بريكس ومينت... لعالَم أوسع من الغرب وأكثر أملاً
في عام 2001، صاغ أحد اقتصاديي غولدمان ساكس، ويدعى جيم أونيل، مصطلح «بريك BRIC» لوصف مجموعة من الدول التي اعتقد بأنّها ستنمو من كونها «اقتصادات صاعدة» لتصبح قوى مهيمنة على التجارة العالمية. تنبّأ أونيل في ذلك الوقت بأنّ دول بريكس سوف تتفوّق على ما كان يُعرف في ذلك الحين باسم دول مجموعة الثماني.
ترجمة: قاسيون
لكن عندما تنبأ أونيل بذلك، كانت روسيا موجودة أيضاً في مجموعة الثماني مع كلّ من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا العظمى وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان، وضمن دول بريك (دون جنوب إفريقيا بعد) مع البرازيل والهند والصين.
في السبعينيات كان هناك إشارات «للعالم الأول» و«العالم الثالث»، لكن نادراً ما أشار أيّ أحد للعالم «الثاني»، وكأنّ لا أحد موجود ضمن العالم الثاني. أشار البعض إلى أنّ روسيا كانت دائماً عالقة بين لعنتين لأنّها تقع عند أقصى هوامش أوروبا الصغيرة ولكن الثريّة، وآسيا الشاسعة ولكن الفقيرة.
اللعنة الأولى هي لعنة «أوراسيا»، التي وصفها تيموفي بورداتشيف بأنّها «عجز روسيا عن تعريف نفسها ككيان واحد»، والميل غير الناجح لبناء أرضيّة ثقافية أو اجتماعية مشتركة للكتل الغامضة المعروفة باسم «أوراسيا».
أمّا اللعنة الثانية فهي لعنة «أوروبا»، والتي تختصر التاريخ الطويل للعلاقات بين روسيا وأوروبا، ومحاولات بناء مؤسسات مشتركة، والاعتماد على النظام العالمي المتمركز حول الغرب.
عندما يتعلّق الأمر بمسائل العرق، يمكن وصف الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا بأنّها قتال بين دولتي «بيض». لكن في الحقيقة، ورغم أنّ داعمي زيلينسكي يفضلون رفض أيّ حديث عن «إزالة النازية» باعتباره تضليلاً روسياً، فالشعب الروسي هو مزيج من الهجرات والغزوات من آسيا، وقد تمّ تصنيف الروس من قبل النازيين في ألمانيا من قبل على أنّهم نسل أقلّ شأناً من البيض، وكذلك الحال في بعض أجزاء أوروبا الشرقية.
روسيا كانت مستعدة للانفصال عن الغرب
بدأت روسيا الاستعداد للانفصال عن الغرب منذ ما قبل القرن الحالي. ففي الوقت الذي لم يولِ فيه الغرب سوى الحد الأدنى من الاهتمام لروسيا، استثمرت روسيا الوقت والمال لبناء نظام دعم عالمي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة عبر بنك التنمية، الذي تأسس في عام 2015، والذي ذهبت 18٪ فقط من قروضه المعتمدة إلى روسيا بينما ذهبت 82٪ منها إلى إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
تمّ تخصيص القروض للخدمات الأساسية: النقل (29٪)، المياه / الصرف الصحي (22٪)، الاحتياجات الحضرية والاجتماعية (15٪)، الطاقة (26٪)، والاستدامة (8٪). من خلال الاستثمارات في المراكز الإقليمية الرئيسية - البرازيل وجنوب إفريقيا والصين والهند - وضع الروس بشكل متعمّد مفاصل ثلاث قارات كبيرة في أيدي القادة الذين لديهم التزامات تجاه موسكو. يشرح هذا سبب رفض العديد من الدول للعقوبات التي دعت إليها الولايات المتحدة.
