تأملات في المرحلة الجديدة لتطور العلاقات الدولية
تمر العلاقات الدولية في مرحلة معقدة وصعبة للغاية, وليس جديداً في تاريخ روسيا أن تجد نفسها على مفترق طرق، وتساهم في تحديد توجهات تطور مستقبل البشرية.
بقلم: سيرغي لافروف
ترجمة وإعداد: م. عدنان خليل – خاص قاسيون
تتعدد وجهات النظر حول هذه القضية، بما في ذلك التشكيك في واقعية وصوابية السياسة التي ننتهجها اليوم.
مرة أخرى, ومن جديد، يحتدم النزاع والخلاف الأبدي في وسط النخب الروسية بين ما نسميهم «الغربيين» ودعاة خصوصية روسيا في طريق تطورها. فهناك في الداخل، كما في الخارج، من يميلون إلى الاعتقاد بأن روسيا محكوم عليها تاريخياً بأن تكون متخلفة «تلتحق بالركب»، وتجد نفسها مضطرة دائماً للتلائم مع قواعد تفرض عليها من الخارج, ولذلك ليست قادرة على أن تعلن وبصوت عال عن دورها في القضايا الدولية. أود في هذا السياق أن أبدي بعض الملاحظات، مستنداً إلى الوقائع التاريخية.
استمرارية التاريخ
لا شك بأن السياسة الواقعية السليمة لا يمكنها أن تكون بمعزل عن حركة التاريخ. وما يبرر ذلك هو احتفالنا في العام الماضي بذكرى مرور سبعين عاماً على انتصارنا في الحرب الوطنية العظمى على النازية, وفي العام الذي سبقه عاد إلى الأذهان ذكرى مرور مائة عام على الحرب العالمية الأولى, وفي عام 2012 مضت الذكرى المئتي على انتصارنا في معركة برودينو، واندحار جيوش نابليون، وكذلك ذكرى مضي الأربعمئة عام على تحرير موسكو من الاستعمار البولوني.
تشير هذه المعالم التاريخية بوضوح على الأهمية الاستثنائية لدور روسيا في التاريخ الأوروبي والعالمي على حد سواء. كما تثبت الحقائق التاريخية حقيقة الدور الفاعل لروسيا في الحياة السياسية الأوروبية. ولم تكن على الهامش يوماً. فعندما اعتنقت روسيا المسيحية في العام 988 - بالمناسبة احتفلنا منذ وقت ليس ببعيد بالذكرى 1025 عام اعتناق روسيا للمسيحية, ساهم هذا الحدث التاريخي في تفعيل مؤسسات الدولة وتدعيم العلاقات
الاجتماعية والثقافية بين روسيا والبلدان الأوروبية، وفي حينها كان الزواج في أوساط الأسر الحاكمة عاملاً هاماً في الحياة السياسية العالمية.
البنات الثلاث للأمير الروسي، يارسلاف مودري، توجن كملكات في القرن الحادي عشر بالتاج الملكي للنرويج وهنغاريا وفرنسا, أما شقيقته، فتزوجت من الملك البولوني، وحفيدته تزوجت من الإمبراطور الألماني.
العديد من الأبحاث العلمية تؤكد على أهمية الدور الثقافي والروحي الذي لعبته روسيا في الحياة الأوروبية. لكن وفي الوقت نفسه، حافظ الشعب الروسي على ثقافته وعالمه الروحي الخاص، ولم يندمج كاملاً في الغرب, وأجد من المناسب هنا أن أذكر بالغزو البربري المغولي على بلادنا، فقد كتب ألكسندر بوشكين عن ذلك: «لم يجرؤ الغزاة المغول على ترك الروس في خطوطهم الخلفية، ومتابعة سيرهم نحو أوروبا، وعادوا مندحرين إلى سهوب شرقهم, وتمكنت روسيا المنهارة أن تحمي العالم المسيحي من الغرب».
من الواضح أنه في هذه المرحلة التاريخية بالذات تمكنت روسيا من بلورة دورها المستقل في الفضاء الأوراسي. وواضح تماماً أن هذه المرحلة في تطور الدولة الروسية لعبت دوراً هاماً في بلورة وتثبيت الاستقلالية والسيادة.
