الاستثمار «من فوق» ودون رقابة شعبية لن يخلق نمواً حقيقياً

الاستثمار «من فوق» ودون رقابة شعبية لن يخلق نمواً حقيقياً

في التاسع من تموز 2025، أعلنت الرئاسة السورية عن ستة مراسيم جديدة دفعة واحدة، كان من بينها مرسوم يقضي بتعديل بعض مواد قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021، القانون الذي يشكّل الإطار التشريعي الأساسي للعملية الاستثمارية في البلاد. وقد حمل هذا التعديل الجديد أهمية استثنائية في السياق السوري الراهن بالنظر إلى أنه يأتي في مرحلة بالغة الحساسية من تاريخ البلاد، مرحلة يُفترض بها أن تشهد مراجعة جذرية وشاملة لسياسات السلطة السابقة، لا إعادة إنتاجها. وما يزيد من حساسية الموضوع هو أن سورية ما تزال تفتقر إلى مؤسسات تمثيلية شرعية قادرة على مساءلة السلطة التنفيذية أو مراجعة خياراتها، في ظل غياب مجلس شعب منتخب، واستمرار تمركز القرار في يد السلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن تعديل قانون الاستثمار لا يمكن النظر إليه كمسألة تقنية أو قانونية محضة، بل يجب قراءته بوصفه جزءاً من معركة أوسع حول مستقبل الاقتصاد السوري وطبيعته.

منذ اللحظة الأولى لإصدار المرسوم الجديد، بدأ الجدل حوله في أوساط المتخصصين والمتابعين للشأن السوري، سواء في الداخل أو الخارج. وتعددت الانتقادات التي طالت هذا المرسوم، فبعضها ركّز على الشكل، متسائلاً عن مدى قانونية إصدار مرسوم تشريعي بهذا الحجم في ظل غياب مجلس شعب منتخب، وهو ما يتعارض مع أبسط مبادئ الشرعية الدستورية ومع الإعلان الدستوري ذاته. فيما توجهت انتقادات أخرى إلى الجوهر، معتبرةً أن التعديلات المطروحة تخدم نخبة محدودة من المستثمرين، ولا تنسجم مع الحاجات الفعلية لإعادة إعمار البلاد على أسس عادلة ومنصفة.

في واقع الحال، يصعب حصر الإشكاليات التي يطرحها هذا المرسوم كلها في مقال واحد، إذ تشمل هذه الإشكاليات قضايا الإدارة والرقابة والمساءلة وملف الضرائب والإعفاءات وقضية ملكية الدولة وأراضيها ومكانة العمل السوري في العملية الاستثمارية وحقوق العمال وتوزيع الثروة الناتجة عن الاستثمار. لذلك، ربما يكون من المفيد أن نسلط الضوء على بعض الجوانب الأشد حساسية.

الاستثمار بعيداً عن أي رقابة للشعب السوري

يرسخ المرسوم الجديد قبضة السلطة التنفيذية عملياً على مفاصل القرار الاستثماري في سورية. فبموجب التعديل، أُنشئ «المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية» كجهة عليا ترسم السياسات الاستثمارية وترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، حيث يتولى الرئيس نفسه رئاسة هذا المجلس، الذي يضم في عضويته عدداً من الوزراء إلى جانب خبراء اقتصاديين. وعلى هذا النحو، أُعيد تنظيم «هيئة الاستثمار السورية» لتصبح هيئة عامة تتمتع بالاستقلال المالي والإداري ولكن مرتبطة أيضاً برئاسة الجمهورية، مع منحها صلاحيات واسعة.

تُقصي هذه الهيكلية الجديدة فعلياً أي دور رقابي شعبي في رسم السياسة الاستثمارية. فخلوّ البلاد من مجلس شعب منتخب يعني غياب السلطة التشريعية القادرة على مراقبة أو مساءلة هذه الكيانات الاقتصادية. وبالتالي، تتركّز الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية دون وجود ضوابط برلمانية أو مشاركة للمجتمع. ومن الطبيعي والحال كهذه أن هذه المركزية الشديدة قد تفتح الباب واسعاً أمام الفساد والمحسوبية، خاصة في ظل غياب آليات المحاسبة الحقيقية.

