الهزيمة الجديدة تزيد الحسابات الاستراتيجية «الإسرائيلية» بؤساً
إذا كان معيار الانتصار في معركة عسكرية ما يتحدد بإنجاز الأهداف العسكرية، فإن المقاومة الفلسطينية قد انتصرت منذ اليوم الثاني لجولة التصعيد الأخيرة، أي منذ أول رشقة صواريخ طالت مدينة القدس المحتلة وثبتت معادلة جديدة مفادها أن لدى المقاومة هامش مناورة واسعة، بمقابل عجز الكيان عن وضع أي حد للتهديد متعدد الأوجه الذي يتربص به.
خلال سبعين عاماً مضت، عمل الاحتلال دون توقف على تقسيم الفلسطينيين بهدف تفكيك قدرتهم على المقاومة كشعبٍ واحد. وقد نجح هذا المشروع في نظر «الإسرائيليين» لدرجة أن العديد منهم بدأوا يتعاملون وكأن القضية الفلسطينية قد تبخرت في الهواء. غير أن موجة التصعيد الأخيرة شهدت توحيداً غير مسبوق في صفوف الفلسطينيين، توحيدٌ دفع بعض المحللين «الإسرائيليين» إلى اعتبار يوم الثلاثاء 18 أيار الماضي واحداً من أهم المؤشرات على أن جميع الحسابات الاستراتيجية للكيان تفتح الباب بالضرورة على أسئلة جذرية تضع وجود الكيان ذاته موضع تساؤل، حيث شهد ذلك اليوم تكاملاً نادراً بين المقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية التي خاضت على امتداد مساحة فلسطين المحتلة إضراباً جماعياً لم يحدث مثيلاً له منذ إضراب عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني.
لهذا، من الضروري الوقوف عند أهم مكامن القلق الاستراتيجي الوجودي الصهيوني، والتي يمكننا أن نذكر بعضاً منها:
- العلاقة المتغيّرة مع الولايات المتحدة التي لا تستطيع، نظراً لتغيرات موازين القوى وتراجع وزنها عالمياً، أن تضمن التفوق النوعي للكيان الصهيوني في المنطقة كما كان سابقاً. كما أن الضرورات الأمريكية باتت تعاكس في كثير من الحالات ضرورات الكيان، ولعل العودة الأمريكية للاتفاق النووي مع إيران المثال الأبرز على ذلك.
- في المقابل، لا يصب سلوك القوى الدولية الصاعدة في مصلحة «إسرائيل»، فبينما تفتح الصين المجال لعلاقات استراتيجية مع إيران، تعمل روسيا على عددٍ من التكتلات الإقليمية التي لا تأخذ أي منها مصلحة الكيان بعين الاعتبار. ذلك في وقتٍ يصرّ فيه الجانبان الروسي والصيني على تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
- في الداخل، تتشابك وتتعاظم مشكلتان كبيرتان في وجه الكيان. الأولى، المستوى غير المسبوق من الانقسام الداخلي والصراع على الحكومة الذي لن ينتهي بمجرد الإطاحة المتوقعة بنتنياهو. والثانية، أن الخطر الفلسطيني على الكيان لم يعد ينحصر بحدود التغيرات الديموغرافية وميلان الكفة كمياً لصالح الفلسطينيين على حساب المستوطنين فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تتنامى اليوم في صفوف هؤلاء الفلسطينيين حركة شعبية جديدة أكثر خبرة وأكثر جذرية.
- سقوط خيار أوسلو موضوعياً. وهو الخيار الذي ضمن سابقاً للاحتلال سيطرة منخفضة التكلفة نسبياً وقمع مزدوج للحركة الشعبية الفلسطينية عبر «التنسيق الأمني» بين سلطة أوسلو وقوات الكيان.
- فوق ذلك كله، يأتي العجز «الإسرائيلي» عن وضع حد للمقاومة الفلسطينية والذي يشترط بالضرورة انخراط الكيان في حرب برية ومعارك ضارية في شوارع غزة لا يستطيع تحمل تكلفتها إطلاقاً، لا من حيث الخسائر البشرية التي سيتكبدها نتيجة دخوله إلى غزة التي يصل عدد سكانها إلى 2.5 مليون، ولا من ناحية الانعكاسات الداخلية الناتجة عن هذه الخسائر.