سورية الجديدة و«المواطن العادي»: من التهميش إلى التهميش

سورية الجديدة و«المواطن العادي»: من التهميش إلى التهميش

يوم الخميس الماضي، 7 آب 2025، ألقى وزير الاقتصاد والصناعة السوري، محمد نضال الشعار، تصريحات صحفية على هامش لقائه بالجالية السورية في مدينة اسطنبول التركية، وذلك خلال زيارة عمل قام بها على رأس وفد اقتصادي موسع. لم تكن هذه التصريحات خارجة عن سياق المألوف، بل عكست أفكاراً مكررة ومتداولة على ألسنة مسؤولي السلطة الحالية بمختلف مستوياتهم وفي مناسبات عدة، بشكلٍ يوحي أنها تمثل الرؤية الرسمية للسياسة الاقتصادية في البلاد. وقد انصبت التصريحات على ثلاث نقاط رئيسية تستحق التحليل والبحث.

النقطة الأولى التي أشار إليها الوزير هي أن الاقتصاد السوري الحالي «لا يمكن تسميته بالاقتصاد الاشتراكي أو الرأسمالي»، مؤكداً أن التوجه القائم هو نحو اقتصاد سوق مفتوح وحر ومتوازن، مع نفي أي نية للخصخصة. والنقطة الثانية كانت تأكيد الوزير أن السلطة الحالية استلمت سورية «على الأرض حرفياً» أي مدمرة بالكامل، وأن الخيارات أمامها كانت محدودة جداً في ظل نقص الموارد والإمكانات. أما النقطة الثالثة، والأكثر أهمية بالنسبة للمواطنين، كانت تأكيد الوزير على أن الحكومة تركز على «المواطن العادي»، وأنه هو الهدف الأساسي في «خطة النهوض الجديدة». 

في هذا المقال، سنقوم بتفنيد هذه الأفكار الثلاث وتحليلها بعمق، محاولين الكشف عن حقيقة الوضع الاقتصادي في سورية وتأثيره على مستقبل البلاد.

اقتصاد السوق المشوه: هل هو الحل؟

syria2-scaled

الحديث عن هوية الاقتصاد السوري يتجاوز التسميات النظرية، سواء كانت اشتراكية أم رأسمالية. فالسؤال الجوهري الذي يحدد هذه الهوية ليس أين يتم إنتاج الثروة، بل كيف يتم توزيعها بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وإذا ما نظرنا إلى نمط توزيع الثروة في سورية، سنجد أنه في أحسن الحالات، يذهب 90% منها إلى أصحاب الربح، بينما يحصل أصحاب الأجور على 10% فقط. وعندما نضيف إلى هذه المعادلة التخلف والتشوه في شكل علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة، فإننا نصل إلى نتيجة بسيطة وواضحة: ما يسود بلادنا اقتصادياً هو اقتصاد السوق المشوه، وهو جزء من الاقتصاد الرأسمالي.

حديث الحكومة اليوم عن التوجه نحو «اقتصاد السوق الحر» ليس بجديد، بل هو استمرار لمسار بدأته السلطة السابقة منذ عقود. فمنذ سنوات طويلة، تبنت سلطة الأسد سياسات تحرير التجارة الخارجية وتقليص القيود على حركة رؤوس الأموال. وتم ترويج هذه السياسات للسوريين على أنها ستجذب الاستثمارات الأجنبية وتساهم في رفع مستوى معيشتهم، لكن النتائج كانت كارثية على القطاعات الإنتاجية الوطنية.

يتذكر السوريون جيداً كيف شهدت البلاد في ظل هذه السياسات فتحاً واسعاً لأسواقها أمام السلع المستوردة، مع تقليص الرسوم الجمركية بشكل كبير. وقد أدى هذا الانفتاح إلى إغراق السوق المحلية بمنتجات أجنبية، كانت في معظم الأحيان أرخص من مثيلاتها السورية. لكن هذا الفرق في الأسعار لم يكن ناتجاً عن كفاءة أو جودة أعلى، بل كان نتيجة للدعم الحكومي الذي كانت تتلقاه هذه المنتجات من دولها المصدرة. في المقابل، كانت السياسات السورية تقلص الدعم للإنتاج المحلي، مما خلق منافسة غير متكافئة. ونتيجة لذلك، سرعان ما هيمنت المنتجات المستوردة على السوق، وعجزت الورش والمصانع السورية الصغيرة والمتوسطة عن الاستمرار، مما أدى إلى تراجع هذا القطاع الحيوي بشكل كبير.

ورغم وعود السلطة السابقة بأن هذه السياسات ستجذب الاستثمارات وتخلق نمواً اقتصادياً، إلا أن الواقع كان مختلفاً تماماً. حيث لم تتحقق تلك الاستثمارات الموعودة، بل تراجعت القطاعات الإنتاجية الأساسية، وزادت معدلات البطالة، وارتفع الاعتماد على السلع المستوردة. وما حدث فعلياً هو تعزيز الطابع الريعي للاقتصاد السوري، وتسريع عملية تكديس الثروات في جيوب القلة الناهبة للشعب.

لذلك، عندما تُطرح اليوم فكرة اعتماد اقتصاد السوق الحر كحل لأزمة سورية، يجب العودة إلى التجربة السابقة والنظر في نتائجها الكارثية. فبدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية الوطنية أو وضع استراتيجيات لحمايتها، جرى تدميرها باسم الانفتاح، مما يجعل تكرار مثل هذه السياسات خطيراً على مستقبل الاقتصاد السوري ومعيشة السوريين.