إلى جانب ذلك، يمنح أحد المراسيم الستة الصادرة في حزمة 9 تموز، وهو مرسوم إحداث «الصندوق السيادي»، رئاسة الجمهورية صلاحيات غير مسبوقة في التصرف بأصول القطاع العام واستثماراته بمعزل عن السلطات الأخرى. فقد أُحدث هذا الصندوق كمؤسسة اقتصادية مستقلة ترتبط مباشرة بالرئاسة، ويهدف ظاهرياً إلى إدارة الموارد واستثمارها لتحفيز التنمية، لكن عملياً، يتيح المرسوم لرئاسة الجمهورية تحويل الأصول الحكومية غير المستغلة إلى أدوات استثمارية دون الرجوع إلى أيّ جهة منتخبة، وبالتوازي، فإن هيكلية الصندوق تُعفيه من أي رقابة خارجية: فهو لا يخضع لمساءلة البرلمان (غير الموجود أساساً) ولا لأجهزة رقابة مستقلة، وتقتصر واجباته الرقابية على تقديم تقارير دورية إلى رئاسة الجمهورية فقط، مما يسمح للرئاسة بالتصرف بممتلكات القطاع العام واستثمارها بمعزل عن الوزارات أو السلطة التشريعية.

وهنا لا بد من الذكر أنه حتى الإعلان الدستوري السوري الذي من المفترض أن ينظم عمل المرحلة الانتقالية، يفرض فصلاً بين السلطات، فهو يمنح الرئيس حق اقتراح القوانين وإصدار القوانين التي يقرّها مجلس الشعب حصراً، ولم يمنح لرئاسة الجمهورية سلطة إصدار المراسيم التشريعية.

إعفاءات وتنازلات كبيرة... على المدى الطويل

على الصعيد الاقتصادي المباشر، يتضمن تعديل قانون الاستثمار حزمة واسعة من الإعفاءات والحوافز الضريبية التي أثارت بدورها الكثير من الجدل. أولى الملاحظات في هذا السياق هي منح إعفاءات ضريبية دائمة وشبه شاملة لفئات متعددة من المشاريع الاستثمارية. فبحسب المرسوم الجديد تُعفى مشاريع الإنتاج الزراعي والحيواني من ضريبة الدخل بنسبة 100% بشكل دائم، أي إعفاء كامل ومستمر من ضريبة الأرباح على تلك المشاريع. كما تُمنح إعفاءات بنسبة 80% من ضريبة الدخل بشكل دائم للمشاريع المقامة في المناطق التي تُحدد كـ«مناطق تنموية مستهدفة» وللقطاعات ذات الأولوية التنموية، وكذلك إعفاء 80% للمشاريع المقامة خارج المناطق التنموية إذا حققت شروطاً معينة (مثل المشاريع الصناعية التي تصدّر أكثر من 50% من إنتاجها، ومشاريع الصناعات الطبية والدوائية المتنوعة، وغيرها). وبالإضافة إلى ذلك، نصّت التعديلات على إعفاء كامل لمستورَدات الآلات وخطوط الإنتاج والتجهيزات الطبية من الرسوم الجمركية، وغير ذلك من التسهيلات.

للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الإعفاءات «السخية» إجراءً إيجابياً لتحفيز الإنتاج وجذب رؤوس الأموال، خاصة في قطاعات كالزراعة والصناعة التي يحتاجها الاقتصاد الوطني للنهوض. غير أن نظرة معمقة تكشف أننا أمام إعفاءات كبرى تؤدي إلى تبديد أحد أهم مصادر إيرادات الدولة وحرمان الخزينة العامة من موارد هي بأمسّ الحاجة إليها في مثل هذه الظروف، ولا سيما أن الاقتصاد السوري المدمّر والبنية التحتية المتهالكة تحتاج إلى كل قرش من عائدات الضرائب لإعادة الإعمار وتحسين الخدمات العامة.

1234_h_2

منح إعفاءات مؤقتة قد يكون مفهوماً لتشجيع الاستثمار في المراحل التأسيسية للمشاريع أو لتحفيز الاستثمار المحلي، أما أن تكون الإعفاءات بهذه الشمولية والديمومة، وتشمل المستثمرين كافة سواء كانوا سوريين أم أجانب، فهو أمر غير مسبوق ويستحيل تبريره اقتصادياً. فالدولة هنا تتنازل طوعاً عن أحد أهم حقوقها وتضع نفسها (عملياً وفي نهاية المطاف) في موضع المموّل غير المباشر لأرباح القطاع الخاص، دون ضمانات مقابلة بأن يعود ذلك بالنفع على الاقتصاد الكلي.