أشار جيوفاني باربيري في وقت مبكر من عام 2015، إلى أنّ روسيا تعمل بالفعل مع الصين والهند، بالإضافة إلى دول أخرى، على «تدويل العملة المحلية [للصين]». كانت خطة إنشاء اقتصاد عالمي خالٍ من هيمنة الدولار قيد الإعداد قبل فترة طويلة من العقوبات الأخيرة بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
من خلال تأسيس البنوك، واتفاقيات البنية التحتية المشتركة، والصفقات التجارية، وبدائل الدولار، اتخذ الكادر الروسي قرارًا في وقت مبكر من عام 2001 مفاده أنّه سيتعين عليهم المراهنة على الجنوب العالمي باعتباره موطنهم السياسي المستقبلي، بدلاً من الغرب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
إحدى الميزات التي تأتي مع وجودها على هوامش آسيا هي الدور الفريد لروسيا كحلقة تجمع بين الهند والصين. ستواجه الهند والصين صعوبة في تشكيل تكتل مع بعضهما البعض بسبب الخلافات الحدودية الساخنة، لكن روسيا تمكنت من الحفاظ على علاقات جيدة مع كل منهما، ممّا جعل من الممكن ربط اقتصادي الهند والصين الضخمة بشكل غير مباشر عبر روسيا، في كتلة قوية بما يكفي لتحدي الغرب المعتمد على الدولار.
روسيا لا تولي الغرب الاهتمام الذي يعتقدونه
قد يكون العديد من الأمريكيين مخطئين بشأن من يشكل الجمهور الرئيسي لروسيا. أثناء التغطية المحمومة باللغة الإنكليزية لأوكرانيا، تشير التصريحات "الأخلاقية" الصارمة من قبل الرئيس بايدن وغيره من القادة الغربيين إلى أنّ الغرب يعتقد أن روسيا تستمع إلينا وتقدّر الأمل في البقاء في نعمة طيبة بصحبتنا.
مما يمكنني رؤيته، كانت الدبلوماسية الروسية مشغولة للغاية ببناء شبكاتها العالمية مع قوى غير غربية، وربما تعطي الأولوية للجماهير الآسيوية والإفريقية والأمريكية اللاتينية، لأن هؤلاء هم الأشخاص الذين يشغلون موطن العلاقات الدولية لروسيا في المستقبل. مهدت روسيا المسرح بحكمة حتى يتمكن الغرب من استبعاد موسكو بينما لا يستطيع العالم النامي فعل ذلك. إذا سعت موسكو لاستعادة موافقة الغرب عليها، فسيكون ذلك مضيعة للوقت مع فرصة ضئيلة للنجاح، لذلك من المنطقي أن يختار القادة الروس تحركاتهم بناءً على كيفية ظهورهم في أماكن مثل مومباي ويوهانسبرغ وشنغهاي وفورتاليزا.
بالغ الغرب في القوة الاقتصادية بسبب الخوف العسكري
يبدو أن الولايات المتحدة بالغت في تقدير قدرتها على السيطرة على العالم من خلال وسائل غير عسكرية «اقتصادية في الغالب». عندما تم تشكيل وكالة المخابرات المركزية CIA من "مكتب الخدمات الاستراتيجية" OSS بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، كانت روسيا والصين والولايات المتحدة حلفاء قد خرجوا للتو من مذبحة الثلاثينيات والأربعينيات. لقد تصوروا عالماً لا يحلّ خلافاته بالحروب البرية أو البحرية أو الجوية التقليدية. ستحوّل الأسلحة النووية التسلح العسكري إلى مفهوم مجرّد، جزء من العمليات النفسية ولكن ليس الأدوات التي يمكن استخدامها بشكل واقعي في المعركة.
أعطى نمو الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الأخرى للبلدان الأمل في الدبلوماسية كمنفذ غير عنيف للإحباط والعدوان الدوليين. لقد ضمنت الطفرة في الاستخبارات والعمليات السرية أن المهيمنين مثل الولايات المتحدة يمكن أن يفرضوا إرادتهم على الدول التي تسيء التصرف من خلال القنوات الدبلوماسية أو الاستخباراتية. يمكنهم عزل أو نبذ أو معاقبة «اللاعبين السيئين» على المسرح العالمي. يمكنهم إرسال جواسيس لتخريب النوايا السيئة للاعبين السيئين، وحتى إثارة الثورات أو الاغتيالات.
لكن هناك شيء واحد يبرز الآن: منذ الحرب العالمية الثانية، أدّى عدم نجاح الولايات المتحدة في الحروب المعقدة والتقليدية إلى خسائر فادحة. إن النجاح العابر للعمليات السريعة مثل غزو بنما عام 1989 لا يمكن أن يمحو خسارات كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان. انتهت الحرب الكورية بهدنة مفترضة وظلت كوريا الشمالية على حالها، مما يشكل تهديدًا دائمًا لكوريا الجنوبية. وشهدت فيتنام والعراق وأفغانستان قيام الولايات المتحدة بالغزو ثمّ الانسحاب دون تحقيق أهدافها. لقد أدت التكاليف الباهظة والضغط المرهق على الأصول البشرية إلى إضعاف جيشنا لدرجة أننا سنواجه مشكلة في القتال المفتوح ضد روسيا وحلفائها.
