بنك أهداف كاراباخ: واشنطن تزرع التوتر في تربة «الحديقة السوداء»
جولة جديدة من التصعيد الجيوسياسي الجدي شهدها المحيط الحيوي الروسي. على الحدود الأذربيجانية- الأرمينية، وتحديداً في إقليم ناغوري كاراباخ (أي مرتفعات الحديقة السوداء- وهي الجمهورية غير المعترف بها دولياً)، بدأ الجيش الأذربيجاني ليلة السبت 2/4/2016، هجوماً عسكرياً عبر خط التماس ضد القوات المسلحة لأرمينيا وجمهورية كاراباخ.
دارت المعارك في أيامها الأولى باستخدام المدفعية، والطيران. وفي حين انشغلت الماكينة الإعلامية للدولتين بإلقاء اللوم على القيادة السياسية للدولة الأخرى، إلا أن طبيعة التحرك العسكري وتداعياته، تشير إلى عملية خطط لها مسبقاً، حيث هناك محاولة لتأجيج الصراع القديم بين أرمينيا وأذربيجان من جديد.
لمحة عن النزاع
تعتبر مرتفعات كاراباخ الجبلية منطقة صراع إقليمي قديم بين أرمينيا وأذربيجان. فبحكم الرسمة المعترف بها دولياً تعتبر هذه المنطقة جزءاً من أراضي أذربيجان، إلا أن وجود أغلبية أرمنية للسكان في كاراباخ، فتح الباب أمام صراع طويل بين أذربيجان وأرمينيا حول هوية هذه المنطقة.
مع ظهور بوادر تفكك الاتحاد السوفييتي، طالب الانفصاليون من سكان كاراباخ بالاستقلال عن أذربيجان والانضمام إلى أرمينيا، وكان ذلك سبباً لاندلاع حرب السنتين (1992- 1994) بين البلدين. ورغم الانتصار الجزئي لقوات أرمينيا في هذه الحرب، إلا أن مخرجاتها النهائية كانت قد تجلت في إعلان الانفصاليين قيام «جمهورية مرتفعات كاراباخ»، رافضين الانضمام إلى أرمينيا. ليغدو المشهد على الشكل التالي: كلاً من أذربيجان وأرمينيا تعتبران أن المنطقة جزءاً من أراضيهما، فيما يرى الانفصاليون الذين يسيطرون عليها أنها «جمهورية مستقلة»، لم يعترف بها أحد.
ورغم أن قبول الأطراف جميعها باتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه في مينسك خلال عام 1994، برعاية روسية أمريكية فرنسية، قد سمح بترسيخ الهدوء في المنطقة لأكثر من 20 عاماً، إلا أنه ومنذ بداية عام 2015، بدأت تتزايد الهجمات والاستفزازات على خطوط التماس، وصولاً إلى العملية التي أعلنها الجيش الأذربيجاني يوم 2/4/2016، بعد يوم واحد من اللقاء الذي جمع الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، بوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وبنائب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حيث اتفق الطرفان على التعاون المشترك، بما في ذلك في المجال العسكري، في وقت تتوطد فيه العلاقات الروسية الأرمينية بشكل ملحوظ.
قائمة أهداف أمريكية.. على أكثر من محور
المؤكد أن التوتير في منطقة القوقاز في هذا الوقت الذي يشهد تغيرات تجري في ميزان القوى الدولي لمصلحة القطب الروسي الصيني وحلفائه، يرمي إلى تهديد المحيط الحيوي الروسي، ومحاولة إشغال الخصم الروسي الذي تتقدم مساعيه نحو تثبيت الحلول السياسية في أكثر من منطقة في العالم. هنا، يبدو أن الهدف الأساس من المحاولة الأمريكية لتأجيج الوضع في جنوب القوقاز (الذي تحرص روسيا على ضمان السلام فيه)، محاولة لجر الطرف الروسي إلى «قواعد اللعبة»، من خلال التعويل على إمكانية قطع العلاقات بين روسيا وأذربيجان، بعد تدهورها مع تركيا، ما يحول دون دور روسي فاعل في محيطه الحيوي، وفي جنوب القوقاز تحديداً.
مع ذلك، لم تنجر روسيا (التي حافظت في السنوات الأخيرة على علاقات جيدة مع كل من أرمينيا وأذربيجان) إلى قواعد اللعبة الأمريكية، وهو ما انعكس في تأكيد وزير خارجيتها سيرغي لافروف، يوم الاثنين 4/4/2016، خلال مؤتمر صحفي جمعه مع نظيره المولدافي، أندريه غالبور، إن موسكو تأمل بأن تجد الدعوات لوقف إطلاق النار الصادرة عنه وعن وزير الدفاع الروسي والرئيس الروسي صدى في أذربيجان وأرمينيا، مشدداً على موقف روسيا بالتسوية السلمية للنزاع.
في الوقت ذاته، يبدو أن تركيا (التي دخلت في اللعبة إلى جانب الطرف الأذربيجاني) نفسها ليست خارج قائمة الأهداف الأمريكية من توتير الصراع العسكري في القوقاز. ففي حال تدحرج الأمور نحو حرب متواصلة قد تخرج عن الحدود الضيقة لمنطقة كاراباخ، ستضطر حكومة «العدالة والتنمية» إلى تقديم المساعدة لأذربيجان، وربما إلى التدخل مباشرة في الصراع في حال ارتفاع حدة الصراع في القوقاز.
من هنا، يبدو أن واشنطن تعول على عملية التوتير في كاراباخ كمحاولة جديدة لإشغال الخصم الروسي ووضع سقوف لحجم التنازلات التي ستضطر إلى تقديمها لروسيا حول الملفين السوري والأوكراني من جهة، والزج بحليفها التركي في عملية التوتير هذه، حتى ولو تحول ذلك إلى واحد من الأسباب الجديدة للمحرقة التي ينجر إليها الطرف التركي، من خلال التورطات التي يراكمها في عدد من ملفات المنطقة.
الرد التاريخي: وحدة شعوب الشرق العظيم
إلى جانب الأهداف التكتيكية الأمريكية من عملية التوتير بين أذربيجان وأرمينيا، تبرز الأهداف الاستراتيجية والتاريخية بعيدة المدى في محاولة خلق أعقد وضع جيوسياسي في هذه المنطقة بالتحديد، أي في المنطقة الممتدة من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، والتي من شأنها أن تخلق «تكتلاً بشرياً، سياسياً واقتصادياً، رئيسياً جديداً في العالم، يحل ضمناً القضايا، جملة وتفصيلاً، لمختلف الشعوب، بطريقة تخدم مصالحها هي، وليس المصالح الإمبريالية».
وإذا كان القطب الروسي الصيني الصاعد يتولى عملية بناء المتاريس في وجه التثمير التكتيكي والاستراتيجي الأمريكي لمحاولات التوتير في المنطقة الأوراسية عموماً، ويحافظ على سياسته في نزع صواعق التفجير وتجفيف بؤر التوتر التي يعمل «التيار الفاشي» في الإدارة الأمريكية على خلقها، ويحاول «التيار العقلاني» فيها الاستفادة إلى أقصى مدى ممكن منها، فإن الرد التاريخي على هذه الاستراتيجية الأمريكية يبقى مرهوناً بإنجاز عملية وحدة شعوب هذه المنطقة، بما يضمن حل النزاعات المختلفة «الدينية، الطائفية، القومية، العشائرية» التي غذتها الإمبرياليات القديمة، واستكملت الإمبريالية الأمريكية تغذيتها منذ النصف الثاني من القرن العشرين.