موسكو وواشنطن: معركة «الضمانات الأمنية» في لحظة التصعيد القصوى
تمر الأزمة بين الولايات المتحدة وروسيا حالياً فيما يبدو ذروة بالتوتر العسكري والدبلوماسي. ولكن يجب ألّا ننسى بأنّ هذا الشكل التصعيدي له محتوى يتعلق بنضوج حلول تاريخية باتت مستحقة وبإعادة ترتيب أحجام القوى عالمياً إلى ما يتناسب مع وضعها الجديد، باتجاه اعتراف الجميع بزيادة حجم من ازداد قوة وبتقلص حجم من انحدر وضعف. ولذلك لا بدّ من العودة إلى القضايا الاستراتيجية التي تضمنتها مقترحات موسكو للضمانات الأمنية بالأساس كما نشرت في 17 كانون الأول 2021 وكيفية تطوّر الأخذ والرد بشأنها بين موسكو وواشنطن (وبالتالي الناتو).
بات معروفاً أنّ موسكو تقدمت أساساً بوثيقتين: مسودة معاهدة ثنائية مقترحة بين روسيا والولايات المتحدة، ومسودة اتفاقية بين روسيا والناتو. وسنركز هنا على المعاهدة الثنائية لأنها الأهم كون موقف واشنطن هو القيادي والحاسم حتى الآن في حلف الناتو التابع لها بنهاية المطاف. مشروع المعاهدة الثنائية الذي قدّمته موسكو في أقل من 1000 كلمة، يتألف من مقدمة تذكر أربع اتفاقيات سابقة بين واشنطن والاتحاد السوفييتي تتعلق بقضايا أمنية ولا سيما الحد من التسلح النووي وتجنب الحرب النووية، ثم 8 مواد متكاملة.
مقترحات اعترفت بها واشنطن ولكن...
وفق الردّ الجديد لموسكو مؤخراً (ردّاً على ردّ واشنطن الذي نشر بشكل تسريب في 2 شباط في صحيفة إلباياس الإسبانية) فإنّ واشنطن وفق ما لاحظ الردّ الروسي (وفق النص الذي نشرته صحيفة كوميرسانت في 17 شباط وقالت إنه نص الرد الكامل الذي يفترض أنه نفسه الذي تحدث عنه لافروف بأنّه من 10 صفحات) – وفق هذا الرد الجديد، فإنّ واشنطن قد أبدت «استعداداً للعمل بشكل جوهري على تدابير الحدّ من التسلح الفردي وتقليل المخاطر، وفي الوقت نفسه، يُسجَّل أنّ واشنطن قد اعترفت أخيراً بمبرّرات عدد من المقترحات والمبادرات الروسية في هذه المجالات والتي تمّ طرحها في السنوات الأخيرة». هذا هو غالباً ما قصده مسؤولو الخارجية الروسية في تصريحاتهم الأخيرة، حيث أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مناسبتين على الأقل إلى وجود اقتراحات روسية وافقت واشنطن عليها ولم تكن توافق عليها سابقاً، كما وأعادت المتحدثة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا في أحد تصريحاتها الملاحظة نفسها أيضاً.
ولكن موسكو استدركت في ردّها نفسه لتؤكّد على ما يلي: «نحن نتحدث عن إنشاء أساسٍ مستقر لهيكل أمني في شكل اتفاقية بشأن امتناع الناتو عن اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تضرّ بأمن روسيا. وهذا لا يزال حتمية لا تتغير بالنسبة لنا. في غياب مثل هذا الأساس القوي، لن تكون التدابير المترابطة – التي تنطوي على الحدّ من الأسلحة والحدّ من المخاطر العسكرية التي تضمن ضبط النفس وإمكانية التنبؤ بالنشاط العسكري في مناطق منفصلة، وحتى لو أمكن الاتفاق عليها – مستدامةً على المدى الطويل. وبالتالي، فإنّ المقترحات الروسية ذاتُ طبيعة شاملة وينبغي النظر فيها ككلّ دون تمييز مكوناتها الفردية... نودّ التركيز على عدم وجود ردّ فعل بنّاء من جانب واشنطن وبروكسل على أهم عناصر المبادرة الروسية التي حدّدناها بوضوح. أما بالنسبة لقضايا الحدّ من التسلُّح، فنحن نعتبرها حصرياً في السياق العام لنهج شامل وبشكل حزمة لحل مشكلة الضمانات الأمنية».
