طوابير الفساد الليبرالي... وسوسيولوجيا العَوَز المُفتَعَل
وسط طغيان بروباغاندا «إعادة كتابة التاريخ» وطمس الحقائق والأسباب الحقيقية لظاهرة «الطوابير» التي وجدت بالفعل في الاتحاد السوفييتي في فترات معيّنة، قلّما نجد تحليلات علمية عن هذه الظاهرة. بل غالباً ما نجد معظم المتداول في وسائل الإعلام والكتب والأدبيات يكرّر كذبة ملخّصها أنّ الطوابير ترتبط بخاصية يُزعَم أنّها جوهر النظام الاشتراكي وهي ما يسمّيه المثقفون البرجوازيون «اقتصاد العَوَز» Shortage Economy فهل كان عَوزاً حقيقياً ناشئاً عن تطور طبيعي للاشتراكية بالفعل أم أنّه عَوَز افتعله وخلقه مُخرِّبوا الاشتراكية الذين استعادوا الرأسمالية بأبشع أشكالها (الليبرالية الجديدة). فيما يلي ننقل ونناقش بعض المعلومات ذات الصلة، من عدة مؤلِّفين ومؤرِّخين. ورغم الاختلافات طبعاً بين الاتحاد السوفييتي السابق وسورية، لكن يبدو أنّه في قضية «افتعال العَوَز» والطوابير الناجمة عنه، هناك تشابه ناشئ عن المصدر نفسه: الليبرالية الجديدة والفساد الكبير.
في مقال للكاتب أندريه ميتشورين المهتم بالتاريخ السوفييتي (نشره على مدوّنته في نيسان 2014) موثقاً معلوماته بالمصادر وجداول بيانات، يفتتحه بملاحظة جوهرية وهي أنّ «مؤرخينا الليبراليين اليوم، عندما يتناولون قضية العَوَز في الاتحاد السوفييتي السابق يضعون بَيْضَ السبعين سنة من تاريخ السلطة السوفييتية في سلّة واحدة بلا تمييز. الأمر الذي ليس ببساطة سوى إحدى وسائل التلاعب بالوعي الاجتماعي. ويجري كلّ هذا من أجل شيطنة الشيوعية، واقتصادها المُخطَّط وكلّ إنجازاته، وبالمقابل تبرير الرأسمالية – أو على الأقل حتى لو اعترفوا بمساوئ هذه الأخيرة، يقولون: لكنّ الشيوعية أسوأ».
سبب الطوابير: «الاشتراكية» أم مُفسِدُوها؟
يؤكّد ميتشورين، على حقّ، أنّنا يجب أنْ نفرِّق بين «اتحادَين سوفييتيَّين» مختلفين جذرياً، يمكن تسميتهما: «اتحاد ستالين» مقابل «اتحاد غورباتشوف». حيث يلاحظ س. كريملين بأنّه «بحلول العام 1953، أخذ الشيوعيون البلاشفة يفقدون سلطتهم شيئاً فشيئاً، وبدلاً منهم بدأت تنمو في الهيئات العليا للسلطة والنخبة السوفييتية شريحةٌ ليست فقط من ذوي المصالح الشخصية الضيقة، بل والمعادين للسوفييت وللشيوعيين بشكل مستتر».
تخريب الزراعة الاشتراكية
برأي مولوتوف كان أحد أسباب تخريب الزراعة السوفييتية: مشروع خروتشوف المسمى «تطوير الأراضي العذراء»، الذي انتقده ليس من حيث المبدأ، بل لأنه بدل أن يستثمِرَ أراضيَ جديدة تدريجياً، طبّقه على مساحات مهولة مباشرةً بهدر كبير وغير منطقي، وعلى حساب تطوير الأراضي المأهولة التي كانت مستثمَرة ومنتِجة بالفعل: «بحجم كهذا، كان الأمر مقامَرة... إنْ كانَ لديكَ مليون روبل فقط، فهل تنفقها على الأراضي العذراء، أم على تلك المأهولة التي فيها فُرَص؟ بينما تطوّر التربة العذراء تدريجياً. لقد بدّدوا الأموال... علماً أنّه [في الأراضي العذراء] لم يكن هناك أيّ مكان لتخزين الخبز، مما يجعله يتعفّن، وليس ثمة طرق، فلا تستطيع نقله. خروتشوف طرح الفكرة واندفع يطبّقها بشكل جامح مُنفَلِت اللِّجام!... وبدأ العمل على نحو 40 – 45 مليون هكتار من الأراضي العذراء. لقد كان أمراً لا يُطاق وسخيفاً وغير ضروري» (مولوتوف 1977).
