حصص التموين السوفييتي و«العدالة في الحرمان والوفرة»
ولدت الاشتراكية السوفييتية في ظروف عصيبة وحوربت من تحالفٍ دولي عدواني ومن الرجعيين بالداخل، وقطعت عنها جغرافياً مصادر الغذاء والطاقة، ومع ذلك استطاعت سلطة العمال والفلاحين انتزاع أعمق عدالة ممكنة من فم الحصار والحرب الأهلية 1917– 1921، مثل: التوزيع المجّاني للخبز ولو كان شحيحاً، مروراً بثورة التصنيع والتجميع الزراعي، حيث خُصِّصَت لكل عامل وعاملة بالوظائف العضلية عام 1930 حصة رخيصة السعر مدعومة: يومياً 800 غ خبز، وشهرياً 4400 غ لحوم و1500 غ سكر و1200 غ سمك و300 غ زبدة، وحصص أقل قليلاً لعمال الوظائف غير العضلية، فاستفاد المنتجون من خير الذي صنعوه وزرعوه في وطنهم بواقع 26 مليون مستفيد (مع عوائلهم ضمناً) ليرتفع المستفيدون بعد 4 سنوات فقط إلى 50 مليوناً (أي: ثُلث السكان) عام 1934!
يفغيني تشوسودوفسكي
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
كان هدف الحصص التموينية ضمان إعادة توزيع الدخل الوطني لحماية الشرائح منخفضة الأجر من الطبقة العاملة السوفييتية، من جهة، ولجل الإضافات النقدية إلى أجور الشرائح الأعلى من العمال الصناعيين بمثابة حافز مباشر لزيادة إنتاجية العمل، من جهة أخرى.
بدأ التموين كمبادرة شعبية
فكرة تخصيص حصص تموينية لم تبدأ دفعةً واحدة، ولا بشكل مركزي من الحكومة السوفييتية، بل من بعض السوفييتات أولاً، بدءاً بلينينغراد (الفكرة عام 1928 وتنفيذها عام 1929) ثم أصدر سوفييت مدينة موسكو قراراً ببيع الخبز بسعر مدعوم للعمال على البطاقة التموينية منذ شباط 1929. وبعد فترة ظهرت ضرورة توسيع النموذج ليشمل موادَّ غذائية مهمة أخرى، مثل: السكر، والشاي، والبرغل، والزيت النباتي، والزبدة، وسمك الرنكة المملح، واللحوم الحمراء، والبطاطا، والبيض، والمعكرونة، والمعلبات، والمعجنات والحلويات. ثم المواد غير الغذائية أيضاً. ومع المراحل الأخيرة من الخطة الخمسية الأولى (1931) بات نظام توزيع الحصص التموينية شاملاً تقريباً في المدن.
مع ذلك لم يكن هناك حظرٌ قاسٍ ولا سريع يمنع بيع الأغذية من مصادر أخرى، فيمكنك الحصول على كميات إضافية من المواد نفسها من السوق لكن بأسعار أعلى، إضافة إلى السلع التَرفيَّة والثقافية وما شابه. وتمتع أعضاء الجمعيات التعاونية بامتيازات إضافية، بالنسبة للشاي والزبدة مثلاً. ورغم اقتصار حصص الحليب على الأطفال فقط وليس الكبار، لكن كان هناك حرص على تأمينها رغم صعوبة الانتظام في ذلك. وكانت هناك حصص تموينية من الألبسة أيضاً، لكن من خلال إصدار «رُخَص» قانونية مختلفة عن البطاقات التموينية الغذائية.
وكان عمال الصناعات الثقيلة عملياً من شريحة المستهلكين ذوي الامتيازات الأكبر. وفي عام 1931 انتقلت صلاحية إصدار البطاقات التموينية من يد التعاونيات إلى يد الحكومة والبلديات. ونظراً للاتساع الشاسع لمساحة البلاد وتفاوت حظوظ المناطق من حيث موقعها الجغرافي بما يتعلق بوفرة الغذاء، صار من الضرورة بمكان تصنيف المناطق في فئات مختلفة من حيث حجم الدعم التمويني المطلوب.
يجدر بالذكر، أنّ أجور السكن والمواصلات والسفر كانت مدعومة لجميع السكان، بغض النظر عن انتمائهم الطبقي، وكذلك الأمر بالنسبة للوجبات الجماعية (المشاعية) التي شكلت إضافة حيوية تكمّل الحصص التموينية الأساسية. وهذه الأخيرة كانت أصلاً لمساعدة سكان المدن، نظراً إلى أنّ الفلاحين بوصفهم بالطبع منتجين للغذاء فلم يكونوا بحاجة لبطاقات غذائية، بل كان يفترض أنهم بعد أن يقايضوا محاصيلهم مع الدولة، وأن يتبقى لديهم ما يكفي حاجتهم منها، وربما أكثر، لأنّ ظاهرة انتشار المضاربة بالغذاء كانت تشير إلى أنهم كانوا يبقون حتى على ما يزيد عن حاجتهم، إما بسبب امتناع بعضهم عن تسليم ما يتوجب عليه إلى الدولة، أو لأنه كان يقتّر على نفسه طوعياً بجزء من استهلاكه الغذائي، من أجل أن يقايضه بحاجيات أخرى. وفي الأرياف شجعت الدولة الفلاحين على تسليم محاصيلهم لها بأسعار محددة، مقابل تزويدهم بالمنتوجات الصناعية وحاجياتهم المنزلية بكميات تتناسب مع المحصول الزراعي الذي يسلّمونه. وهو نظام استفاد منه نحو 25 مليون فلاح، وأطلق عليه اسم «أوتوفاريفاني» والتي تعني «التحويل إلى بضائع». كما تم استخدام حوافز تعامل تفضيلي للفلاحين الكولخوزيين من أجل تشجيع باقي الفلاحين للانضمام إلى الكولخوزات [المزارع التعاونية وهي غير «السوفخوزات» التي هي المزارع المملوكة للدولة السوفييتية].
