كازخستان وتأثيراتها... مقاربة أولية
لا تزال أحداث كازخستان الأخيرة في بداياتها، ومن الصعب استيعاب وفهم الأسباب وتوقع المآلات بالقدر الكافي في الوقت الحالي. مع ذلك يمكن تثبيت بعض المعطيات وكذلك مقاربة المآلات المتوقعة وتأثيراتها الأوسع بشكل أولي...
في المعطيات
• كازخستان هي إحدى أكبر دول آسيا الوسطى مساحة (2.7 مليون كيلومتراً مربعاً أي أكثر من ضعفين ونصف من مساحة مصر مثلاً). وعدد سكانها قليل نسبياً مقارنة مع المساحة (حوالي 18 مليون عام 2018). وهي أيضاً دولة غنية بالموارد الطبيعية وخاصة الغاز الطبيعي واليورانيوم وغيرها من الثروات. واقتصادها معتمد بشكل أساسي على استخراج الثروات الباطنية وتصديرها وخاصة الغاز والنفط (عام 2014 أسهَمَ النفط والغاز بأكثر من 56% من الناتج المحلي).
• رغم أنّ الأرقام الحكومية والدولية تقول بأنّ هنالك نمواً مستمراً في كازخستان خلال العشرين سنة الماضية، وإنْ كان قوياً في سنوات وضعيفاً في أخرى، وكذلك أنّ وسطي دخل الفرد هو في ارتفاع مستمر، إلا أنّ الحقيقة الأهم هي طريقة توزيع ذلك الدخل في ظل السياسات الليبرالية المتبناة من السلطات المستمرة في الحكم منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي والتي كانت بين قيادات الانهيار والتحول، وشكلت اقتصاداً عالي الفساد وضعيف الإنتاجية، وفي الوقت نفسه عملت على التضييق على الحريات السياسية بشكل مطّرد، وهذا التلازم بين النيوليبرالية وتقليص الحريات السياسية بات قانوناً واضحاً نراه في كل دول العالم، كما رأيناه ونراه في سورية مثلاً، حيث كلما زاد الفساد الكبير تغوُّلاً باتَ بحاجة إلى ضبط الناس المُفقَرين بشكلٍ أكبر لمنعهم من الاحتجاج على عملية النهب المنظَّم التي يعيشونها.
• لكازاخستان حدودٌ طويلة مع كل من الصين وروسيا، وهي ممرٌّ أساسي وجزء أساسي في مشروعَي الحزام والطريق والأوراسي، وهي وزن كبير بما يخص كامل منطقة آسيا الوسطى.
مقاربة أولية
ما أوردناه أعلاه هو غيض من فيض المعلومات المتوفرة حول وضع كازخستان وأهميتها، والذي يمكن الوصول إليه بسهولة عبر محركات البحث. وما سنورده تالياً هو بعض الأفكار الأولية عما يجري:
- ما يجري حالياً هو من حيث الجوهر ما جرى في سورية وليبيا وتونس ومصر وغيرها من الدول خلال السنوات العشر الماضية؛ وهذه كلها تشترك بأمرين أساسيين: أوضاع اقتصادية تتجه نحو الأسوأ بشكل تراكمي وعبر سنوات طويلة، بالتوازي مع تسلطٍ متزايد، وثراءٍ فاحشٍ، لقلة مسيطرة ضمن اقتصادات ضعيفة الإنتاجية.
- بالتوازي، فإنّ التدخلات الغربية قائمة دائماً وتستند إلى فساد السلطات وهشاشة المجتمعات الناجمة عن ضعف الإنتاجية وعن سوء توزيع الثروة طويل الأمد. يضاف إلى ذلك الأهمية النسبية التي تمنحها الجغرافيا لدول أكثر من أخرى... كذلك هو الحال في سورية مثلاً، وأيضاً في كازخستان بكل تأكيد، حيث تزداد حدة التدخُّلات وضَرَاوَتُها.