دعونا نتذكر في هذا السياق سياسة الأمير الروسي، ألكسندر نيفسكي, حيث آثر التبعية المؤقتة لحكام «القبيلة الذهبية» (المغول)، ودفع الأتاوات لهم للحفاظ على هوية الشعب وقيمه الروحية, رافضاً الخضوع لجميع المحاولات الأوروبية لإلحاق روسيا بالغرب وحرمانها من هويتها القومية. أعتقد جازماً ان بذور هذه السياسة الحكيمة وبعيدة النظر ما زالت تعيش في جيناتنا الوراثية.
انحنت روسيا تحت وطأة نير المغول الذي دام 400 عام، لكنها لم تركع، وتمكنت في النهاية من إنهاء النير المغولي، والخروج من هذه المحنة كدولة موحدة متماسكة نالت اعتراف الآخرين في الشرق كما في الغرب، بصفتها وريثة الامبراطورية البيزنطية التي انهارت عام 1453.
الدولة المترامية الأطراف بحدودها المثيرة للدهشة تمتد على كامل الشرق الأوروبي، ولا سيما بعد ضم جبال الأورال وسيبيريا الشاسعة, ومنذ ذلك الحين، لعبت الدولة الروسية دوراً بارزاً في الحفاظ على التوازن في الحياة السياسية الأوروبية، ومن ضمنها حرب الثلاثين عام الأوروبية التي انتهت بالتوقيع على وثيقة وستفاليا، والتي كان من أهم مبادئها احترام سيادة الدول الذي يحافظ على أهميته حتى يومنا هذا.
هذا يقودنا إلى المعضلة التاريخية التي نشعر بها على مدى قرون، فمن جهة، نمت بشكل طبيعي الدولة الموسكوفية ودورها في الحياة السياسية الأورويبة، ومن جهة أخرى، نما التوجس الأوروبي من ظهور هذا العملاق في الشرق، ما دفع الأوروبيين إلى اتخاذ كافة الخطوات الممكنة لعزل روسيا وإبعادها بما أمكن عن لعب دور في الحياة السياسية للقارة الأوروبية. فمنذ ذلك الزمن، برز هذا التناقض الظاهري بين النظام الاجتماعي التقليدي والرغبة في السعي لتحقيق التحديث بالاعتماد على استخدام الخبرة والتكنولوجيا الأكثر تقدماً, ففي الحقيقة، تمكنت العديد من البلدان النامية من تحقيق قفزات نوعية في سير تطورها، بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة دون المساس بـ«الكود الثقافي», وهناك العديد من الأمثلة للمجتمعات الشرقية التي سارت في طريق التحديث، دون أن يرافق ذلك إلغاء التقاليد وثقافة العيش، وهي تجربة خصبة لروسيا خصوصاً أن الحضارة الروسية فرع من فروع الحضارة الأوروبية.
التوجه الروسي نحو الاستفادة من الإنجازات الأوروبية في التكنولوجيا في عملية التحديث ليست جديدة، فقد برزت في عهد القيصر أليكسي ميخايلفج وبطرس الأول, الذي تميز بطاقاته الجبارة في إحداث التغيير في المجتمع الروسي. فخلال أقل من عشرين عاماً تمكن من نقل روسيا إلى مصاف الدول الأوروبية المتطورة. ومنذ ذلك الحين، لم يعد بالإمكان حل أية قضية في أوروبا دون مساهمة الدولة الروسية.
لا نستطيع القول أن الوضع الجديد للدور الروسي الفاعل في الحياة الأوروبية أزعج الكثير لذلك استمرت المحاولات على مدى قرون لإعادة روسيا إلى مرحلة ما قبل بطرس الأول، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وباءت جميع تلك المحاولات بالفشل، وتمكنت روسيا في أواسط القرن الثامن عشر من لعب الدور المحوري في حرب «السنوات السبع» الأوروبية، ودخلت الجيوش الروسية المنتصرة برلين عاصمة بروسيا الدولة الأقوى نفوذاً حينئذ في أوروبا. لكن الموت المفاجئ للقيصر إليزابيت، وانتقال التاج القيصري لبطرس الثالث، الذي كان يربطه علاقات صداقة حميمية مع ملك بروسيا, أنقذ الدولة البروسية من السقوط الحتمي تحت ضربات الجيش الروسي، ولا يزال يشار إلى هذا التحول في تاريخ ألمانيا بـ«معجزة منزل براند نبورغ». تعزز النفوذ
الروسي، واتسعت أبعاده، وخصوصاً في عهد حكم كاترين العظمى, حتى ساد القول بأنه «لم يتجرأ أحد على إطلاق طلقة في أوروبا دون موافقة موسكو».
