ما هو الهدف الحقيقي لزيارة بايدن للسعودية؟ خرافة «الناتو العربي»... قنبلة دخانية
بعد أن غاب الحديث عما يسمى «ناتو عربي»، والذي جاء مرافقاً لاتفاقات «التطبيع» التي وقعتها كل من الإمارات والبحرين عام 2020، عاد مجدداً للظهور عبر تقريرين أمريكيين، أحدهما هو مقابلة مع الملك الأردني نشرته CNBC يوم الجمعة الماضي 24/6، والثاني تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية يوم الأحد الماضي 26/6... وليتلو ذلك، وحتى اليوم، فيضٌ من «التحليلات» المتعلقة بالموضوع في مختلف وسائل الإعلام.
فيما يلي، سنبدأ باستعراض مختصر لما جاء في التقريرين الأمريكيين، ومن ثم ننتقل لمحاولة فهم سياق الحديث ومعانيه، ومدى جديته...
تقرير WSJ
تقرير وول ستريت جورنال، جاء بعنوان: «الولايات المتحدة عقدت اجتماعاً سرياً مع قادة عسكريين إسرائيليين وعرب لمواجهة التهديد الجوي الإيراني».
يتحدث التقرير عما قالت الصحيفة إنه اجتماعٌ جرى في آذار الماضي في شرم الشيخ المصرية، وضم مسؤولين عسكريين من كلٍ من «إسرائيل»، السعودية، قطر، الأردن، البحرين، مصر والإمارات.
وقال التقرير إنّ الجنرال فرانك ماكينزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، هو من مثّل الولايات المتحدة في الاجتماع. ووصف التقرير غاية الاجتماع بأنها «العمل ضد التهديد المشترك لهذه الدول من إيران»، وقال إن الاجتماع توصل بالنتيجة إلى تفاهم حول نظام إخطار متبادل، غير ملزم، اتجاه الهجمات الجوية المحتملة من إيران، سواء بالصواريخ أو بالمسيرات.
وإذ يصف التقرير الاجتماع المفترض بأنه خطوة غير مسبوقة، إلا أنه يقول إنّ الطريق ما يزال طويلاً أمام «تعاون عسكري» بين «إسرائيل» والعرب. وأنّ بايدن في زيارته الشهر المقبل للسعودية سيركز على التحديات الأمنية التي تواجه كلاً من السعودية و«إسرائيل». وأنّ «إسرائيل» نفسها، تأمل أن تؤدي زيارة بايدن للسعودية للوصول إلى اتفاق ما حول تعاون عسكري بقيادة الولايات المتحدة في مجال الدفاع الجوي على مستوى المنطقة.
التقرير نفسه، ينقل عن مسؤول إماراتي قوله: «الإمارات ليست طرفاً في أي تحالف عسكري إقليمي أو تعاون يستهدف أي دولة بعينها... علاوة على ذلك، فإن الإمارات ليست على علمٍ بأي مناقشات رسمية تتعلق بأي تحالف عسكري إقليمي».
وكان وزير الحرب «الإسرائيلي»، بيني غانتس، قد قال الأسبوع الماضي إنّ «إسرائيل تساعد في بناء تحالف دفاع جوي بقيادة الولايات المتحدة ضد طهران».
عبدالله وCNBC
في لقائه مع CNBC الأمريكية، وإجابةً عن سؤال المحاورة: «هل تعتقد بأننا بحاجة إلى ناتو للشرق الأوسط؟»، يقول الملك الأردني: «أعتقد أنه يمكن بناء ناتو بين الدول المتشابهة التفكير، وهو أمر لطالما آمنت به. لدينا في الأردن قواتٌ للتدخل السريع، وقد عملنا بشكل فعال مع الناتو حول العالم طوال سنوات. العلاقة مع الناتو من وجهة نظر أردنية هي علاقة شراكة حقيقية، وأود أن أرى مزيداً من الدول في المنطقة تنضم إلى هذه الشراكة. وأود أن أكون من أول الداعمين لإنشاء ناتو شرق أوسطي».
الرواية «الرسمية»
بغض النظر عما إذا كان اجتماع شرم الشيخ المزعوم قد حدث فعلاً أم لم يحدث -وهو بكل الأحوال اجتماعٌ بلا نتائج ملزمة وفقاً لما يقوله من يدّعون حدوثه- فإنّ السياق الأهم للحديث، سواء عن هذا الاجتماع، أو عن حديث الملك الأردني عن ناتو عربي، (وهما حديثان يصبان المصب نفسه)، هو زيارة بايدن للسعودية يومي 15 و16 تموز المقبل، أي بعد حوالي أسبوعين، والتي سيلتقي فيها مع مجموعة من الزعماء العرب، وذلك بعد زيارة يقوم بها للكيان.
وفي دوافع هذه الزيارة نفسها وظروفها؛ فهي تأتي في خضم المعركة العالمية التي تشكل أوكرانيا سطحها الخارجي، في حين تمتد جذورها عميقاً نحو جذور النظام المالي والسياسي العالمي، وبالتأكيد نحو الدولار ودوره العالمي، ونحو البترودولار بالضرورة.
