اتفقت واشنطن... انسحبت واشنطن
خلال الشهر الفائت، تراجع الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب فيما يتعلق بسحب القوات الأمريكية الموجودة في أفغانستان، ليعلن عن وجود «صعوبات» تحول دون انسحاب كل القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول الأول من شهر أيار المقبل، وفقاً لما نصَّ عليه الاتفاق مع حركة طالبان الذي توصلت إليه إدارة ترامب.
فتح هذا التراجع الباب للتفكير في ظاهرة أخذت تتكرر أكثر من مرّة، حيث أن تراجع بايدن عن اتفاقات كان توصّل إليها ترامب، سبقه تراجع هذا الأخير عن اتفاقاتٍ عقدها سلفه، باراك أوباما، بما فيها الملف النووي الإيراني مثالاً. وتكرُّر أية ظاهرة، بما في ذلك ظواهر السياسة، يحوّلها إلى قانون ينبغي الكشف عن أسبابه وأشكال تجليّه بما يسمح بالتنبؤ بسلوك قوى وعناصر هذه الظاهرة.
السؤال المفتاحي في هذا الصدد هو لماذا اضطرّ دونالد ترامب أولاً للانسحاب من الاتفاق النووي؟ الإجابة المختصرة على هذا السؤال تقودنا إلى أنه لو حافظت الولايات المتحدة على الاتفاق النووي لكانت قد فتحت المجال لتطور العلاقات بين حلفائها التقليديين (الأوروبيين خصوصاً) وإيران، ومن شأن ذلك أن يحدّ من الوزن الأمريكي ويسرّع وتيرة تراجعه دولياً. وعليه، كان القرار بالانسحاب بمثابة واحدة من محاولات إبطاء هذا التعاون والتطور في العلاقات.
وثانياً، لماذا يضطر اليوم بايدن للتراجع عن سياسة ترامب في أفغانستان؟ تقودنا الإجابة للنتيجة السابقة ذاتها، وهي أنه لو أنجز الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كما هو مخطط له في الشهر المقبل، فإن ذلك سيساهم في تسريع تطور الوضع إيجاباً ليس في أفغانستان وحدها بل من شأنه أن يسرّع توجّه عموم دول آسيا الوسطى بعيداً عن الهيمنة الأمريكية (لنا أن نتخيل فقط أن أفغانستان التي تربط الصين بإيران برياً سوف تكون خالية من القوات الأمريكية).
هنا يتضح أن الضرورة الأمريكية هي السبب الأساسي لعمليات التراجع عن الاتفاقات، ويتم الاستفادة من سياسة التراجعات هذه لتمرير الوقت أمريكياً من جهة، ولإبطاء العمليات التي يجب أن تنجز موضوعياً في عالم ما بعد الهيمنة الغربية من جهة أخرى. وهو ما نراه حاضراً اليوم في عدد من الملفات الساخنة المفتوحة في العالم والتي «تنتظر» ظاهرياً أن «تحسم الإدارة الأمريكية الجديدة سياساتها»، وهو ما قد لا يحدث أبداً لأن «حالة الانتظار» هذه هي السياسة الأمريكية «الجديدة» التي تدرك أنه لو جرى حسم هذه الملفات فإن ذلك سيظهّر الوزن الحقيقي الجديد للولايات المتحدة، في مقابل ذلك، لا تجد الولايات المتحدة مهرباً سوى محاولة إشغال الحلفاء والخصوم على حد سواء بالاتفاقات الجديدة ومعاودة الانسحاب، إدراكاً منها أن أي توجّه واضح وجدي في أي من هذه الملفات سيسبب بلا شك خسائر فادحة لا تقوى على تحمّل نتائجها خصوصاً في الداخل الأمريكي الجاهز للاشتعال.