هل كان يوجد قطاع خاص؟ طبقاً لتقرير سوفييتي رسمي (1933) عن تنفيذ الخطة الخمسية الأولى، فإنّ «السوق الحرة» كانت تؤمّن 33–36% من السلع الاستهلاكية عام 1928، وانخفضت إلى 25–27% أعوام 1929–1930. ثم بحلول عام 1932 تلاشت تجارة المفرّق الخاصة تماماً من أماكن ثابتة، بسبب أنها حظرت قانونياً. وتحول ما تبقى من الطبقة التجارية إلى نشاط المضاربة التي كانت غير شرعية ومحظورة بالقانون أيضاً.
الإطعام العام كنموذج (مركزي– لامركزي)
شكّل الإطعام العام جزءاً حيوياً من نظام الحصص التموينية، حيث كانت تقدم وجبات بسعر رخيص، كإضافة للحصص التموينية الغذائية الأساسية التي تسمح بها البطاقات. وأولت الحكومة السوفييتية اهتماماً كبيراً بتطوير الإطعام العام، ليس فقط لما له من دور في تحويل الفردانية لدى الناس إلى روح جماعية، بل وكان الإطعام العام في زمن تقنين الحصص التموينية جذّاباً بشكل خاص، لأنه كان بلا شكّ اقتصادياً في الطعام والوقود والوقت، ولذلك تلقّى كل الدعم والتشجيع الرسمي، ولا سيما في الخطة الخمسية الأولى، وأعطى نتائج باهرة.
كانت شبكة المطاعم العمومية بأكملها تحت الإشراف العام للاتحاد المركزي للتعاونيات الاستهلاكية (سينتروسويو) و«وزارة تغذية الشعب» الملحقة بمفوضية الشعب لشؤون الإمداد، التي تشرف أيضاً على برنامج الحصص التموينية. ورغم ذلك كان نظام الإطعام العمومي إلى حد ما يعمل خارج إطار الإمداد التمويني المركزي. ورغم أنّ معظم الطعام الذي يقدَّم كانت تؤمّنه الدولة، لكن كلما كان الإطعام الجماعي يتنامى أكثر، كلما تزايد صعوبة تخصيص الدولة لمخزونات كافية من المواد الغذائية لهذا الغرض. ولحل هذه المشكلة بالذات وإعادة تجديد الإمدادات المحدودة المخصصة، حثّت الحكومة فروع إطعام الموظفين المحلية في كلّ مؤسسة ومصنع ومشروع (وكانت تسمى اختصاراً Z.R.K.) وفروع وزارة إمداد العمال (المعروفة اختصاراً O.R.S) والمرتبطة بما يعرف بأنظمة التعاونيات المصنعية المُغلقة، حثّتهم جميعاً على أن يطوّر كلّ فرع منهم بنفسه قواعده الغذائية بالاعتماد على ذاته. ووفقاً للإحصائيات الرسمية حققت هذه النشاطات المستقلة في الحصول على الطعام زيادةً في تأمين القوام الطعامي لمطابخ المصانع والمؤسسات بنسبة %15–25%. وتم إنجاز تنظيم التزود الذاتي أو المحلي بواسطة شراء الطعام من المزارع التعاونية ضمن نموذج من المُجّمَعات اللامركزية، وكذلك بواسطة قيام المؤسسات أو المصانع نفسها بإنشاء مزارعها وبساتينها الخاصة بها.
وأصرت الحكومة السوفيتية وستالين على وجه الخصوص على إنشاء حزام من الإمدادات الغذائية حول كل تجمع صناعي وحضري، وحتى في ظل ظروف فترة التقنين التمويني، تم التأكيد على أنها هذه اللامركزية في الإمداد الغذائي ستظل سمة استراتيجية للتطور الاقتصادي اللاحق. فحتى عندما انفرجت حدة الأزمة الغذائية، واصلت الحكومة رعايته وتطوير تلك الأحزمة، الأمر المفيد دائماً لاستهلاك سكان الحضر للخضروات والفواكه المبكرة أو سريعة التلف، ولا سيما في بلد لا توجد فيه حاجة للتخصص الإقليمي المفرط، وكذلك بسبب تأخر سرعة تطور وسائل النقل آنذاك عن اللحاق الكافي بسرعة التقدم الاقتصادي العام. وأدرك المخططون السوفييت حدود المركزية في التخطيط وطبقوها ضمن الضرورة.
يفغيني تشوسودوفسكي: باحث ومُحاضر سابق في «معهد جنيف لخرّيجي الدراسات الدولية»، وتمّ إعداد المادة من دراسته المعنونة «الحصص التموينية في الاتحاد السوفييتي» والمنشورة في مجلة «مراجعة الدراسات الاقتصادية»، حزيران 1941، المجلد8، العدد3، ص143-165.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 985