وبدءاً من العام 1954 بدأ خروتشوف حملةً لإدخال زراعة الذرة في كل مكان. دخل «هوس الذرة» إلى رأسه بسبب نجاح نمو هذا المحصول في الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلَقَ خروتشوف على نفسِه مازحاً لقبَ «العرنوس». وكنتيجةٍ لزرع مساحات كبيرة من الأراضي بالذرة، بعد أن كانت مزروعة سابقاً بالقمح وغيره من الحبوب، بدأت تعطي محصولاً ضعيفاً. وأخذ الطحين والخبز يختفيان من أماكن البيع، وترتفع أسعارهما. وبحلول العام 1963 انكشف الفشل الذريع لمشروع «تطوير الأراضي العذراء»، فالتربة المَفلوحة استُنفِدَت خصوبتها وصارت نهباً للعواصف الغبارية. ولأول مرة على الإطلاق في تاريخ الاتحاد السوفييتي تمّ القضاء على أمنه الغذائي واكتفائه الذاتي، وأُجبِرَ على شراء القمح من الخارج، وتزايدت مستورداته منه بشكل مستمر.
ضرب الثروة الحيوانية
أما تخريب الثروة الحيوانية، فيمكن تأريخ نقطة انعطافية له منذ العام 1957، رغم أنّه تمّ تحت شعار خروتشوف التضليلي «خلال 3 أو 4 سنوات يجب أن نلحق بالولايات المتحدة في مؤشر الإنتاج لكل فرد من اللحوم والحليب والزبدة»، وأنّ ذلك سيكون بمثابة «أقوى نسف لأساسات الرأسمالية» حسب زعمه.
عام 1959 رفع خروتشوف أهداف الخطة التي يفتَرَض أنها من أجل زيادة إنتاج اللحوم، ولكن كما يتذكّر الكاتب أناتولي ستريلياني «أمسكوا بكلّ ما يدبّ على أربع وساقوه إلى المسلخ، حتى الإناث الحُبلى من أبقار وخنازير، والصغار من عجولٍ وخنانيص». ويسجّل الكاتب يفغيني نوسوف بأنّ نيكيتا خروتشوف أمرَ بشراء جميع الحيوانات ذات القرون من المزارع التعاونية... ولكن مع بدء الطقس البارد تبيَّن بأنّ هذه المزارع لم يتمّ إعدادها لإيواء ورعاية الأبقار المشتراة! فاضطرّوا إلى ذبح أعداد منها، بحيث لم يتبقَّ لديهم أبقار ولا عجول. وما زاد الأمر سوءاً أيضاً هو لجوء كثير من الفلاحين إلى تفضيل ذبح مواشيهم على أنْ يبيعوها للدولة. وشعر الناس بالسخط وصرخوا بأنّ أبقارَهُم أُخِذَتْ منهم، لكنْ لم يتمّ إعطاؤهم الحليب الذي وُعِدوا به بالمقابل. كل شيء «ذهب إلى الخطة».
لم تكن الخطة طبعاً «خطة اشتراكية» بل خطة حمقاء ومشبوهة أدّت إلى ذبحٍ جائر وتبديد للثروة، وبالتالي إلى عَوَز مُفتَعَل؛ بمعنى أنّه غير مُبَرَّر إطلاقاً، وكان ممكناً تجنُّبه لو طبقت سياسات وطنية صحيحة. كما لم يكن لسياسةٍ كهذه صلة بقانون الاشتراكية الأساسي الذي كان ستالين قد ركّز عليه (تلبية الاحتياجات المتزايدة للناس) والذي ينبغي فهمه ليس بالمعنى الكمّي فقط، بل والنوعي أيضاً، أيْ ما هي حاجات الشعب المعني الفعلية المادية والروحية المتلائمة والنابعة من تطوره الخاص بالذات، وما الأولويّات وكيف ينبغي تلبيتها، وليس التقليد الأعمى و«اللحاق» الاعتباطي بمعايير استهلاكية مستورَدة دون دراسة هل هي ضرورية وكيف يمكن تطبيقها في حال كانت كذلك. على سبيل المثال أبدى ميتشورين وجهة نظر، من زاوية إحدى خصوصيات الثقافة الشعبية الروسية والتي يبدو أنها استمرت بشكل ما في المرحلة السوفييتية، ألا وهي أنّه، وبخلاف الثقافة الأمريكية، فإنّ استهلاك كميات مبالغ بها من اللحوم أو فوق حدّ بيولوجي معيّن، لم يكن أصلاً حاجة حقيقية داخلية لأغلبية الشعب السوفييتي، رابطاً ذلك بعادات وتقاليد غذائية وصحّية بل وحتى دينية معينة (ربما لعب فيها دوراً حتى الإرث الأورثوذوكسي المسيحي ومناسبات الصيام الكثيرة مثلاً). ولذلك لم تكن صحيحة محاولة استيراد عادات الاستهلاك الأمريكية لمجرد «اللحاق بها» بشكل أعمى. وهكذا لا يجوز اعتبار أيّ «تخطيط» اعتباطي حتى لو كان «مركزيّاً» على أنّه «تخطيط اشتراكيّ» كما يحاول التبسيطُ التلاعبي البرجوازي أنْ يوحي، عبر التركيز على مصطلح «الاقتصاد المُخطَّط» planned-economy بعد تجريده من سياقه وتفاصيله، ولصقه بممارسات سلبية فقط.