الحديث الأعلى صوتاً ضمن الإعلام العالمي اليوم، هو أنّ بايدن -الذي حَمَل على السعودية وولي عهدها مما قبل توليه الرئاسة، ووعد بأن يحوّلها إلى دولة منبوذة- مضطرٌ اليوم لتقديم تنازلات لأنه يريد من السعودية أن ترفع إنتاجها من النفط، وذلك لتجنب أزمات كبرى يعيشها العالم الغربي بأسره، نتيجة العقوبات على روسيا ونفطها وغازها، وخاصة مسألة التضخم في الداخل الأمريكي، وبالتحديد أسعار الوقود. خاصة أننا على بعد أشهر قليلة من الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، والتي تشير استطلاعاتها منذ الآن إلى كارثة ستحل بـ«حزب الرئيس»، أي بالحزب الديمقراطي.
السياق الفعلي
ما قلناه أعلاه هو «الرواية الرسمية» للإعلام الغربي، وبتوابعه العربية أيضاً. وهي رواية ولاشك تحمل جزءاً من الحقيقة. بل إنّ موضوع الاتفاق النووي الإيراني، وما بات واضحاً أنه استعجال أمريكي نحوه، إنما يصب المصب نفسه، أي محاولة تحرير كميات أكبر من النفط والغاز لتدخل السوق العالمية وتخفض الأسعار.
ولكن مع ذلك، فإنّ النظر إلى الخريطة الحقيقية للصراع العالمي الجاري، تسمح لنا بوضع تصور آخر أكثر عمقاً، وربما أكثر قرباً من حقيقة الأمور.
القمم والاتفاقات الدولية والإقليمية، التي يعقدها الغرب مجتمعاً، وبزعامة الولايات المتحدة، لا يمكن فهمها بشكل حقيقي، إلا بوضعها في سياقها الدولي، كقمم واجتماعات وتحركات، بوجه ما تقوم به روسيا والصين وبريكس وحلفاؤهم، أيضاً على المستويات الدولية والإقليمية...
بشكل أكثر وضوحاً، فإنّ ما يهم السلطة الأمريكية، (ولا نقول بايدن، لأنّ اعتباره مركز السلطة أو حتى جزءاً منها، بات طرفة أكثر من أي شيء آخر)، ما يهم السلطة الأمريكية هو الوقوف في وجه عملية نسف النظام المالي والسياسي العالمي المهيمن عليه غربياً، والجارية على قدم وساق.
جوهر النظام الذي يجري نسفه، هو الدولار بوصفه عملة عالمية، وهو الأمر الذي يتم تحضير قنبلة هيدروجينية سلمية ضده من قبل مجموعة بريكس؛ نقصد الحديث عن R5 أو عملة الاحتياط الدولية الجديدة (راجع مقال مركز دراسات قاسيون حول الموضوع على الرابط المرفق).
وإذا كان الدولار قد استمر عملة عالمية بعد فك ارتباطه بالذهب مطلع السبعينيات، واستمر تالياً كعماد في المنظومة الدولية القائمة، منظومة النهب والتبادل اللامتكافئ، فإنّ ما سمح له بالاستمرار هو عوامل عدة بين أهمها القواعد العسكرية الأمريكية حول العالم والبترودولار، أي تسعير النفط، وتالياً المواد الخام ككل، بالدولار... وهو الأمر الذي بدأ إقراره بالذات في السعودية.
لذا، ليس من الصعب الاستنتاج، أنّ ما يهم السلطة الأمريكية، وبالأحرى السلطة الفعلية في الغرب ككل، لا يقتصر على زيادة إنتاج النفط، (ناهيك عن أنّ هذه الغاية نفسها، لن يتم الوصول إليها بالقدر المطلوب أمريكياً أي زيادة الإنتاج بملايين البراميل يومياً)، بل أهم من ذلك، هو أنّ الولايات المتحدة تريد أن تضمن استمرار البترودلار، أي استمرار تسعير النفط بالدولار، وفي السعودية بشكل خاص؛ ذلك أنّ احتمالات انتقال السعودية ومعها دول أخرى إلى التسعير بالعملات المحلية، أو بالعملة الجديدة حين ظهورها، باتت مرتفعة.
الحديث عن «إنجازٍ» ما، في مسار التطبيع مع الكيان، من شأنه أن يخفف من وطأة تراجع بايدن، وتراجع الولايات المتحدة، عن سياساتها المعلنة اتجاه السعودية، ولكن ما هو أهم من ذلك، فيما نعتقد، هو أنّ التطبيل والتزمير في مسألةٍ لا مستقبل ولا أساس لها (أي الناتو العربي)، هدفه هو أن يتحول إلى قنبلة دخانية واسعة الانتشار، تغطي الهدف الأساسي من الزيارة... ولكن من طرائف الأمور أن يتم الحديث عن تجربة «ناتو عربي» بالضبط في الوقت الذي يتآكل فيه «الناتو» الأصلي، ويعيش أزمة وجودية ستقود إلى تفككه في المدى المنظور...
