وحدانية «جنيف».. والحل المطلوب في سورية

وحدانية «جنيف».. والحل المطلوب في سورية

لايزال أواخر الشهر الجاري موعداً تأشيرياً معلناً من المبعوث الدولي إلى سورية لانعقاد جولة جديدة يرجح أن تكون أخيرة وحاسمة من المحادثات السورية- السورية في جنيف، بما يعني بلورة وإطلاق الحل السياسي للأزمة السورية، في ضوء الآجال الزمنية الواردة في متن القرار الدولي 2254 والممتدة لأيلول، واستناداً إلى التفاهمات الروسية- الأمريكية، وإلى ما جمعه السيد ستافان دي ميستورا وفريقه في جولات جنيف3 خلال شهري آذار ونيسان من هذا العام، من الفرقاء السوريين، ولاسيما الاقتراحات العملية والدستورية التي قدمتها منصة موسكو للمعارضة السورية حول الجسم الانتقالي بتركيبته وشكله وصلاحياته ومهامه وإطاره الزمني، المتعلقة جميعاً بتنفيذ بنود القرار المذكور، بما فيها بشكل رئيسي الجسم الانتقالي ذاته، والدستور، والانتخابات، في نهاية المرحلة الانتقالية.

وعلى الرغم من ذلك، وفي ظل التطورات الميدانية التي تشهد تقدم طرف هنا وتراجع آخر هناك، تحاول بعض الأوساط، ولاسيما تلك المرتبطة بالمتشددين من أطراف الصراع المتمسكين بأوهام «الحسم وإسقاط» التي أثبت الواقع ومسار الأزمة استحالتها، إثارة اللغط مجدداً حول انحسار الحل السياسي لصالح تقدم فرص الحلول العسكرية، في تجاهل متعمد لدى البعض من هؤلاء لجملة من الحقائق، أولها: أن التقدم أو التراجع ببعده العسكري الميداني المحلي السوري إنما يعكس تقدماً أو تراجعاً للمحاور الإقليمية والدولية المتورطة في الأزمة السورية، وهو مسار بعموميته يسير بوضوح في غير المصلحة الأمريكية ضمن توازن القوى الدولي الجديد وفي غير مصلحة مختلف الأطراف الإقليمية التي تلعب دوراً سليباً في الوضع السوري ووكلائها المحليين والذين سيضطرون جميعهم للذهاب إلى الحل السياسي مع ادراكهم المفترض لواقع أن ما قد يحصلون عليه اليوم لن يحصلوا عليه غداً، وثانيها بالتالي: أن لا أفق أمام أية حلول عسكرية/ ميدانية صرفة مالم ترتبط بالحل السياسي وفتح آفاقه التغييرية الجدية الكفيلة باستكمال مهمة فرز المسلحين وابتعاد المؤمنين منهم بهذا الحل عن الجماعات الإرهابية، واستكمال مهمة مكافحة واجتثاث تلك الجماعات كلياً، وثالثها: أن اشتعال الجبهات هو بحد ذاته مؤشر هام لاقتراب الحل وليس ابتعاده، لأن أطراف الصراع المسلح يحاولون تقليدياً تحسين أوضاعهم عند التفاوض من خلال الميدان أيضاً.

وثمة مؤشر آخر على ذلك يتمثل في إعلان كل من النظام و«منصة الرياض» استعدادهما لاستئناف المفاوضات «دون شروط مسبقة». وإن هذا الإعلان حتى ولو جاء متأخراً وكان ثمنه رفع فاتورة الدم والخراب لدى عموم السوريين يدلل في نهاية المطاف على أن مختلف القوى المعيقة للحل السياسي انتقل دورها من رفض الحل، بشكل أو بآخر، إلى محاولة تحسين الوضع التفاوضي في حيز الحل السياسي ذاته، ويبقى عليها أن تدرك أيضاً أن ليس لدى سورية أو السوريين ترف المزيد من إضاعة الوقت، وأن إضاعة جنيف بفرصته الأخيرة المرتقبة ستعني إضاعة سورية ذاتها ككيان جغرافي سياسي، بما يحمله ذلك ومن تداعيات إقليمية ودولية خطيرة، بعد إضاعة فرصة تاريخية تتمثل في التقاط اللحظات المفصلية في تحولات ميزان القوى الدولي التي تشهد صعود أوزان وأدوار القوى الصديقة للشعب السوري حقاً.