وبحلول الستينات انكشفت النتائج المعاكسة لـ«التخطيط» الفاشل والتخريبي، فأخذت أعداد القطعان بالتناقص، وانخفض إنتاج اللحوم، ثم انخفض إنتاج الحليب. وهكذا بدأت الطوابير تتشكل في متاجر اللحوم والحليب، وهي الطوابير التي للمفارقة، وبدل تحميل المسؤولية عنها للسياسات التخريبية المعادية للاشتراكية، يتم إلصاقها زوراً وبهتاناً بأنها «طوابير الشيوعية» كشيفرة يلصقونها تحديداً بمرحلة الصعود والبناء الاشتراكي الحقيقي (وبستالين تحديداً)، لتوظيفها كرمزٍ للتلاعب بوَعي مَن لا يعرفون التاريخ والحقائق.
طوابير في بريطانيا «العظمى»!
لم يكن في الاتحاد السوفييتي قبل العام 1960 طوابير طويلة أو عَوَز كبير بالخيرات والسِّلَع على الرفوف، والأهم أنه كان قد تم التخلص من العوز بالمنتوجات الغذائية الأساسية (يمكن الاطلاع على تفاصيل لجزء من تاريخ رعاية الدولة السوفييتة لغذاء مواطنيها قبل الحرب الوطنية العظمى من مقال سابق بقاسيون: حصص التموين السوفييتي و«العدالة في الحرمان والوفرة» 28/9/2020). إضافة لذلك يلفت ميتشورين انتباهنا إلى أنّه في الوقت الذي استطاع فيه الاتحاد السوفييتي بقيادة ستالين أن يستعيد عافيته بسرعة بعد الحرب ويلغي الحاجة إلى التقنين الاضطراري لزمن الحرب بحلول نهاية العام 1947، أي بعد نحو سنتين فقط من انتهاء الحرب رغم أنه كان البلد الذي قدم أكبر التضحيات وعانى أكبر تدمير عدواني، لكن استطاع النهوض بسرعة وكانت الأسعار تنخفض سنوياً وتستعيد البلاد مستويات إنجازاتها ما قبل الحرب، بالمقابل تأخرت بريطانيا عن الاتحاد السوفييتي فلم تقمْ بإلغاء الطوابير والتقنين على مواطنيها، سوى في العام 1954 فقط، أي بعد 7 سنوات من إنهاء الطوابير المماثلة في الاتحاد السوفييتي، و9 سنوات بعد انتهاء الحرب!
من الملاحظات التي تجدر الإشارة إليها، هي أنّه مع ذلك هناك صعوبة نسبية في أن يعثر الباحث في محركات البحث عن صور فوتوغرافية لطوابير بريطانيا في تلك الفترة، مقابل سهولة مصادفة صور كثيرة «للطوابير الشيوعية». كما أنّ صور الطوابير البريطانية إذا وجدت تحمل ميزة عامة لفتت انتباهنا، وهي أنّها دائماً تقريباً صور قريبة بحيث تلتقط جزءاً من الطابور فقط ولا توضح كم طوله بالضبط، على عكس صور الطوابير السوفييتية.
القذارات «اشتراكية» والرفاه «رأسمالي»!
السرّ على ما يبدو كان يكمُن في أنّ السلطات البرجوازية (سواء حكومة حزب العمال أو المحافظين بعدها) كانت ترزح آنذاك تحت الشروط الأمريكية لمشروع مارشال في مساعدات إعادة الإعمار، والتي يبدو أنها اعتمدت على محاولة تسريع قسري للنمو الاقتصادي على الطريقة الرأسمالية، أي على حساب ضغط الاستهلاك الشعبي واستغلال الطبقة العاملة لأقصى حدود ممكنة، رغم أنّ الهدف كان محاولة تحقيق نموذج يوهم العمال ببديل رأسمالي «كفؤ» يغنيهم عن الاشتراكية، خوفاً من غزو النموذج السوفييتي، الأمر الذي تم النجاح جزئياً في تحقيقه بسياسات «كينزية» بعد فترة تأخير، وبعد تدفيع جزء كبير من فاتورته من نهب واستعمار شعوب أخرى من جهة، وبعد تطويل فترة التقشف لعقد إضافي بعد الحرب، كما رأينا أعلاه، من جهة أخرى. لكن التأريخ والدعاية البرجوازية تحاول خلق «فقدان ذاكرة» حيال حقيقة أنه بين نهاية الحرب واستقرار الانتعاش بعدها، فإنه حتى بريطانيا «العظمى» سادت فيها الطوابير، مثلاً للحصول على البطاطا والسكّر!