تنازل أم توريط؟!
حتى إذا حاولنا النظر عن كثبٍ في «التنازلات» التي يوحي الأمريكان بأنهم مستعدون لتقديمها، فإنها ستبدو لنا بوصفها عمليات توريط كبرى أكثر من أي شيء آخر؛ ففي الوقت الذي تتقدم فيه المحادثات السعودية الإيرانية، وتتخلق الظروف الدولية المناسبة لإنهاء التناقض الحاد بين النظامين، تقفز الولايات المتحدة لتخريب كلّ شيء تحت مسمى «حماية الحلفاء»، وتحت مسميات «الناتو العربي» وغيرها.
إنّ الأساس الموضوعي للتناقض بين السعودية وإيران، لا يقتصر على التنافس الإقليمي، بل يمتد عميقاً نحو جذره في الصراع الدولي؛ فالتناقض بدأ مع الثورة الإيرانية، وقبله لم يكن موجوداً بشكله الحاد الذي عايشناه طوال العقود الماضية؛ وأصل المسألة هو أنّ النظامين-الدولتين، كانتا قبل ذلك التاريخ ضمن معسكرٍ دولي واحد، هو المعسكر الغربي، وكان تناقضهما محصوراً بحدود التنافس الإقليمي تحت الإدارة الأمريكية الواحدة. بعد الثورة الإيرانية، باتت الدولتان في معسكرين دوليين متناقضين...
ولكنّ الوقائع خلال السنوات العشر الماضية، بدءاً من الوقائع الاقتصادية، تقول إنّ السعودية نفسها، ومعها دول الخليج، قد بدأت بالانزياح بشكل تدريجي، من المعسكر الأمريكي... وحتى النظام الإيراني نفسه، قد انزاح شرقاً، ليس لحظة حدوث الثورة، بل بعدها بسنوات عديدة، ولكن بشكلٍ ثابت وأكثر رسوخاً.
ليس أدل على الانزياح التدريجي للسعودية ودول الخليج، من الوصول إلى حافة شقّ عصا الطاعة الأمريكية في مسألة الموقف من كل من روسيا والصين، سواء بالعلاقات الاقتصادية أو حتى الأمنية والعسكرية والسياسية.
هذه الظروف الجديدة، هي ذاتها التي سمحت خلال الفترة الأخيرة، بعودة شيءٍ من التقارب بين تركيا ومصر والخليج العربي، وهي ذاتها ما سمح بفتح حوارٍ وتفاوض بين السعودية وإيران.
جوهر المسألة
المنبوذ الوحيد (موضوعياً)، ضمن كل هذه المعادلات، ليس إلا «الإسرائيلي»، الذي لا أساس لوجوده واستمراره في المنطقة، سوى كونه قلعة أساسية للغرب، وخاصة الأنغلوساكسوني- الصهيوني، في منطقتنا.
بكلامٍ آخر، فإنّ كل الدول الإقليمية في منطقتنا، يمكنها، بهذا القدر أو ذاك، أن تعيد تموضعها بشكل بطيء وتدريجي، وبصعوبات كبرى بلا شك، ضمن الخارطة السياسية العالمية، لكن هذا الأمر ليس متاحاً للكيان الصهيوني، فهو إما غربيٌ في عالمٍ يمتلك فيه الغرب قوة كبرى ومؤثرة، وإما لا شيء...
وعليه، يمكننا أن نعيد صياغة الأمر ككل ضمن هدفين أساسيين لزيارة بايدن:
أولاً: محاولة حماية البترودولار وضمان استمراره... وضمناً، محاولة تأخير وإبطاء تطور علاقات دول المنطقة مع الصين وروسيا... وبشكلٍ ثانوي، مسألة زيادة إنتاج النفط بمقدارٍ ما.
ثانياً: حماية الكيان من المتغيرات القادمة عبر تشبيكه مع دول المنطقة، وليس إطلاقاً «حماية دول المنطقة من إيران» كما تقول الدعاية الغربية، وذلك عبر استنساخ «حلف بغداد» بصيغة جديدة، وتسمية جديدة، ضمن ظروف معاكسة تماماً، وغير مناسبة إطلاقاً.
وماذا لدى الأمريكان ليقدموه مقابل ما يريدون؟ لا شيء، سوى مزيد من المصائب والمآزق... وضمناً التهديدات.
هل ستنجح الزيارة؟
شكلياً، نعم ستنجح؛ إذ غالباً ما سيتم الحديث عن زيادةٍ متواضعة في إنتاج النفط، وسيتم إغراق الإعلام بالحديث عن اتفاقيات سرية لم تعقد وغالباً لن تعقد، تتضمن «إسرائيل»، وضمناً خرافة «ناتو عربي». ولكن بالجوهر، فإنّ الزيارة محكومةٌ بالفشل من حيث هدفيها الأساسيين اللذين ذكرناهما أعلاه...