السعودية- تركيا: مصالح متعادلة ومرحلة جديدة
زار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تركيا يوم الأربعاء 22 حزيران، وذلك لأول مرة منذ 4 سنوات بعد اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، الذي تحولت حادثة قتله إلى مشجب علقت عليه دول عديدة توتر علاقاتها مع السعودية، والذي يعود لأسباب أخرى متنوعة، وبين هذه الدول كانت تركيا.
كما أن هذه الزيارة تأتي جواباً على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السعودية في 28 نيسان من العام الجاري، والتي طفت خلالها حالة من عدم اليقين حول طبيعة التطورات الجارية، ومدى جدية العمل نحو عودة العلاقات بين أنقرة والرياض، فهل أعطت زيارة بن سلمان مؤشرات جديدة، أو حاسمة بهذا المعنى؟
بعض تفاصيل الزيارة
أطلقت وسائل الإعلام وبعض المحللين توصيفات وتحليلات رافقت زيارة أردوغان السابقة إلى السعودية، وقد سيطر الرأي الذي يشير ويؤكد وجود برود سعودي اتجاه الجانب التركي، مستندين بذلك إلى إشارات شكلية كطبيعة الاستقبال والمودّة البادية خلال الزيارة، كان مصدرها بشكل رئيسي الإعلام الغربي والسعودي، وهو ما تم استكماله خلال زيارة بن سلمان الأخيرة أيضاً، حيث حاول الإعلام السعودي إظهار بن سلمان كبطلٍ من نوعٍ خاص، وتظهير الجانب التركي ضعيفاً أمامه، لكن مجمل هذه الإشارات التي لم تتجاوز بعض التفاصيل البروتوكولية رغم أهميتها، لا تُظهر بالضرورة المضامين الحقيقية لهذه الزيارة ومجرياتها، وخصوصاً أن جزءاً من هذه التحليلات يجري ضخها بشكل منظم من قبل وسائل الإعلام، والتي تسعى إما لإرسال رسائل داخلية محددة لتدعيم خطوات القيادة السياسية للبلاد، وإما أن تكون رسائل إعلامية خارجية تهدف لخلق مزاج عام محدد حول التطورات الجارية في العلاقات السعودية التركية، أو غيرها من القضايا في مناسبات أخرى.
بمعنى آخر، فإن الجانب الشكلي لكلٍّ من الاجتماعين- وإن كان هذا الجانب حقيقاً ومتفقاً عليه- لا يمكن أن يكون أساساً أو مفتاحاً لأي تحليل سياسي جدي فيما يجري.
مضامين الاجتماع
على العكس من زيارة أردوغان السابقة، التي لم يتخللها أي مؤتمر أو بيان صحفي مشترك، وذلك على الرغم من عدد القضايا التي جرى بحثها، صدر عن الاجتماع الأخير بيان صحفي مشترك أوضح أن «تركيا والسعودية تؤكدان عزمهما إطلاق حقبة جديدة من التعاون في العلاقات الثنائية بما في ذلك السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية... نعتزم مواصلة التعاون وتطويره على أساس الأخوة التاريخية بما يخدم مستقبل المنطقة» وذكر أيضاً «اتفق الجانبان بخصوص تفعيل الاتفاقيات الموقعة بينهما في مجالات التعاون الدفاعي، بشكل يخدم مصالح البلدين، ويساهم في ضمان أمن واستقرار المنطقة. كما قرر الجانبان تعميق التشاور والتعاون في القضايا الإقليمية من أجل تعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة».
وأوضح البيان، أن البلدان اتفقا على جملة من المسائل، منها: تفعيل أعمال مجلس التنسيق السعودي التركي، والتعاون في مجالات الطاقة التي تتضمن النفط وتكريره والكهرباء والطاقة المتجددة، والتعاون في مجال السياحة وتطوير حركتها، وتسهيل التجارة والبحث عن فرص الاستثمار وغيرها.
