألف مسافر مغادر حتى 11 سبتمبر/أيلول 2022.
كما وتخطط المزيد من نقابات القطاعين العام والخاص لإضرابات في قطاعات أخرى منها: عمال البريد والمحامون وموظفو شركة الاتصالات وعمال الموانئ.
يحدث هذا بينما يركّز حكّام داونينغ ستريت (الذين يعيّنهم رأس المال المالي العالَمي مثل معظم حكام الاتحاد الأوروبي أيضاً) على التخبط في «السياسات النقدية والمالية» المأزومة للعالَم القديم الآفل وعلى إبقاء وثاق بلادهم مشدوداً من رقبتها إلى التحالف «المقدّس» مع واشنطن والناتو ومَركَبِهم الغارق.
ويبقى التدهور العام المتسارع للغرب وللدول التي ما زالت مصرّة على البقاء تابعة له، أمراً غير مقتصر على بلد واحد ولو تفاوتت الشدة والسرعة، ويمكننا التفكير بأنّ أحد العوامل المهمة على ما يبدو التي ربما تضيّق هوامش «الاحتياطي» التقليدي الذي كانت الإمبريالية تجد فيه «الرئة الحديدية» كمتنفسها المؤقت في الأزمات السابقة (أي إشعال الحروب والنهب الخارجي المباشر وغير المباشر)، أخذت تتقلص مساحاته الآن نسبياً، بتأثير ميزان القوى الدولي الجديد وبدء تشكّل علاقات دولية جديدة نقيضة لآلية التبادل اللامتكافئ، وباتت الحرب التي أشعلتها الإمبريالية في أوكرانيا تحديداً تحوّلاً نوعياً من ناحية أن نتائجها تنقلب هذه المرة استنزافاً يعقّد أزمات الإمبريالية، دون حتى أنّ يسمح لها بمتنفّس حلّ لأزمتها ولو مؤقتاً، مما يجبر قوى المركز الإمبريالي على الانكفاء ومحاولة التعويض النسبي بتشديد امتصاص دماء طبقتها العاملة في الداخل مما ينبئ بمزيد من الانفجارات الاجتماعية والسياسية القادمة داخل عقر دارها.