أود أن أذكر هنا رأي الباحث في التاريخ الروسي، والسكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية، هينلين كاريير وانكوس: بكل المعايير ومقاييس حجم الإمبراطورية- القدرة على السيطرة والإدارة, الصلابة واستمرارية الوجود- تعد الإمبراطورية الروسية من أعظم الإمبراطوريات في كل العصور. ويضيف الأكاديني نيكولاي بردياييف: إن التاريخ أوكل إلى روسيا المهمة العظمى في أن تكون الجسر الرابط بين الشرق والغرب.
على مدى قرنين ونيف، باءت جميع المحاولات لتوحيد أوروبا بمعزل عن روسيا أو ضدها, بالفشل وبمآس رهيبة، ولم يكن بالإمكان التغلب على آثار هذه المآسي، دون المشاركة الحاسمة لبلادنا. وأشير هنا على الخصوص إلى حروب نابليون التي أظهرت في نهايتها الدور البارز الذي لعبته روسيا في الحفاظ على منظومة العلاقات الدولية القائمة على أساس توازن القوى، والاحترام المتبادل للمصالح الوطنية لمختلف الدول، ذلك بعدم السماح لأية قوة أوروبية بالانفراد في فرض سيطرتها على القارة, وعبر عن هذه الفكرة القيصر الروسي، ألكسندر الأول في مؤتمر فيينا عام 1815 قائلاً: لا يمكن أن تسود في أوروبا سياسة إنكليزية أو فرنسية أو نمساوية أو روسية، بل يجب أن تسود سياسة التوافق لخدمة الصالح الأوروبي العام.
ولكن لم تدم طويلاً منظومة العلاقات الدولية التي بلورها مؤتمر فيينا، فتزعمت باريس في عهد الإمبراطور نابليون الثالث بتشكيل حلف ضد روسيا، فكانت النتيجة أننا خسرنا مؤقتاً في حرب القرم مع العثمانيين، وانتهى حكم نابليون الثالث بعد أسره من قبل الألمان، واستمرت أجواء الحرب الفرنسية الألمانية لعشرات السنين, وفي العموم، يمكنني القول أن الخلل في منظومة العلاقات الأوروبية أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، هذه الحرب التي أدت إلى زهق أرواح ومعاناة ملايين من الناس الأبرياء، وإلى انهيار أربعة إمبراطوريات عالمية.
في هذا السياق، لا بد لي ان أذكَر بذكرى اليوبيل المئوي للثورة الروسية 1917 في العام القادم, فنقف اليوم أمام مهمة حادة ومعقدة، تتمثل في وضع تقييم متوازن وموضوعي لهذا الحدث التاريخي، ولا سيما أننا نعيش اليوم أجواء تسود في الغرب، خاصة لاستثمار هذا الحدث التاريخي في حرب إعلامية جديدة ضد بلادنا، بمحاولتهم تصوير ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 كحدث همجي بربري في التاريخ الأوروبي، والأسوأ من ذلك كله المحاولات الخسيسة لوضع النظام السوفيتي على قدم المساواة مع النازية والفاشية الألمانية، وتحميله مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الثانية.
دون أدنى شك، تلا ثورة أكتوبر الحرب الأهلية التي كانت مأساة لشعبنا، لكن علينا أن نعترف بأن المآسي رافقت جميع الثورات في التاريخ, وعلى سبيل المثال، لا يتوقف أصدقاؤنا الفرنسيون عن تمجيد الثورة الفرنسية التي دعت إلى الحرية والمساواة والإخاء من خلال نهر من الدماء والمقاصل.
فلا يمكن التنكر لأهمية الثورة الروسية، باعتبارها منعطفاً في التاريخ المعاصر، من حيث التأثير في التاريخ العالمي, تأثير متعدد الأوجه ومثير للجدل, كانت الثورة تجربة حية وعملية لتطبيق الأفكار الاشتراكية التي كانت منتشرة على نطاق واسع في أوروبا، واستندت إلى دعم الأكثرية الساحقة من الشعب الروسي.