إنّ الانخراط في مناورات دبلوماسية واقتصادية بوصفه تفضيلاً مريحاً كبديل عن الحرب العسكرية شيء واحد، وأن تكون عالقًا بهذه الأشكال المخنثة من الحرب اللاعنفية لأن الجميع يعلم أنك خسرت حربًا استمرت عشرين عامًا في أفغانستان وليس لديك الشجاعة للانخراط في صراع عنيف شيء آخر تماماً. يمكن لروسيا أن ترى الفرق. وقد أصبح من الواضح أن إدارة بايدن لديها ثقة كبيرة في الوسائل غير العسكرية لترهيب بوتين. يبدو أن العقوبات أضرّتها للحظة، ثم عادت روسيا للوقوف على قدميها.
أستطيع أن أفهم السبب، بعد قراءة العديد من المقالات التي تتناول بالتفصيل العمل التفصيلي الذي قامت به روسيا منذ عام 2000 لعزل نفسها عن العقوبات واحتجاز الرهائن الماليين. لم تنجح العزلة الدبلوماسية في هذه المرحلة لأن عدد الدول الراغبة في عزل روسيا يتضاءل مقارنة بعدد الدول التي تفضّل مواصلة التجارة مع روسيا كما فعلت دائماً.
إغلاق باب الغرب وفتح باب بريكس
لم تعد مجموعة BRIC و G8 موجودين، وحلّ مكانهم دول البريكس BRICS ومجموعة السبعة. في عام 2009، قررت المجموعة الرباعية الأصلية لـ BRIC الحصول على اسم رسمي، وشكلوا شراكة بين الأقاليم. في العام التالي، أدخلوا العضو الخامس: جنوب إفريقيا.
بعد أربعة أعوام من تحوّل بريك إلى بريكس، أصبحت مجموعة الثماني الكبار، السبعة الكبار. لماذا خسر الكبار عضواً؟ كان العام هو ٢٠١٤ عندما قرر الغرب فرض عقوبات على روسيا وإخراجها من الكبار. قبل ثماني سنوات من الآن، تمّ رسم خطّ فاصل بين عالمين اقتصاديين: أحدهما تقوده الولايات المتحدة: غني يوحده نظام بريتون وودز المال. والآخر بقيادة الصين إلى حدّ كبير، ولكن أيضاً الهند وروسيا بطريقتهم الخاصة: أكثر تواضعاً في الاستهلاك، في طريقهم للتنمية ولكن لم يحققوا ذلك بعد. وبشكل ملحوظ، متحدون قليلاً وراء الحاجة لإنشاء نظام بديل لبريتون وودز.
من المتوقّع أن تدعم مجموعة بريكس أربعة اقتصادات ناشئة أخرى تُعرف باسم مينت MINT: المكسيك وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا، وهم الذين يصفهم البعض: بتجمّع الجيل القادم من الاقتصادات النامية التي ستحقق أهمية كبيرة.
بينما لم نكن نولي اهتماماً، استجابت روسيا لعقوبات عام 2014 من خلال العمل مع مجموعة بريكس ومينت وغيرهما لتشكيل بنوك التنمية كبديل أكثر جاذبية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. شكّل الروس تحالفات إقليمية تميل إلى التخلص من القيود الإيديولوجية لصالح العلاقات العملية ذات المنفعة المتبادلة.
قد يخيفك ذلك «كأمريكي»، لكن روسيا كانت شاملة ومنهجيّة بشأن إنشاء عالم بديل لا تكون فيه السيادة للدولار، ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تملي فيه على الناس ما يجب عليهم فعله، ويمكن للبلدان الانخراط في العلاقات الدولية دون العبء الممل لمرحلة ما بعد النهضة الاستعمارية الأوروبية. إنه لأمر مدهش أن الاقتصادات الناشئة التي لا تشارك سوى القليل كانت قادرة على بناء ما بنته.
بإدانة روسيا بهذه القوة وفصلها عن العالم الذي نعرفه، ربما نكون قد لعبنا دوراً في تحقيق مصلحة روسيا، مما منح الروس الدافع الصحيح لفصلنا عن العالم الذي لا نعرفه: عالم بريكس ومينت.
بتصرّف عن:
Why BRICS and MINT Might Save Russia and Sink the US