ولكن حتى عندما يذكر المؤرخون البرجوازيون ذلك، فغالباً ما ينسبون هذا التقشف والعَوز والطوابير إلى سياسات حكومة حزب العمال بقيادة «كليمنت أتيل» آنذاك وينعتونها بالتالي بأنها «طوابير اشتراكية» مع أنها صنيعة تقشفٍ رأسمالي، ورغم أنّ هذه الحكومة «اليسارية» بالذات هي التي طبّقت خطة مارشال الإمبريالية الأمريكية لإعادة إعمار بريطانيا، والتي تضمّنت الانضمام إلى أحلاف عدوانية ضد باقي الشعوب (حلف الناتو). فعن أيّ «اشتراكية» يتحدثون حتى تُسمّى طوابيرها طوابير اشتراكية؟! أمْ أنّ الجزء «القذر» والقاسي من إعادة الإعمار الرأسمالية قد تمَّتْ هندسته عمداً بحيث تلقى المسؤولية عنه على «اليسار» (حزب العمال)، والذي تمّ إسقاطه بعد انتهاء مهمته هذه، ليأتي اليمين المحافظ بعد ذلك بوصفه «المخلّص»؟ هذه الطريقة في التلاعب بالوعي لتشويه الاشتراكية والشيوعية وتصنيع العداء لها، تشبه استخدام رمز «الطابور» أيضاً الذي نجم عن السياسات التخريبية المذكورة أعلاه في فترة خروتشوف ولاحقاً في البيرسترويكا، فهذه أيضاً تصنّف لدى الدعاية البرجوازية بأنها «طوابير شيوعية».
إحدى القصص ذات الدلالة هي أنه عندما أدلى مالينكوف في تشرين الثاني 1953 بخطاب شجب فيه الرشوة والفساد في جهاز الحزب – بغض النظر عن مدى جدّيته بذلك، إذْ كان لستالين انتقادات عليه – ردّ عليه أحد أعضاء الحزب «كل هذا صحيح بالطبع يا جورج ماكسيميليانوفيتش، ولكن جهاز الحزب هو دعامَتُنا». لم يكن هذا العضو الذي استاء من انتقاد الفساد – ولو بالكلام – سوى الفاسد نيكيتا خروتشوف الذي كان قد أصبح رأس الدولة في أيلول من العام نفسه.
إدخال «الدُبّ» الإمبريالي إلى «الكَرْم» السوفييتي
في كتاب مذكّراته David Rockfeller Memoir الصادر عام 2002 يخصص الملياردير الفاشي ديفيد روكفيللر فصلاً كاملاً بعنوان «إشراك السوفييت»، نقتبس منه بعضاً مما له صلة بموضوعنا. كتب روكفيللر:
«في أواخر تشرين الأول 1962 في أندوفر، ماساشوسيتس [في الولايات المتحدة] حضرتُ انعقاد المؤتمر الأول من سلسلة مؤتمرات (المواطنين السوفييت-الأمريكان) التي صارت تُعرَف باسم (مؤتمرات دارتماوث)... وانعقد مؤتمر دارتماوث الثاني بعد صَيفَين [عام 1964] في لينينغراد. وفي هذه الزيارة التقيتُ، أنا وابنتي نيفا، بنيكيتا خروتشوف».
ثم يورد نصَّ مَحضَر حواره مع خروتشوف، الذي دوّنتهُ ابنته، ودار معظمه عن التوترات العالمية آنذاك (كوبا، الصين، فيتنام، وغيرها) وعن ضرورة «التعايش السلمي»، ورغم محاولة خروتشوف إظهار التبجّح والتشدّد، لكنّ كان لافتاً ملاحظة روكفيللر بأنّ «خروتشوف انتعشَ عندما ذَكَرْتُ موضوعَ التجارة وبدأ يستمع لي باهتمامٍ شديد». وفي أواخر الحديث قال خروتشوف «نريد السلام، وعلاقات طيبة، وصلات تجارية جيدة مع الولايات المتحدة». كما يذكر روكفيللر بلهجةٍ ملؤها التشفّي والانتقام:
«كان ديكور الغرفة قليلاً، عدا عن صورة بورتريه كبيرة للينين هيمنت على الغرفة. ولمرة أو اثنتين خلال المحادثة التي جرت [مع خروتشوف] كنت أسترق النظر لأجد لينين يحدّق بي مستنكراً».
وبلهجة مماثلة من الشماتة كتب روكفيللر عمّا شاهَدَهُ في هذه الزيارة:
«كان الناس يصطفّون بطوابير طويلة لشراء كميات قليلة من طعامٍ ضعيف الجودة، وفي المَتاجر كانت الرفوف شبه خالية من البضائع. وفي رحلتي الأولى هذه إلى قلب الإمبراطورية السوفييتية، وجدت نفسي متعجّباً عن أيّة قوة اقتصادية للبلد كان خروتشوف يتحدّث بهذا الصخب!».