- تحرُّك الناس نحو الشوارع هو مزيجٌ من العفوية التي ينتجُها التراكم طويل الأمد، ومن التدخلات الخارجية والغربية خصوصاً. ولكن الأساس فيها هو التراكم الداخلي.
في الاستنتاجات والمآلات
ضمن الصورة الأولية المتاحة حتى الآن، يمكن قول التالي:
- ما يجري في كازخستان الآن، يحمل في جانب منه تفسيراً لأسباب خروج الأمريكان من أفغانستان، وللكيفية التي تم الخروج بها؛ إذ يبدو واضحاً في الحسابات الأمريكية انطلاقاً من قراءة الوقائع أنّ آسيا الوسطى بأكملها مقبلةٌ على موجات من الاحتجاجات الواسعة، وعلى احتمالات من الفوضى التي يمكن استثمارها، وبالدرجة الأولى ضد الصين وروسيا.
- التدخل السريع من منظومة معاهدة الأمن الجماعي، وقبل ذلك الكيفية السريعة التي تطورت فيها الأمور في كازاخستان وكأنها خلال أيام اختصرت مسار سنوات من التجارب التي سبقتها (سورية مثلاً)، يشير إلى محاولة للتعامل مع الأمور بطريقة مختلفة سواء من جانب من يحاولون الاستثمار في الوضع باتجاه التخريب وعلى رأسهم الأمريكي، أو من جانب من لا مصلحة له بالفوضى في هذه المنطقة وعلى رأسهم روسيا.
- وربما يساعد التدخل السريع بالحد من احتمالات الانزلاق السريع نحو فوضى شاملة، ولكنه بالتأكيد لن يمنعَها دون تغييرات داخلية ترقى إلى مستوى المهام المفروضة موضوعياً، أي مهام التغيير الجذري والحقيقي في كازخستان نفسها.
- ربما أهم من ذلك هو أنّ ما يجري في كازخستان هو علامة تحذير صفراء وربما حمراء لكل من روسيا والصين، ولروسيا أكثر منها للصين؛ ومضمون هذه العلامة التي يقدّمها الواقع هي أنّ «النادي الإمبريالي» مغلقٌ في وجه روسيا، وأنّ وقت التحول الجذري في الداخل الروسي قد جاء، ولا يمكن لروسيا كبلد أن تحمي نفسها من التدخلات الغربية ومن مخاطر الفوضى الشاملة دون تحوُّلٍ جذري في طريقة توزيع الثروة داخلياً... أي أنّ الانزياح نحو اليسار بالمعنى الاجتماعي بات ضرورةً وطنية بما يخصُّ الأمنَ القومي الروسي، وهو ما سبق أنْ قال به حزبُ الإرادة الشعبية في وثائقه منذ عام 2006، وكذلك هو إحدى النتائج الأساسية للدراسة التي نشرتْها قاسيون عام 2017 بعنوان «روسيا الشبح الإمبريالي».
- الانفجار المتتالي للأزمات خلال السنوات العشر الماضية، يعني ضمناً أنَّ بقاء الأزمات السابقة معلَّقة والوقوفَ عند حدود تطويق النيران، ليس غيرَ قادرٍ على الوصول إلى استقرار في مناطق الأزمات فحسب، بل وأكثر من ذلك فإنّه أرضيةٌ لتوسيع الحرائق. عملية إيقاف الأزمات القائمة عبر حلّها جذرياً، باتت متطلباً أساسياً لمنع استمرار مسلسل الحرائق، والذي لا يمكن التحكُّم به بالطريقة نفسها مع الاتساع المستمر لرقعته الجغرافية. وإيقاف هذا المسلسل بات يحتاج إلى نموذج جديد في إنهاء الأزمات... وبالمعنى الدولي والإقليمي فإنّ الأزمة الأكثر نضجاً لمثل هذا النموذج الجديد هي سورية بالذات.