فلا يقدم أي باحث جدَي, على إنكار الدور الكبير للاتحاد السوفيتي في بناء ما سمي بـ«دولة الرفاه» في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية, فقد أقدمت الحكومات الأوروبية على اتخاذ تدابير غير مسبوقة في مجال الحماية الاجتماعية للناس، وذلك محاولة منها لامتصاص غضب شعوبها، وسحب البساط من تحت أقدام قوى اليسار الأوروبي.
يمكنني القول بأن أوروبا عاشت أربعين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية فترة ذهبية، تمكنت فيها من تحقيق تطورها الاقتصادي الاجتماعي مستفيدة من المظلة التي أمنتها لها ظروف الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وتميز التطور الرأسمالي في بلدان أوروبا الغربية في هذه المرحلة بتطعيم الرأسمالية ببعض الأفكار والتدابير الاشتراكية في سياساتها الاقتصادية الاجتماعية.
أما الآن، وعلى مدى عقدين من الزمن، نشهد عملية عكسية لما جرى في أوروبا والولايات المتحدة، فنجد زوال الطبقة المتوسطة في المجتمعات الغربية، وزيادة عدم المساواة الاجتماعية، وتفكك وانهيار منظومة المراقبة والضوابط على رأس المال والشركات الكبرى والبنوك المتحكمة بمصائر الناس.
لعب الاتحاد السوفيتي دوراً مهماً وريادياً في تفكيك في منظومة الاستعمار القديم، وساهم في تثبيت مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحقيق التطور المستقل للدول في منظومة العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.
لكنني لن أسهب في الحديث عن كيفية وظروف انزلاق أوروبا إلى الحرب العالمية الثانية، فمن الواضح أن السياسات المعادية للنخب الأوروبية تجاه الاتحاد السوفيتي لعبت دوراً محورياً في تحريض وتوجيه آلة الحرب الهتلرية ضد بلادنا، ومرة أخرى، لم يكن بالإمكان تصحيح الوضع بعد هذه الكارثة الرهيبة دون مشاركتنا في تحديد وضبط المعايير في الحياة السياسية الأوروبية حين ذاك والعالمية اليوم من جديد. ففي هذا السياق، إن الحديث عن الصراع بين «نظاميين شموليين»، ومحاولة غرس مثل هذه المفاهيم في الوعي الاجتماعي الأوروبي، بما في ذلك على مستوى الكتب المدرسية، لا تستند إلى أساس موضوعي، بل هي محاولات غير أخلاقية.
نظامنا السوفيتي، رغم كل النواقص والتناقضات فيه، لم يضع البتة يوماً نصب عينه تدمير شعوب بأكملها. ولنتذكر وينستون تشرتشل، الذي كان طوال سنوات عمره مناهضاً مبدئياً للاتحاد السوفيتي، والذي لعب الدور البارز في تحويل نهج التعاون بين الاتحاد السوفيتي والغرب في سنوات الحرب العالمية الثانية إلى نهج العداء المواجهة مع بلادنا، ومع ذلك، اعترف وبكل صراحة: «المبدأ الأخلاقي– العيش وفق الضمير – يعني العيش على النمط الروسي».
بالمناسبة، من الإنصاف أن نقييم وضع البلدان الأوروبية التي كانت أعضاء في حلف وارسو، فقد أصبحت اليوم أعضاء في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي, ومن الواضح تماماً بأنه لا يمكن النظر إلى هذه المسالة كونهم انتقلوا من التبعية إلى الحرية، كما يحلو هذا للعديد من الأيديولوجيين الغربيين قوله، بل يمكن الحديث عن تغيير القادة، فالعديد من قيادات هذه الدول يعترفون وراء الأبواب المغلقة بأنهم لا يستطيعون اتخاذ أي قرار مهم، دون تلقي الإشارة من واشنطن أو بروكسل.
يبدو لي ونحن على أعتاب اليوبيل المئوي لذكرى الثورة الروسية- ثورة اكتوبر 1917 أنه من المهم جداً أن ندرك، وبعمق، الاستمرارية في التاريخ الروسي، وعدم إمكانية شطب أو التعتيم على بعض صفحاته، وأن نفهم أهمية الاعتماد على تلك التقاليد الإيجابية التي تبلورت وتكرست عبر مسيرتنا التاريخية الطويلة كأساس وقاعدة صلبة لدولتنا، باعتبارها واحدة من المراكز الرائدة في العالم الحديث، وفي تثبيت القيم الإيجابية في الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلم العالمي.