على سبيل المثال، الإعفاء الضريبي للقطاع الزراعي قد يكون مفهوماً كإجراء لدعم الفلاحين وتشجيع الإنتاج الزراعي بعد سنوات الحرب والجفاف. لكن يُفترض بمثل هذا الإجراء أن يكون مؤقتاً لفترة محدودة حتى يستعيد القطاع عافيته، لا أن يصبح وضعاً دائماً. ثم إن هذا الدعم السخي لا يُفرّق بين المستثمرين المحليين الذين قد يعيدون إنفاق أرباحهم داخل البلد، وبين المستثمرين الأجانب الذين سيحوّلون غالباً معظم أرباحهم إن لم يكن كلها إلى الخارج. وينطبق المنطق ذاته على الإعفاءات الواسعة في القطاع الصناعي، إذ قد يكون من المجدي منح خفض ضريبي كبير لمشاريع صناعية رائدة أو مُوجّهة للتصدير بغية تعزيز تنافسيتها، ولكن جعل هذا الخفض بنسبة 80% دائماً لجميع المشاريع المستوفية للشروط هو منح امتيازات شبه مجانية للمستثمرين على حساب السوريين.

فوق ذلك، سمح المرسوم لـ«المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية» بتخصيص أراضٍ من أملاك الدولة لصالح المستثمرين وفق ما وُصف بأنه «أسس اقتصادية عادلة». في ظاهر الأمر، يهدف هذا البند إلى تسهيل حصول المشاريع الاستثمارية على الأراضي اللازمة لإقامتها، خاصة في المناطق التي تحتاج لتنمية. لكن بغياب أي رقابة شعبية فعلية على آليات التخصيص، يثار التساؤل حول إمكانية إساءة استخدام هذه الصلاحية وأن تؤدي هذه الأحكام الفضفاضة إلى نهب غير مباشر للأراضي والأملاك العامة بذريعة الاستثمار، وليس هناك ما يضمن أن «الأسس الاقتصادية العادلة» الموعودة ستكون حقاً عادلة وشفافة طالما أن الجهة التي تقرر في التخصيص هي نفسها الخاضعة لرئاسة الجمهورية​.

دون حل القضايا الأساسية: قوانين الاستثمار لن تجذب المستثمرين

من خلال الصياغة والمنطق العام الذي يحكم تعديلات قانون الاستثمار، يبدو جلياً أن الكفة تميل بشكل مجحف لصالح المستثمرين على حساب المصلحة العامة. فقد مُنح المستثمرون سلسلة تنازلات وضمانات واسعة النطاق قلّ نظيرها، في مقابل تجاهل شبه تام لحقوق العمال والمجتمع المحلي ومتطلبات التنمية المستدامة. على سبيل المثال، ينص القانون المعدَّل على تحصين المشاريع الحاصلة على إجازة استثمار من أي قوانين أو قرارات جديدة قد تصدر مستقبلاً وتحمّلها أعباء إضافية. لكن من الجانب الآخر، يعني ذلك تقييد يد الدولة في تعديل سياساتها المالية والتنموية لاحقاً لمواجهة ظروف طارئة أو تصحيح اختلالات، طالما قد تؤثر على مشروعات قائمة. بعبارة أخرى، يتمتع المستثمرون هنا بحصانة شبه مطلقة ضد أي تغيير تشريعي أو تنظيمي مستقبلي قد يضرّ بمصالحهم، حتى لو اقتضت المصلحة العامة مثل هذا التغيير.

في المقابل، يفتقر القانون المعدَّل إلى أي ضمانات موازية راسخة لمصلحة اليد العاملة المحلية أو الاقتصاد الوطني على المدى البعيد. فعلى سبيل المثال، لا يلزم المستثمرين بنسبة تشغيل محلية حقيقية وفعالة. صحيح أن إحدى مواد المرسوم اشترطت على المستثمر تشغيل ما لا يقل عن 60% من العمالة السورية في المشروع، لكن هذا الشرط جاء مشفوعاً بمرونة عالية «في حال تعذر تحقيق هذه النسبة»، ما يفرغه عملياً من أي قوة إلزامية. إذ يستطيع أي مستثمر الادعاء بصعوبة إيجاد كوادر محلية مختصة، والحصول على استثناء بدعوى «تعذر» تحقيق النسبة.