الآن،  بناءً على ما سبق، وإذا كانت تجربة ست سنوات تقريباً بعد انفجار الأزمة السورية في 2011 قد أثبتت موضوعياً وحدانية الحل السياسي، وإذا ثبت في ظل مستوى التدويل العالي في هذه الأزمة ومخاطر استمرارها أن مسار جنيف هو مسار وحيد وقابل للتفعيل في خدمة حل الأزمة عبر مختلف القرارات الدولية المصاغة في الزمن غير الأمريكي، أي بما يتقاطع مع مصلحة السوريين وشعوب المنطقة، وإذا كانت مختلف العوامل الموضوعية لانطلاق هذا الحل باتت متوافرة، فإن السؤال المطروح مجدداً اليوم هو أي حل سياسي يخدم السوريين؟ وأية سورية مطلوبة، من وجهة نظر حزب الإرادة الشعبية وجبهة التغيير والتحرير بوصفهما قوى معارضة سورية ضد النظام وضد التدخل الخارجي بالمعنى العسكري الأمريكي المباشر التقليدي، بآن معاً؟

إن الحل المطلوب ينبغي فيه أولاً وقف نزيف الدم السوري، وتثبيت تقليم الأدوار السلبية من اللاعبين الإقليميين في سورية، وتمهيد الأرضية المطلوبة لمواجهة الإرهاب واجتثاثه من البلاد، بالتوازي مع فتح أفق «التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل، سياسياً واقتصادياً اجتماعياً»، مروراً بالحفاظ على مؤسسات الدولة وترميمها بهدف استنهاض الدور الرئيسي لجهاز الدولة ولاسيما في إدارة الاقتصاد الوطني، وقيام شكل جديد من العلاقة بين المركز والأطراف، يحافظ على وحدة البلاد أرضاً وشعباً وسيادة وطنية، ويؤمن الحاجات التنموية للمحافظات والمناطق على نحو واقعي وعادل ومستدام، على قاعدة «أعلى نسب نمو وأعمق عدالة اجتماعية» في مصلحة الشعب السوري، وإن هذا ممكن تماماً من خلال ثنائية تفكيك بنى الفساد الكبير في البلاد والاستيلاء على أمواله وتوظيفها في التنمية الاقتصادية الإنتاجية، والاستفادة من الميزات المطلقة (وليس فقط النسبية) التي تتمتع بها سورية.

وإن من شأن ذلك كله إعادة توحيد السوريين على أسس وطنية بعيداً عن الصراعات والثنائيات الثانوية، في مواجهة الإرهاب ولاستعادة الأراضي السورية المحتلة والسليبة، ضمن استعادة الدور الوظيفي لسورية في مواجهة العدو الصهيوني بوصفه العدو الرئيسي، وتحول سورية إلى رافعة رئيسية جدياً في مشروع وحدة شعوب الشرق العظيم كرد استراتيجي على مشاريع الفوضى الأمريكية وبقاياها.    

إن التغيير في سورية هو ضرورة موضوعية مستحقة منذ زمن، وإن معركة الحل السياسي وبلورته وترجمته بمعنى رسم مستقبل سورية، أي طبيعة نظام الحكم فيها بالمعنى السياسي والاقتصادي الاجتماعي وأطرها الديمقراطية وبنيتها التشريعية والقضائية والتنفيذية هي المعركة الأكثر ضراوة، ولكن هذه المعركة السياسية ذاتها ستجري أيضاً ضمن منطق الانسجام مع تحولات ميزان القوى العالمي، وسترتبط أيضاً بقدرة مختلف القوى والتيارات السياسية السورية على التكيف مع متطلبات الانتقال للفضاء السياسي الجديد، والتي ستشهد طوراً جديداً من نمو الحركة الشعبية وتطوير تجربتها.
----
المادة منشورة في العدد 296 تاريخ 26 آب 2016 من مجلة «النداء» نصف الشهرية الصادرة عن الحزب الشيوعي اللبناني وكانت مخصصة للعدد السابق منها

----

«خاص النداء»
عبادة بوظو
أمين حزب الإرادة الشعبية للشؤون الخارجية والإعلامية