علماً بأنّ كلام روكفيللر، رغم صحة التوصيف الشكلي للظاهرة، لكن سببها الجوهري بات واضحاً لنا من معلومات ميتشورين أعلاه، كما لا يخفى على القارئ الوظيفة الدعائية المعادية للشيوعية، والذي من الواضح أنّ روكفيللر تعمّد تثبيتها في كتابه، عن مشهد الطابور، بوصفه «رمزاً» سلبياً، عندما يُجَرَّد ويقتطَع عن سياقه التاريخي، والأهم، عن أسبابه الحقيقية، بغرض طمس الإنجازات العظيمة للشعب السوفييتي، بدل فهم الطابور بوصفه ظاهرة ناتجة مباشرةً عن تخريب تلك الإنجازات بالذات! ثمّ يدوِّن روكفيللر بأنّه خرج من لقائه مع خروتشوف:
«بإحساسٍ قويّ – يمكنكم تسميته غريزة المصرفيّ – بأنّ القيادة السوفييتية العليا كانت تريد توسيع العلاقات المالية والتجارية مع الولايات المتحدة، ورغم التأكيدات الواثقة لخروتشوف حول الاكتفاء الذاتي السوفييتي، فإنني شعرت بأنّ أمّتَهُ كانت تواجه مشكلات اقتصادية خطيرة».
وهكذا استمرّ تقديم التنازلات للإمبريالية، ولم تتوقف عند خروتشوف. فيذكر روكفيللر أيضاً:
«كنتُ أزور موسكو كل سنة تقريباً خلال السبعينيات، إمّا من أجل اجتماعات دورتماوث أو للعمَل المصرفي. وكانت صِلتي الحكومية الرئيسة آنذاك تتمثل بألكسي كوسيغين، أحد أهمّ الشخصيات السياسية السوفييتية، والذي شارك بالانقلاب على خروتشوف عام 1964... وجاء الاختراق الكبير الذي حققناه عندما كنّا أحد البنوك الرئيسة في تمويل صفقة القمح السوفييتية ذات المليار دولار عام 1971 [استيراد الاتحاد السوفييتي للقمح الأمريكي]... في تشرين الثاني 1972، كان بنك تشيز [لآل روكفيللر] أول بنك أمريكي يحصل على موافقة لتأسيس مكتب تمثيليّ له. واخترنا مكانه في ساحة كارل ماركس [بموسكو]... كان لدخول تشيز كأول مؤسسة مالية أمريكية في الاتحاد السوفييتي أهميةٌ رمزيّة لا يمكن إنكارها... بعد ذلك منح السوفييت الإذن لسيتي بنك وعدة بنوك أمريكية أخرى بافتتاح مكاتب تمثيلية لها في موسكو».
ولأخذ فكرة عن أيّ نوع من التفكير والاستهانة بالأمن القومي كان لدى تلك الزمرة من المسؤولين، يكفي أن نذكر مثلاً أنّ كوسيغين، حسب ما كتب روكفيللر بمذكراته، سأل هذا الأخير إن كان بالإمكان أن يساهم بنكه (تشيز) في تمويل بناء محطات طاقة نووية في روسيا بحيث تكون ملكيتها مشتركة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي! هي «قيادات» ستصل إلى حضيض التنازلات والتخريب مع غورباتشوف، الذي التقاه روكفيللر أيضاً (في بعض زياراته لرونالد ريغن في واشنطن) واصفاً إيّاه بـ«الأمين العام القادر والمفعم بالطاقة» وممتدحاً إياه ومشجّعاً له في سياسات «إعادة الهيكلة» الليبرالية (البيرسترويكا) والانفتاح (الغلاسنوست).
وفقاً لهذه «الإصلاحات» الليبرالية، تم عام 1987 تحرير التجارة الخارجية، أيْ رَفع تلك القيود التي بفضلها كانت توجد سوقٌ داخلية للاتحاد السوفييتي ذات أسعار أخفض من الأسعار العالمية بعدة مرات. وبسبب ذلك صار كلّ شيء يتمّ تصديره، من الغسالات الأوتوماتيكية والبرّادات إلى ورق التواليت ومعجون الأسنان. وكمثال يذكر ميتشورين أنه في زمن البيرسترويكا، كان إنتاج الاتحاد السوفييتي من الزبدة يشكل 21% من إجمالي الإنتاج العالَمي، ومع ذلك لم يكن المواطن السوفييتي يجد الزبدة في المتاجر! كانت تصدَّر وتتوافر بالأسواق العالمية، وهذا العَوَز المُفتَعَل لم يكن يخدم سوى حفنة من مافيات التجارة الفاسدين.
وحتى الثروات الاستراتيجية التي راكمها الشعب بعمل وكفاح سنوات طويلة والمرتبطة بالأمن القومي للبلاد باعها الليبراليون للخارج، ففي 21 تموز 1989 تمّ رفع جميع القيود على تصدير الذهب السوفييتي للخارج، مع الاستمرار بضخه في السوق الداخلية بسعر أرخص من السوق العالمية، ليشتريه المضاربون ويصدّروه للخارج بأرباح كبيرة لجيوبهم الخاصة. ولنا أن نتخيّل التأثير الإضافي لذلك على العملة الوطنية. وأخيراً في 26 كانون الأول، 1991، توقّف قلب البلاد العظيمة عن الخفقان بسبب «الأزمة القلبية» المُفتَعَلة التي شارك بها أولئك الفاسدون والمجرمون والعملاء.