أساسيات موسكو التي ما زالت واشنطن ترفضها
ما زالت واشنطن عملياً، كما يتأكد من الوثائق، ترفضُ وتشوِّه مضمونَ المادة الأولى من مشروع المعاهدة الثنائية الروسية-الأمريكية المقترحة من موسكو، والتي تؤكد على مفهوم «الأمن غير القابل للتجزئة والمتساوي وغير المنقوص». فالشرح الروسي لهذا المفهوم هو أنّ على الطرفين الالتزام بعدم المشاركة أو الدعم لأيّ «أنشطة تؤثر على أمن الطرف الآخر» وكذلك التوقف عن تنفيذ أي إجراءات في إطار تحالف أو منظمة دولية إذا كانت «يمكن أن تقوّض المصالح الأمنية الأساسية للطرف الآخر». كما وتتكامل المادة الأولى بشكل بارز مع المادة الرابعة التي تتضمّن عملياً إلزاماً صريحاً للولايات المتحدة بإغلاق باب ضمّ أيّ من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق إلى حلف الناتو وإيقاف توسعه شرقاً، وعدم إنشاء أية قواعد عسكرية في هذه الجمهوريات ولا حتى «استخدام البنية التحتية» لهذه الجمهوريات «لأية أنشطة عسكرية أو تطوير تعاون عسكري ثنائي معها».
أما ردّ واشنطن الرسمي فجاء برفضٍ واضح لمضمون هاتين المادتين 1 و4 من المقترح الروسي، كما نصّت وثيقة الردّ الأمريكية بأنّ «الولايات المتحدة تواصل دعمها الثابت لسياسة الأبواب المفتوحة لدى الناتو» (المقطع الثاني من المقدمة) مصرّة على ما سمّته «الحق الملازم ضمنياً لكل واحدة من الدول المشاركة بأنْ تكون حرة في اختيار أو تغيير ترتيباتها الأمنية، بما في ذلك المعاهدات والأحلاف» (المقطع الرابع من المقدمة). أيْ أنّ واشنطن تطرح عملياً إطلاق هذه «الحرية» بلا قيد أو شرط للانضمام للحلف، دون مراعاة ما أصرّت عليه روسيا وهو ألّا يتم تهديد «المصالح الأمنية للطرف الآخر»، وبذلك تكون موسكو على حقّ في انتقادها لواشنطن بسبب هذا التفسير المنقوص لمفهوم «الأمن غير القابل للتجزئة».
وتَسُوق واشنطن في ردّها (بمقطعه الثالث) على المادة 2 من المقترح الروسي الذي أكّد على الالتزام «بالمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة»، اتهاماتها المكتوبة لروسيا بأنها خرقت ميثاق الأمم المتحدة لأنها «احتلّت القرم» و«غذّت النزاع في الدونباس». وعلى ذلك تضمّن الردّ الروسي الجديد بأنّ تهمة «احتلال القرم» لا تصمد أمام التدقيق، موضحةً بأنه «في عام 2014، حدث انقلاب في كييف، حيث توجّه المبادرون به، بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها، إلى إنشاء دولة قومية تنتهك حقوق السكان الناطقين بالروسية، بالإضافة إلى المجموعات العرقية الأخرى... فليس من المستغرب في مثل هذه الحالة أن يصوّت أهالي القرم على إعادة التوحيد مع روسيا. تم اتخاذ قرار شعب القرم وسيفاستوبول بالعودة إلى الاتحاد الروسي بالإرادة الحرة في إطار ممارسة حق تقرير المصير المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. لم يتم استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة. تم إغلاق ملف مسألة انتماء شبه جزيرة القرم».