تكرس النظام العالمي على أساس المواجهة بين المعسكرين، عقب إنهاء الحرب العالمية الثانية, وبطبيعة الحال، كان بعيداً عن المثالية، لكنه تمكن من الحفاظ على أسس السلام الدولي، وتفادى الأسوء- أقصد إغراء اللجوء إلى الاستخدام المكثف لأسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمتها الأسلحة النووية.
إن أسطورة انتصار الغرب في الحرب الباردة، وتجذرها في الوعي الغربي، لا تمت إلى الحقيقة بصلة, فانهيار الاتحاد السوفيتي كان نتيجة لتطلع شعوب بلادنا نحو التغيير، ورافق ذلك لسوء الحظ ظروف سلبية وأخذ الانهيار ذاك المنحى الدراماتيكي المعروف.
التعددية كبديل للرتابة المملة
أدى الانهيار هذا, دون مبالغة, إلى تحولات تكتونية في المشهد الدولي، وإلى تغيرات جذرية على الساحة السياسية العالمية. الخروج من الحرب البادرة والمواجهة الايديولوجية المرافقة لها هيأت فرصة تاريخية فريدة لإعادة هيكلة وتنظيم القارة الأوروبية استناداً إلى مبادئ الأمن للجميع، وعلى قدم المساواة دون اجتزاء, وتعزيز التعاون بين مكوناته بلا خطوط تقسيم.
كانت هناك فرصة حقيقية للتغلب على تقسيم أوروبا، وتحقيق حلم البيت الأوروبي المشترك، وكانت بلادنا مستعدة لهكذا خيار، و تقدمنا بالعديد من المقترحات والمبادرات في هذا الصدد، فكان من المنطقي تماماً خلق قواعد جديدة للأمن الأوروبي، من خلال تعزيز العنصر العسكري والسياسي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا, لكن، وللأسف، اختار شركاؤنا الأوروبيون اتجاهاً آخراً: اختاروا توسيع حدود حلف شمال الأطلسي إلى الشرق، والاقتراب أكثر من حدود بلادنا، وهنا بالذات، يكمن جوهر المشكلة والسبب الرئيسي في طبيعة العلاقات السائدة اليوم بين روسيا من جهة، والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة من جهة أخرى. بلا شك إن قرار توسيع الحلف كان خطأ مأساوياً، وما يعمق جذور المشكلة في توجه الغرب هذا هو أنه لم يأخذ بعين الاعتبار مجمل التطورات في الحياة السياسية العالمية, فالعالم الحديث في سياق العولمة يتميز بترابط غير مسبوق بين الدول والمجتمعات، فمن المستحيل اليوم النظر إلى العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي كما كانت في فترة الحرب الباردة، حيث كنا في مركز السياسة العالمية. والأمر الآخر الذي لا يمكن إلا أن يؤخذ بعين الاعتبار، هو عمق العمليات والتطورات الجارية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
العلامة الفارقة في هذه المرحلة هي التغيير والتحولات السريعة في جميع مجالات الحياة الدولية، والتي تأخذ غالباً منحى غير متوقع للجميع، فعلى سبيل المثال, أطروحة العالم الأمريكي فوكوياما الأكثر شعبية في تسعينات القرن الماضي عن «نهاية التاريخ»، والتي لا تصمد اليوم أمام أي انتقاد، كانت تفترض بأن التطور السريع للعولمة سيؤدي إلى الانتصار النهائي لقيم ومبادئ الليبرالية الرأسمالية بشكل نهائي، وما على الآخرين إلا التكيف مع الواقع الجديد، و تنفيذ توجيهات ونصائح المعلمين والحكماء الغربيين.
في واقع الأمر، أدت الطبعة الثانية من العولمة (الموجة السابقة للعولمة كانت قبل الحرب العالمية الثانية) إلى توزيع القوى الاقتصادية العالمية، وبالتالي إلى توزيع النفوذ السياسي، وإلى ظهور مراكز قوى جديدة، خصوصاً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والمثال الأكثر سطوعاً- القفزة الحادة إلى الأمام في الصين الشعبية، وذلك بفضل نمو غير مسبوق تحقق خلال ثلاثة عقود، واحتلت المركز العالمي الثاني، بل وفقاً لحسابات القوى الشرائية، قفزت الصين إلى المركز الاقتصادي الأول.