توظيف الرأسمالية لـ«سيكولوجيا الطوابير»
إضافة إلى توظيفهم رمزية الطابور لوصم الاشتراكية والشيوعية، فإن الباحثين البرجوازيين عندما يتناولون ظاهرة الطوابير في البلاد الرأسمالية، يصبح الأمر بأعينهم مختلفاً، فلا يجرؤون على مساءَلَة نظام العلاقات الرأسمالية نفسه، بوصفه مولّداً ومفاقماً مستمراً لاتساع الهوّة الطبقية وزيادة الفقر والبطالة وفوضى الإنتاج واضطراب العرض والطلب. بل يصبح تعاملهم فقط مع النتائج، ويقبلون بالطوابير الرأسمالية، ويركزون فقط على محاولة تخفيف وتلطيف وتجميل مظاهرها السلبية. لذلك نجد لدى محاولة الاطلاع على الأدبيات البرجوازية عن تناول علمي للطوابير سيظهر لنا أول ما يظهر وبشكل واسع التركيز على موضوع بات فرعاً علمياً له منظروه وخبراؤه والمتخصصون فيه؛ ويسمّونه «علم نفس الطوابير» Queue Psychology. ورغم هذه الازدواجية في المعايير والنفاق البرجوازي في التعامل مع «الطوابير الشيوعية» مقابل «الطوابير الرأسمالية»، لكن لا بد من الاعتراف هنا بأنّ الرأسمالية استطاعت توظيف نتائج هذا العلم بذكاء وبما يخدم هيمنتها وتلطيف الضغط النفسي الذي ينجم عن انتظار الناس في طوابير (بوصفهم زبائن ومستهلكين لبضائع شركة تجارية معينة). لذلك نجد الشركات التي تقدم خدمات وبضائع فيها انتظار بالدور طوّرت أساليب مبتكرة وإبداعية حقاً في هذا المجال.
وفق أحد المواقع المتخصصة بسيكولوجيا الطوابير، وضمن هذا المنظور، الذي يقدّم النصح للرأسماليين والشركات سواء التي تقدم خدمات فيها انتظار فيزيائي، أو إلكتروني (مواقع الإنترنت)، يقدم النصائح التالية (3 أيلول 2019):
«تظهر الأبحاث أن ما يشعر به الناس أثناء الانتظار مهمّ أكثر من طول الانتظار. من خلال الاستفادة من المعرفة في سيكولوجيا الطوابير، يمكنك التأكد من أن تجربة زبائنك ستكون تجربة إيجابية... بالنسبة للشركات، فإن الخطر لا يكمن في وضع الأشخاص في قائمة انتظار. يكمن الخطر في تجاهل نفسية قائمة الانتظار وتقديم تجربة سلبية تجعلك تخسر العملاء وتضر بعلامتك التجارية».
ويعطي الموقع لمحة تاريخية عن نشوء سيكولوجيا الطوابير:
«قام المهندس الدنماركي A.K. Erlang بتأسيس حقل نظرية الطابور في أوائل القرن العشرين أثناء تحليله لأوقات انتظار الهاتف. وفي خمسينيات القرن العشرين في مدينة نيويورك، تجسدت مشكلة الانتظار في طابور في مصاعد ناطحات السحاب المبنية حديثاً آنذاك. وسرعان ما أدرك مديرو المباني أن المشكلة لم تكن فترة الانتظار بحد ذاتها بقدر ما كانت المشكلة هي وقت الانتظار المُدرَك. فما الحل؟ أضف مؤشرات أرضية توضح تقدم المصعد، وأضف مرايا ممتدة من الأرض إلى السقف بالقرب من المصاعد لتشتيت انتباه الناس أثناء انتظارهم. ومنذ ذلك الحين، تم استخدام حيل مماثلة في كل مكان بدءاً من انتظار الأمتعة بالمطار وحتى غرف انتظار الطبيب وممرات الخروج في السوبر ماركت».
ويذكر الموقع من أسماء المتخصصين بهذا المجال ريتشارد لارسون Richard Larson أستاذ العمليات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المعروف أيضًا باسم «الدكتور طابور»، والأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، ديفيد مايستر David Maister الذي وضع ستة مبادئ أساسية «ذهبية» تحدد تجارب الزبائن عند الانتظار في طابور:
1- زمن الانتظار وأنت غير منشغل بشيء تشعر به أطول مما لو كنت منشغلاً بشيء ما – ومن هنا تنصح الشركات بإشغال المنتظرين بما يشتت انتباههم وينسيهم طول الانتظار.
2- الناس يحبون أن يروا الخدمة تبدأ: أي أن يشعروا بتقدم الدور في الطابور.
3- الانتظار غير المعروف المدّة يُشعَر به أطول من انتظار معروف المدّة سلفاً: ومن هنا ينصح بابتكار مؤشر أو عداد ما يحدد الوقت التقريبي لانتظار الزبائن، بل ويفضل أن يكون أطول مما قد يتطلبه انتظارهم بالفعل، لكي يشعروا «بمكافأة» تأتي كمفاجأة سارة عندما يتم الانتهاء أبكر من المتوقع!