وبمعنى آخر ومختصر، فإن هذا البيان بمعانيه- بصرف النظر عن كل ما قيل حول الزيارتين- قد وضع الأساس العملي لتطبيع شامل للعلاقات بين البلدين على كافة المستويات من جهة، ودون تفضيل أو تمييز مصالح طرفٍ على آخر من جهة ثانية، ودون الخضوع أو التلميح لمصالح أية دولة ثالثة دولية، ودون اشتراط لأي موقف يتعلق بأي ملف أو أزمة إقليمية أو دولية، وقد جاء هذا البيان الصحفي بمثابة إعلان عن وصول البلدين إلى مفاتيح أساسية يمكن البناء عليها من الآن فصاعداً، ليضع حدّاً للتحليلات القاصرة التي ذُكرت في البداية.
هذا البيان يُزعج من؟
يأتي تطبيع العلاقات السعودية- التركية انطلاقاً من مصالح البلدين بشكل واضح ومتساوٍ، فبينما تحاول تركيا تمتين علاقاتها الإقليمية، ومعالجة مشاكلها، مدفوعةً نحو ذلك وبشكل موضوعي بسبب التغيرات الكبرى الجارية في المنطقة أولاً، وبسبب أزمتها الاقتصادية ثانياً، تتحرك الرياض بهذا الاتجاه وللأسباب نفسها أيضاً ضمن الخصوصية السعودية وموقعها الدولي، فبينما تسعى أنقرة للحدّ من تدهور ليرتها كأحد الأمثلة فقط، تسعى الرياض لتنويع مستهلكي سوقها النفطي، ومن جهة أخرى، خارجية، فإن كلا البلدين تضررا بشدة جراء الأزمات الإقليمية الحاصلة، ومنها: اليمن وسورية وليبيا والعراق وغيرها، بما تضمنته هذه الأزمات من خلافات سعودية تركية، وبدفعٍ وتحريضٍ أمريكي بات يتناقض مباشرةً مع مصالح البلدين ويهدد استقرارهما، وعليه فإن هذا التطبيع وهذا البيان ورسالة تعزيز الاستقرار والسلام، تتناقض وتتعارض مباشرة مع مصالح واشنطن، سواء في كلٍ من البلدين على حدة، أو فيما يحمله هذا التطبيع من تأثيرات على الملفات الإقليمية المشتعلة، وخصوصاً أن توقيت هذه الزيارة يحمل في جوانبه إشارات سياسية واضحة قبل زيارة الرئيس الأمريكي المرتقبة إلى السعودية.
جزء من كل: مرحلة جديدة
لا يمكن القول بأي شكل من الأشكال، إن السعودية باتت تنتهج سياسة مستقلة عن واشنطن، إلا أنها ودون أدنى شك قامت بخطوات جدية بهذا الاتجاه، ربما أوضحها حتى الآن هو علاقاتها المتعمقة مع كل من روسيا والصين، وخاصة موقفها مما يجري في أوكرانيا. وبهذا المعنى فإنّ تطبيع العلاقات السعودية التركية، وأياً تكن «التحليلات» التي تحاول حشره في خانة «توحيد الصف الغربي»، فإنّه في واقع الأمر يصب بالضد من هذا الصف، وبالضد من الأمريكي خصوصاً على المدى المتوسط؛ إذ لم يعد لدى الأمريكي في منطقتنا سوى افتعال الأزمات والتوتير بين مختلف الدول، أداة أساسية لاستمرار النفوذ.
يشكل هذا التقارب بين البلدين، خطوة جديدة في الاتجاه المعاكس لأهداف واشنطن، شأنه في ذلك شأن التقارب السعودي الإيراني، والإيراني التركي، وغيرها من المؤشرات في هذا السياق.
هذه التقاربات- وما يرافقها من صيغٍ للتعاون مع دول الشرق الصاعدة- تشكّل نواة جنينية لشكل جديد من العلاقات الإقليمية والدولية، والتي تحوّل التراجع الأمريكي بالنسبة لها إلى فرصة استراتيجية ستساهم- مع وجود العامل الذاتي الإقليمي- بحلحلة جملة من الأزمات التي عصفت بالمنطقة لعقودٍ مضت.