مع هذه الخلفية، يمكن التأكيد واقعياً على تعددية نماذج النمو، والخروج من منظومة الإحداثيات الغربية التي تعتمد الطريق الليبرالي الرأسمالي الوحيد لتحقيق النمو الاقتصادي. ووفقاً ونتيجة لذلك، انحسر بشكل نسبي الدور الذي لعبه ما يسمى «الغرب التاريخي» على مدى قرون, الغرب الذي اعتاد على رؤية نفسه في دور الحكم الفصل في تقرير مصائر البشر. واحتدم الصراع والمنافسة في عملية تشكيل النظام العالمي الجديد في القرن الواحد و العشرين.
بدى الانتقال من الحرب الباردة إلى نظام عالمي جديد أكثر تعقيداً وإيلاماً مما بدا للكثيرين قبل 20 أو 25 عاماً مضت. وعلى هذه الخلفية، أجد أن أحد القضايا الأساسية في الشؤون الدولية، تكمن في ماهية الشكل الذي سيتخذه هذا التنافس الطبيعي بين القوى الرائدة في العالم، ونحن نشهد اليوم كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية، بالتعاون مع حلفائها الغربيين، تحاول جاهدة للحفاظ على المركز المهيمن في اتخاذ القرارـ أو على الطريقة الأمريكية ضمان «قيادتها العالمية»- في هذا السياق، تلجأ إلى مجموعة متنوعة من أساليب الضغط والعقوبات الاقتصادية، وحتى إلى استخدام القوة والتدخل المباشر، وإلى اللجوء للحروب الإعلامية واسعة النطاق، وإلى أساليب غير قانونية أو دستورية في قلب أنظمة الحكم من خلال تنفيذ «الثورات الملونة» في مختلف البلدان، والنتيجة ليست سوى الفوضى والدمار.
الحملة الاعلامية الغربية ضد روسيا في محاولة اتهامها بـ«التحريفية» بدعوى أن الروس يعملون على تدمير النظام العالمي القائم، متناسين أنه ليست روسيا من قامت بقصف يوغوسلافيا عام 1999 في انتهاك صريح لميثاق الأمم المتحدة ووثيقة هيلسنكي الختامية, وليست روسيا من تجاهلت القانون الدولي من خلال غزو العراق واحتلاله عام 2003، وخروجاً على قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة، أطاحت بنظام معمر القذافي في ليبيا عام 2011، والقائمة تطول..
الجدل الدائر حول «التحريفية» في روسيا لا تصمد أمام شيء من التمحيص، فهو يستند بالأساس إلى البساطة السلبية والمنطق البدائي الذي يفترض بأنه لا يمكن لأية قوة أخرى أن تحقق «التناغم» في الشؤون الدولية سوى واشنطن، ووفقاً لهذا المنطق اللامعقول، يتضح أنهم يستخدمون على مستوى العلاقات الدولية المبدأ الذي صاغه يوماً جورج أورييل «إن الجميع متساوون، لكن هناك البعض أكثر مساواة من الآخرين».
تتميز العلاقات الدولية اليوم بآلية معقدة جداً. ولا يمكن لأية جهة أن تسيطر عليها وتديرها من مركز واحد. وهذا ما تؤكده بجلاء نتائج تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا, ففي الواقع، لم يعد هناك وجود للدولة الليبية, والعراق على شفا الانهيار، والحرب مستمرة فيه منذ سنوات.. مرة أخرى القائمة تطول..
توحيد القوى لتحقيق النجاح
إن الحل الأمثل والأكثر نجاعاً لقضايا عالمنا المعاصر، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التعاون الجاد والصادق بين الدول الرائدة، من أجل مواجهة التحديات المشتركة، ولا بد أن يأخذ هذا التعاون بعين الاعتبار طيف الألوان المتعدد في عالمنا الحديث بتنوعه الحضاري والثقافي، وإن يعكس مصالح جميع المكونات الرئيسة في المجتمع الدولي. فقد ثبت وبالتجربة أنه عندما يتم تطبيق هذه المبادئ تتحقق نتائج ملموسة.
سأشير على وجه الخصوص إلى الاتفاق بشأن تسوية القضية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، والقضاء على الأسلحة الكيميائية في سورية، والموائمة بين وقف الأعمال العدائية في سورية, وهذا يدل بجلاء على الحاجة إلى استعادة ثقافة البحث والحوار، والاعتماد على العمل الدبلوماسي الذي يمكن أن يكون صعباً ومرهقاً، لكنه يبقى هو السبيل الوحيد لضمان حلول وسط مقبولة من أطراف الصراع بالوسائل السلمية.