4- الانتظار غير المفسَّر يبدو أطول من المُفسَّر: لذلك يُنصَح بالتواصل مع الزبائن وشرح أسباب ومبررات التأخيرات الطارئة.
5- الانتظار غير العادل يبدو أطول من «الانتظار العادل»: ولذلك ينصح بالالتزام بقاعدة (من يأتي أولاً تتم خدمته أولاً – أو First In First Out واختصاراً FIFO).
6- القلق يجعل الانتظار يبدو أطول: وتنصح الشركات بإزالة بواعث القلق (سواء منطقية أو غير منطقية) وربما يكون الطابور الواحد الطويل أفضل من هذه الناحية من تقسيم المنتظرين إلى عدة طوابير لأنّه في هذه الأخيرة قد يشعر زبون بالقلق لأنه لم يوفق مثلاً في اختيار أحد الطوابير التي تتم خدمتها بسرعة، أو لأن احتمال تجاوز الدور والقفز من طابور إلى آخر يصبح أكبر مما يساهم ببعث مشاعر القلق في نفسية المنتظرين.
نماذج من الأدبيات البرجوازية للتلاعب بالوعي عبر رمز «الطابور الشيوعي»:
يمكننا إيجاد عدد هائل من الأدبيات البرجوازية التضليلية والمعادية للشيوعية، التي ركّزت على «الطابور» بوصفه «رمزاً شيوعياً» سلبياً. ونكتفي بذكر مثالَين عن هذه الأدبيات.
المثال الأول، «مقال بحثي» نُشِرَ في «المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع الثقافي» في 1 آذار 2019، كتبَ مؤلّفه في الخلاصة الافتتاحية: «اليوم، بعد أكثر من 25 عاماً من سقوط النظام، ما تزال صورة (الطابور الشيوعي) حاضرةً بحيوية ويعاد إنتاجُها في الدعابات التهكمية، والاستعارات الأدبية، والصور الإعلامية». ويتابع الكاتب بأنّ هدف ورقته هو:
«إظهار كيف أنّ الطابور، مُنتَزعاً من ارتباطه بتفاعلات الحياة اليومية، قد أصبح دالّاً مشحوناً معنوياً وعاطفياً. وبتذكّره بوصفه غير عادل، ومُذِلّاً، وسخيفاً، يقف (الطابور الشيوعي) في تعارضٍ مع النماذج النظرية للطوابير، ويؤدّي وظيفةَ مَجازٍ أدبيّ مُرسَل لذاكرة الماضي الشيوعي كلّه. وفي الخطاب العام ما بعد الشيوعي، أصبح الطابور رمزاً قويّاً، مُلَوَّثاً، استُخدِمَ، وعلى حدّ سواء، من أجل المصادقة على رأسمالية السوق الحر، وانتقادها أيضاً. وتقترح الورقة التالية بأنّ انتشاره يمثّل قوة دفعٍ ثقافية لعمليات الخصخصة ما بعد الشيوعية».
لنسجل الملاحظات التالية: أولاً، انتزاع الطابور من سياقه التاريخي أي من «تفاعلات الحياة اليومية»، هو أوّل خطوة لتوظيفه كرمزٍ للتلاعب بالوعي لأنّه يصبح بذلك مقولةً «غير تاريخية» يمكن للمتلاعب حشوها وشحنها بما يشاء. وكان هذا واضحاً من خلال استخدام الكاتب لمغالطة منطقية شائعة هي التعميم stereotyping على «الماضي الشيوعي كلّه». ثانياً، يحاول الكاتب إسباغ «استثنائية» سلبية على «نموذج الطابور الشيوعي» وهذا ليس مستغرباً، إذا علمنا أنّه في سياق ورقته يحاول بالمقابل مثلاً أن يضفي شحنة إيجابية وإطراءً على مثالٍ اقتبسه من كاتب برجوازي آخر مثله، عن قيام شركة ماكدونالدز بتنظيم الطوابير في محلّاتها التي افتتحتها في هونغ كونغ وبأنّ لها دوراً في إدخال «الحضارة» و«الرقي» على شعب هونغ كونغ وكأنه شعبٌ «فوضويّ» أو «همجي» قبل أن «يتنوَّر» بـ«الحضارة الأمريكية»:
«لم يكن للجو الاجتماعي في هونغ كونغ المستَعمَرة في الستينيات صلةٌ بشيءٍ اسمه رُقيّ...» وبعد افتتاح مكدونالدز لمحلاتها في هونغ كونغ عام 1975 أصبح الاصطفاف في طابو «علامةً على ثقافة الطبقة الوسطى الكوزموبوليتانية. ولقيت ماكدونالدز التقدير من السكان القدماء على إدخالها الطابور».