كذلك لا يوجد في القانون أي أفضلية للكوادر السورية في المناصب الإدارية أو الفنية العليا ضمن المشاريع، فالمستثمر حر في استقدام من يشاء من العمالة الأجنبية دون قيود تُذكر (بل على العكس، سهّلت التعديلات تحويل رواتب العمال والخبراء والفنيين الأجانب كاملةً إلى الخارج لتحفيز استقدامهم). وبالنظر إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب السوري واستنزاف العقول خلال سنوات الحرب، كان الأولى فرض التزامات أقوى على المستثمر بتوظيف وتدريب الكفاءات الوطنية، لضمان نقل المعرفة وبناء القدرات المحلية، وهو ما لم يحدث في هذه التعديلات. أما فيما يتعلق بحقوق العاملين السوريين وأجورهم وظروف عملهم، فالقانون بصيغته الجديدة يكاد يكون صامتاً تماماً.

وكذلك، لم يلزم القانون المعدَّل المستثمرين بإعادة استثمار جزء من أرباحهم داخل سورية أو المساهمة في التنمية المحلية. فالمستثمر يتمتع بحرية تحويل الأرباح السنوية والفوائد ورأس المال إلى الخارج بالعملة الصعبة متى شاء، بعد الوفاء بالالتزامات الضريبية المترتبة. صحيح أن تحويل الأرباح مشروط في الظاهر بتسديد الضرائب والالتزامات المالية وبالتقيد بتعليمات مصرف سوريا المركزي، لكن عملياً ما إن يدفع المستثمر الضرائب المخفَّضة أصلاً حتى يصبح حراً في تحويل أرباحه خارج البلد. وقد رأينا في تجارب دول أخرى أن غياب مثل هذه الضوابط يؤدي إلى نزيف مستمر للعملة الصعبة وإلى أن تتحول البلاد إلى مجرد حاضنة مؤقتة لرؤوس الأموال التي تبحث عن أرباح سريعة دون أن تترك أثراً تنموياً مستداماً.

في المحصّلة، ترسم هذه السياسة الاستثمارية صورة لاقتصاد مفتوح على مصراعيه أمام المستثمرين، لكنه مفتوح على حساب المصلحة الوطنية وتنمية الاقتصاد المحلي. فالدولة السورية، عبر هذه التسهيلات المطلقة، تراهن على أن جذب الاستثمار سيتم تلقائياً بمجرد توفير بيئة تشريعية شديدة الجاذبية للمستثمر. بيد أن هذه المعادلة تتجاهل حقيقة أساسية: لن تتحول دولة خارجة من حرب إلى بيئة جاذبة للاستثمار بمجرد سنّ قوانين متساهلة. إذ أن رأس المال يبحث عن استقرار طويل الأمد ومناخ سياسي وأمني آمن قبل بحثه عن الإعفاءات الضريبية والحوافز. وفي الحالة السورية، ثمة ملفات جوهرية لا تزال عالقة ولم تُحل حتى الآن، وأي تدفق استثماري جادّ سيظل رهن حلها أولاً. من هذه الملفات استعادة الأمن والاستقرار الداخلي بشكل كامل، واستعادة وحدة سورية وإعادة توحيد السوق الوطنية التي تمزّقت خلال الحرب. فلا يزال الاقتصاد السوري عملياً مجزّأً بين مناطق نفوذ مختلفة، والبنى التحتية الأساسية بحاجة إلى إعادة تأهيل شاملة لضمان الترابط بين مختلف المحافظات.

يعيدنا هذا كله إلى نقطة البداية: بإمكان أي دولة أن تصوغ أكثر قوانين الاستثمار جاذبية للمستثمرين، لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هذا وحده كفيل بجعل تلك الدولة بيئة جاذبة حقاً للاستثمار؟ التجربة التاريخية تجيب بالنفي القاطع. نعم، قد تجتذب الإعفاءات والعروض السخية بعض رؤوس الأموال الباحثة عن مكاسب سريعة، لكنها لن تكفي لاستقطاب استثمارات تنموية حقيقية ومستدامة في غياب مقومات أساسية، كوحدة البلاد والاستقرار الاجتماعي والوضوح السياسي بشأن مستقبل البلاد. وهذا كله لا يستطيع أي قرار اقتصادي أن يؤمنه، بل لا يؤمنه سوى قرار سياسي يعيد بناء دولة قائمة على توحيد كلمة السوريين باختلاف انتماءاتهم. دون ذلك، ستبقى كل قوانين الاستثمار أسيرة الورق وعاجزة عن جذب المستثمرين، فيما يبقى الشعب بانتظار عوائد لا تأتي، وعدالة اجتماعية لا تتحقق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1234