هذا النهج الواقعي الذي تنتهجه بلادنا يشاطرنا به جميع شركائنا, الصين الشعبية، ودول البريكس الأخرى ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة رابطة الدول المستقلة, بعبارة أخرى، إن روسيا لا تحارب أحداً، وليست ضد أحد، لكنها تعمل جاهدة من أجل حل جميع القضايا المختلف عليها على أساس المساواة والاحترام المتبادل الذي يشكل أساساً صلباً لتحسين واستقرار العلاقات الدولية على المدى الطويل.
نحن في روسيا نعتقد جازمين بضرورة توحيد الجهود للتصدي للقضايا الحقيقية، وليست الوهمية والمختلقة، وفي مقدمة هذه القضايا الماثلة أمامنا جميعاً هي خطر التطرف الإرهاب المعولم والمتمثل اليوم بما تسمى داعش وجبهة النصرة وملحقاتها، والتي تمكنت من السيطرة على مناطق شاسعة من سورية والعراق، بل وتحاول مد نفوذها إلى بلدان أخرى، وترتكب الأعمال الإرهابية والإجرامية في العديد من بلدان العالم. إن التقليل من هذا الخطر لا يمكننا اعتباره إلا قصر نظر إجرامي.
دعا الرئيس بوتين إلى تشكيل جبهة عالمية عريضة لإلحاق الهزيمة العسكرية بالإرهابيين. وقواتنا الجوية ساهمت بشكل فعال في هذا الاتجاه. وبالوقت نفسه، نعمل بنشاط لتوحيد الجهود السياسية لمجموع القوى الفاعلة لايجاد تسوية للنزاع في هذه المنطقة التي تعاني من أزمة عميقة.
لكنني أوكد بأن النجاح على المدى الطويل، لا يمكن أن يتحقق إلا على أساس تعزيز الشراكة بين الحضارات والقائم على التفاعل والاحترام بين الثقافات والأديان المختلفة. ونعتقد أن التضامن والتعاون ينبغي أن يستند على الأسس الأخلاقية التي شكلت القيم التقليدية المشتركة بين الأديان الرئيسية في العالم.
أكرر، لا نبحث ولا نسعى إلى المواجهة، لا مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا مع الاتحاد الأوروبي، ولا مع الناتو، بل على العكس تماماً, روسيا منفتحة على التعاون على أوسع نطاق ممكن مع الشركاء الغربيين. وما زلنا نعتقد أن أفضل وسيلة لضمان مصالح الشعوب في القارة الأوروبية، يكمن في تشكيل فضاء اقتصادي وانساني مشترك، يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ, معتقدين أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يمكن أن يشكل جسر عبور ودمج بين أورويا وآسيا. ونبذل الجهود في هذا الاتجاه.
كما أنني أتفق تماماً مع السيد هنري كسينجر، صاحب الحكمة والخبرة السياسية الطويلة، متحدثاً في موسكو مؤخراً: «يجب النظر إلى روسيا باعتبارها عنصراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه في تحقيق التوازن العالمي، بدلاً من أن تكون تهديداً للولايات المتحدة في المقام الأول».. وتابع كيسنجر حديثه: «أقول هذا لإتاحة الفرصة للحوار، من أجل ضمان مستقبلنا المشترك, و ليس لتعميق الصراع». ونحن نتمسك بهذا النهج وسنستمر في الدفاع في الشؤون الدولية عن مبادئ القانون و العدالة.
أكد الفيلسوف الروسي، إيفان إيلين، في سياق حديثه عن دور روسيا كقوة عظمى في العالم: «إن عظمة الدولة لا تتحدد بعدد سكانها أو بالمساحات المترامية من أراضيها، بل بقدرة الشعب وحكومته على تحمل عبء المشاكل الدولية الكبرى، والتعامل معها بشكل خلاق. القوة العظمى هي التي تؤكد و تحمي كينونتها ومصالح مواطنيها، من خلال قوة الإبداع المتراكمة، والمبادئ الأخلاقية الجمعية والمشتركة بين الشعوب والأمم». ولا يمكنني إلا أن أتفق تماماً مع فيلسوفنا.
مجلة «روسيا في السياسة العالمية»
عدد آذار 2016