ثالثاً، بعد أن قام الكاتب بتعميم خاطئ وكاذب لمعاناة الناس في «الطوابير الشيوعية» على طول المرحلة السوفييتية بلا تمييز، صار بإمكانه بسهولة الهجوم على أيقونة أهم، ومقاله «العِلمي» في هذه المجلة الأمريكية الأكاديمية احتوى على صورة واحدة، مع وصفها في النص:
«التمثال السيء الذكر لنصب ستالين في براغ، وهو يقود خلفه العمال، وهو نُصبٌ خلال وجوده بين 1955 و1962 كان أحد أضخم التماثيل الجماعية في أوروبا، وأطلِقَ عليه عالمياً اسم (طابور انتظار اللحم)»
وأخيراً، في هذا المثال، نكشف للقارئ أهمّ معلومة عن هذا الكاتب البرجوازي، وهو أنّه تشيكي اسمه «بافل بوسبيتش» ومقاله «البحثي» المرحَّب به في تلك المجلة الأكاديمية الأمريكية مليء بالإشارات الإيجابية والتعاطفية مع «الثورة المخملية» عام 1989، وتجاه اقتصاد السوق الليبرالي، وكان عنوانه «شبح الطابور: إعادة ترميز الماضي في جمهورية التشيك ما بعد الشيوعية».
نختم بمثال ثانٍ من توظيف تلاعبي لبعض الإنتاجات الأدبية حول الطوابير في الاتحاد السوفييتي، حتى عندما لا يكون للأديب أحياناً دورٌ مباشر أو إشارات سياسية مباشرة أو عميقة تشير للأسباب أو المرحلة، كما في رواية لكاتب روسي شاب وغير مشهور كثيراً، اسمه فلاديمير سوروكين، عنوانها «الطابور»، وصدرت بالروسية في باريس عام 1985، وتُرجمت إلى الإنكليزية عام 1988 بعنوانها الطابور «The Queue». يصوّر الكاتب طابوراً طويلاً غير محدد المكان والزمان وغير محدد ماذا ينتظر المصطفون فيه تحديداً، وأحاديث عادية تجري بينهم وهم ينتظرون وينامون ويصحون في الطابور، في عملٍ قيل إنّ جنسه الأدبي غير محدَّد (بين الرواية والمسرحية والقصة). هذا التجريد عن سياق تاريخي محدد، ولو أنّه أمرٌ شائع في الأدب، لكنه في هذا المثال سمح للمترجمة الإنكليزية لهذا العمل الأدبي «سالي لايرد» بأنْ تستغله في البروباغاندا المعادية للشيوعية (وقد يكون لدى الكاتب نفسه ميول مشابهة)، فمنذ الصفحة الثانية لتقديمها لهذا العمل، كتبت المترجمة الإنكليزية:
«في الحقيقة، قد يكون الطابور رمزاً ممتازاً للحياة في مجتمعٍ تحكُمُه، كما يعبّر سوروكين، إيديولوجيا ليس لها صيغةِ المُضارِع؛ لأنّ مجتمعاً في حالة انتظار، يبقى مستَعبَداً للمستقبَل. ولا يهمّ إنْ كانَ الإنسان المنتظِر في الطابور، يطمح كهدفٍ له إلى أمثولةٍ سامية ما، أو إلى زوجِ حذاءٍ أجنبيّ أو نوعٍ نادرٍ من السجق. فإنه بوصفه هدفاً، تبقى الخاصية الأهم لهذا الهدَف، كما هو حال (الشيوعية)، أو (اليوتوبيا)، هي في أنَّهُ شيءٌ يُعطَى إعطاءً، وليس يُختارُ اختياراً؛ تتمّ مشاركَتُهُ، وليس فرديّاً (والمواطن لا يسأل: ماذا سوف أشتري اليوم؟ بل: ماذا سوف يعطونني اليوم؟)».
من الواضح في هذا النص، عدة تقنيات للتلاعب بالوعي: مثلاً تقنية «استبدال المفهوم»، تبرز في الخلط الخفي المتعلق بـ«الملكية العامّة» التي يتم الإيحاء هنا بأنّها «تشارك» بوسائل الاستهلاك الشخصية الفردية، في حين أنّ الملكية العامة الاشتراكية هي لوسائل الإنتاج. كما يتم إبراز التهكم والحط من شأن الأهداف الإنسانية التغييرية العليا وتلطيخ الشيوعية، وتصويرها بأنها «استعباد» و«قهر»، أما مجتمع العبودية المأجورة الرأسمالي، مجتمع بيع وشراء كلّ شيء، حتى جسد الإنسان وروحه وضميره، فهو الذي يتمّ تمجيده على أنّه «حرّية» و«اختيار»!
المشكلة لا تكمن في التعبيرات الأدبية المشروعة عن التعاطف مع معاناة الناس بأي مكان وزمان، لكن المشكلة هي في الفهم العلمي لأسبابها وسياقاتها وظروفها التاريخية، والبرنامج السياسي لكيفية الانعتاق منها. ومن الواضح أنّ فترة كتابة الرواية/المسرحية، وترجمتها (أواسط الثمانينات) تتطابق زمنياً مع بروباغاندا إدانة الماضي الشيوعي وتلطيخه لتبرير الدفع نحو البيرسترويكا واستعادة الرأسمالية.
تحميل المرفقات :
- طوابير الفساد الليبرالي... (529 التنزيلات)