كما وتضمّن رد روسيا نفسه حول اتهام واشنطن لها بإشعال النزاع في الدونباس، بأنّ أسباب النزاع «محلية بحتة في طبيعتها، ولا يمكن التوصل لتسوية إلا بتنفيذ اتفاقيات مينسك وحزمة الإجراءات التي تم تحديد الأولوية والمسؤولية عن تنفيذها بوضوح وتأكيدها بالإجماع في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ذي الرقم 2202، بما في ذلك من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى، حيث تم في الفقرة 2 من هذا القرار الأممي تسمية كييف ودونيتسك ولوغانسك كأطراف، ولم تَذكُر أيٌّ من هذه الوثائق مسؤوليةَ روسيا عن الصراع في دونباس. تلعب روسيا، إلى جانب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، دورَ الوسيط في الصيغة التفاوضية الرئيسية - مجموعة الاتصال - ومع برلين وباريس في صيغة نورماندي، التي تصوغ توصيات لأطراف النزاع وتراقب تنفيذها». وتابع الردّ الروسي بتأكيد موسكو أنّ الحلّ في أوكرانيا يكون بالالتزام بـ«حزمة الإجراءات» (وفقاً لاتفاقيات مينسك) وكذلك «وقف تزويد أوكرانيا بالأسلحة، وسحب جميع المستشارين والمدربين الغربيين منها، وامتناع دول الناتو عن أيّ مناورات مشتركة مع القوات المسلحة الأوكرانية، وسحب جميع الأسلحة الأجنبية التي تم نشرها وتم تسليمها إلى كييف، وإخراجها إلى خارج الأراضي الأوكرانية».
تضمّن الرد الروسي أيضاً أنّ من بين المقترحات التي تجاهلتها واشنطن وقابلتها «بالصمت» ما ورد في الفقرة الأولى من المادة 5 من مسودة المعاهدة الثنائية المقترحة من موسكو والتي تقول «يمتنع الطرفان عن نشر قواتهما المسلحة وأسلحتهما، بما في ذلك في إطار المنظمات الدولية أو الأحلاف أو التحالفات العسكرية، في المناطق التي يمكن أن ينظر فيها الطرف الآخر إلى هذا الانتشار على أنه تهديد لأمنه القومي، باستثناء مثل هذا الانتشار داخل الأراضي الوطنية للطرفين»، حيث اكتفت واشنطن بدلاً من ذلك بالادّعاء بأنّ «التكوين الحالي لقوات الولايات المتحدة وقوات الناتو محدود ومتناسب ومتوافق تماماً مع الالتزامات بموجب قانون تأسيس علاقات روسيا-الناتو».
وحول اتهامات واشنطن في ردّها بخصوص انتشار القوات المسلحة الروسية قرب الحدود الأوكرانية، قال الردّ الروسي الجديد «نفترض أنّ نشر القوات المسلحة لروسيا الاتحادية على أراضيها لا يؤثر ولا يمكن أنْ يؤثر على المصالح الأساسية للولايات المتحدة. ونودّ أن نذكّركم بأنه لا وجود لقوّاتنا على أراضي أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها ينقلون بنيتهم التحتية العسكرية إلى الشرق، وينشرون وحدات في مناطق الأعضاء الجدد. لقد تحايلوا على قيود القوات المسلحة التقليدية في أوروبا وفسّروا بشكل فضفاض بنود القانون التأسيسي لروسيا-الناتو بشأن الامتناع عن (نشر دائم إضافي لقوات قتالية كبيرة). إنّ الوضع الذي نشأ نتيجة لهذه الإجراءات غير مقبول. نحن نصر على انسحاب جميع القوات المسلحة الأمريكية والأسلحة المنتشرة في أوروبا الوسطى والشرقية، وجنوب شرق أوروبا ودول البلطيق».