بريطانيا واستعصاء عُنُق الزجاجة
بعد أكثر من عام ونصف العام على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا يزال بروتوكول أيرلندا الشمالية المُنظِّم للتجارة بين الاتحاد الأوروبي وأيرلندا الشماليّة وبريطانيا العظمى بعد "بريكست"، يُهدّد بمعركة تجاريّة فى القارة الأوروبيّة.
بدأت الحكومة البريطانية في 13 الشهر الجاري تحرّكها عبر عرض مشروع قانون أمام البرلمان يُعدّل وضع أيرلندا الشماليّة في مرحلة ما بعد "بريكست"، وليُعلن الاتحاد الأوروبي عن إجراء قانوني جديد ضد المملكة المتحدة كجزء من سلسلة الإجراءات المُتخذة ردًا على تحرك الحكومة الأحادي الجانب لإلغاء أجزاء من بروتوكول أيرلندا الشماليّة، وفقاً لصحيفة "الإندبندنت" البريطانيّة.
بيروقراطيّة ضروريّة
مشروع القانون الجديد الذي تقدمت به الحكومة البريطانيّة للبرلمان من شأنه أن يمنح الوزراء سُلطة تُمكّنهم من إجراء تغييرات "بيروقراطيّة ضروريّة" -وفقاً لرئيس الوزراء بوريس جونسون- في أربعة مجالات من البروتوكول، تغطي الجمارك وفحص سلامة الأغذية، وتطبيق لوائح الاتحاد الأوروبي، وتغييرات ضريبة القيمة المضافة، ودور محكمة العدل الأوروبية.
إلا أنّ هذه الخطوة قد أحدثت صدمة لدى عدة جهات أبرزها: الاتحاد الأوروبي، والحزب الوحدوي الأيرلندي، وحزب "شين فين" القومي الذي فاز بالصدارة في انتخابات أيرلندا الشماليّة، حيث رأى الاتحاد الأوروبي أنّ هذه الخطوة خرق للقانون الدولي إذ سوف تتراجع بريطانيا بشكل أحادي عن اتفاق سبق إبرامه، وهدد الاتحاد بأنّ خطوةً مشابهة سوف تهدد الأمن والاستقرار في أيرلندا وفي أوروبا، في إشارة إلى إمكانيّة عودة المواجهات بين الوحدويين والجمهوريين في أيرلندا.
أما الحزب الوحدوي الأيرلندي فقد أعلن تغيّبه عن جلسات انتخاب رئيس جديد للجمعية الوطنيّة الأيرلنديّة إلى حين إعلان الحكومة البريطانيّة تعديل البروتوكول الخاص بأيرلندا، فهو في عرف هذا الحزب تخلٍّ عن الوحدويين الأيرلنديين وفصلهم عن العرش البريطاني، في المقابل، أكد حزب "شين فين" القومي والمؤيد لهذا البروتوكول أنّ أيّ تعديل فيه سيكون مرفوضاً، كونه سيُحدث تمييزاً بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وهو ما يعارضه الحزب القومي الذي يرى في الشقين أرضاً واحدة ستتوحد عاجلاً أم آجلاً.
في حين حذرت مجموعة الضغط التجاريّة الأولى في المملكة المتحدة -وفقاً لصحيفة "الغارديان" البريطانية- الحكومة من أنّ تهديدها بتجاوز البروتوكول قد يُجبر الشركات على التفكير مرة أخرى في الاستثمار في بريطانيا ويسبب تراجع في الاقتصاد، كما قال اتحاد الصناعة البريطاني (CBI) إنّ المحادثات الفوريّة مع الاتحاد الأوروبي -"وليس المبالغة السياسيّة" ضروريّة لحل المأزق بشأن البروتوكول، الذي يحكم التجارة بين الاتحاد الأوروبي وأيرلندا الشماليّة وبريطانيا بعد "بريكست".
أخضر - أحمر
بعد حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي على أساس استعادة سيادة البلاد، اصطدمت بريطانيا بواقعٍ صعب يتعلق بوضع أيرلندا الشمالية، حيث تمّ الاتفاق مع الأوروبيين ضمن بند حركة السلع والبضائع على أن يكون تفتيش البضائع التي ترد من المملكة المتحدة على الجزيرة الأيرلندية في البحر سواء كانت موجهة إلى أيرلندا الشماليّة أو جمهورية أيرلندا مراعيةً للمعايير الأوروبيّة، ولكن الحكومة البريطانيّة ترى في هذا البند تقسيماً للسوق البريطانيّة وتمييزاً ضد أيرلندا الشماليّة التابعة للمملكة المتحدة، وإنقاصاً من سيادة المملكة المتحدة على مياهها الإقليميّة أيضاً.
ولهذا اقترحت بريطانيا -وفقاً للمشروع السابق- تخصيص "خط أخضر" للسلع البريطانيّة الموجهة لأيرلندا الشماليّة والتي لا تخضع لأي مراقبة أو معايير أوروبيّة، وفي المقابل تخصيص "خط أحمر" لتلك الموجهة لجمهوريّة أيرلندا وتخضع للمراقبة الأوروبيّة، إلا أنّ الأوروبيين يرفضون هذا الخيار تحت مبرر أنّ الطريق بين المملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية هو من الطرق التي تُستغل في التهريب.
كما رفضت المملكة المتحدة أن يكون القرار النهائي في أي خلاف تجاري ينشب بين المملكة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالوضع التجاري في أيرلندا لمحكمة العدل الأوروبيّة، وأن يُلجأ إلى التحكيم الدولي عند نشوب أي خلاف بين بروكسل ولندن.
عنق الزجاجة
يشهد الوضع المعيشي في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أزمةً حقيقيّة في الوقت الراهن، والدخول في صراع تجاري سيدفع بمعدلات التضخم إلى مستويات ستترك بصمات شديدة السلبيّة على معدلات النمو في المملكة والاتحاد، إذ يمكن لكل طرف استهداف مجموعة من المنتجات الحساسّة لدى الطرف الآخر لتعظيم تأثير العقوبات، كما أنّ تكثيف الإجراءات البيروقراطيّة حتى من دون رفع سعر التعرفة الجمركيّة سيجعل النشاط التجاري أكثر صعوبة على الشركات التي تتعامل في السوقين الأوروبيّة والبريطانيّة، إذ يكفي أن زيادة الإجراءات الروتينيّة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت مسؤولة عن انخفاض مستويات التصدير بأكثر من 10 في المائة في الوقت الراهن مقارنةً بـ2019.
كما أنّ "بريكست" قد أدى في وقته لفتح جرح لم يندمل، فإن تداعيات إنجازه الراهنة بما يتضمّنه من إجراء تعديلات على البرتوكول من عدمه قد أعادت للواجهة وبقوة أزمة الحدود التي تُقسّم الجزيرة الإيرلنديّة، ولتذكّر الإيرلنديين مُجدداً بأزمةٍ لم تحل يوماً، ما يفتح المجال لأن يتحول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى أزمة عميقة بحد ذاتها أشبه بـ "استعصاء عنق الزجاجة"، ولتضاف إلى مجمل الأزمات التي تُحيق بها، وهو ما يضع جميع الأطراف أمام الحقيقة التاليّة" بأنّه لن يُنجز "بريكست" طالما بقيت القضيّة الإيرلنديّة دون حل.