أما فيما يخص نفي التوجه نحو الخصخصة، فهذا يبدو كلاماً مطمئناً للوهلة الأولى، لكن هناك ما يثير الشكوك حوله، خاصة في ظل التوجه نحو جذب الاستثمارات الخارجية بأي ثمن. حيث يبرز حديث متصاعد لدى السلطة والمسؤولين الحكوميين عن نوع محدد من عقود الاستثمار، لا سيما في قطاع الطاقة الحيوي الذي يعاني من نقص حاد في الإنتاج وتدمير واسع في البنية التحتية. ففي 26 شباط الماضي، أعلنت وزارة الكهرباء السورية (قبل دمجها لاحقاً في وزارة الطاقة) دعوتها للمستثمرين لتقديم عروضهم لاستثمار محطة طاقة كهروضوئية في ريف دمشق، معلنة أن نظام الاستثمار المعتمد هو نظام BOO. وفي 29 أيار، وبعد توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة وتحالف شركات بقيادة رجل الأعمال السوري- القطري، محمد معتز الخياط، لتطوير مشاريع جديدة في قطاع الكهرباء باستثمارات تقدر بـ7 مليارات دولار، أعلنت وزارة الخارجية أن المشروع سينفذ أيضاً وفق نظامي BOO وBOT دون تحديد الجوانب التي سيغطيها كل نظام.

لكن ما الفرق بين هذين النظامين؟ نظام BOT يعني أن المستثمر سيقوم ببناء المشروع وتشغيله لفترة زمنية محددة، ثم يعيده إلى ملكية الدولة في نهاية العقد. وهذا النظام يضمن للدولة استعادة سيادتها على الأصول. أما نظام BOO فيعني أن المستثمر سيقوم ببناء المشروع، ثم سيمتلكه ويشغله. واعتماد هذا النظام يعني عملياً التخلي عن ملكية القطاع المستثمر، وهو ما يعادل الخصخصة الكاملة والمطلقة. وبالتالي، فإن نفي الحكومة للتوجه نحو الخصخصة يتناقض بشكل مباشر مع اعتمادها لنظام BOO في قطاعات حيوية مثل الطاقة، مما يثير تساؤلات جدية حول صدق هذه التصريحات.

حجة «استلمنا البلد على الأرض»

 

ليس صحيحاً أن الخيارات أمام السلطة كانت محدودة جداً، وأن التوجه الحالي جاء بفعل الضرورة ونقص الخيارات. فالنهوض بالاقتصاد السوري يتطلب رؤية استثمارية واضحة ومستدامة، تضع حماية السيادة الوطنية ومصالح الشعب السوري في مقدمة أولوياتها. أما التوجه نحو عقود BOO مثلاً، فكما تثبت التجربة التاريخية للكثير من الدول التي طبقتها، يمثل أسوأ خيار يمكن لسورية أن تتخذه. لأنه يعني تخلياً نهائياً عن القطاع المستثمر، وهو أسوأ حتى من الاقتراض الخارجي.

إن نجاة سورية واقتصادها مرهونان بوضع خارطة استثمارية معلنة وواضحة، للسوريين قبل غيرهم، تركز بشكل أساسي على الاستفادة من الميزات المطلقة الموجودة في الاقتصاد السوري. هذه الميزات هي تلك التي نملكها كسوريين بشكل حصري واحتكاري تقريباً، وتتميز بأن نسب العائدية فيها عالية جداً، وتحتاج إلى رؤوس أموال صغيرة أو متوسطة، ولدينا منها مئات الميزات موزعة على المحافظات السورية المختلفة. يجب الحفاظ أيضاً على الميزات المطلقة والاستثمار فيها بشكل صحيح، مع الحفاظ أيضًا على الميزات النسبية والاستثمار فيها، مثل المواد الخام كالنفط والقمح والقطن، والتي تعتمد على توافر الموارد الطبيعية، لكنها تتعرض لمنافسة شرسة في الأسواق الدولية، مما يُبقي هوامش الربح محدودة. وقد قام النموذج الاقتصادي السوري للسلطة السابقة بشكل أساسي على هذه الميزات، حيث ركز على تصدير المواد الخام بدلاً من تصنيعها. 

على النقيض، فإن الميزات المطلقة هي تلك الموارد أو المنتجات التي تنفرد بها سورية نتيجة ظروف جغرافية أو طبيعية خاصة، مثل غنم العواس، والوردة الشامية، وبعض المنتجات الزراعية الخاصة، والنباتات الطبية النادرة، والأحجار الطبيعية، وغيرها. ويمكن لهذه الموارد أن تحقق عوائد ضخمة إذا تم استغلالها بشكل صحيح، بما في ذلك إنشاء مجمعات صناعية زراعية تقلل تلاعب السوق بالأسعار، وتسمح بتعظيم القيم المضافة وبالتالي نسبة العائدية على الاستثمار إلى الحدود القصوى.

وبعد تحديد قطاعات الميزات المطلقة والنسبية، يبرز سؤال مشروع حول مصادر تمويل المشاريع في هذه القطاعات. وهنا، يجب أن يكون البحث عن المصادر الداخلية هو الأولوية القصوى. يشمل ذلك ملكيات الفاسدين الكبار والمجرمين وتجار الحرب، الذين يجب ألا يحظوا بفرص استثمارية في سورية الجديدة، بل يجب أن تعود ملكياتهم، التي جمعوها من عذابات وآلام السوريين، إلى الشعب. ثم ينبغي الاستفادة من العلاقات الدبلوماسية لاستعادة أموال الفاسدين الكبار ومجرمي السلطة السابقة الموجودة في البنوك الخارجية، وهي عملية صعبة بالتأكيد لكنها ليست مستحيلة.

وبعد سبر المصادر الداخلية وتوظيفها وطنياً، يمكن الحديث عن التوجه نحو عقود الـBOT ضمن شروط معقولة تضمن للدولة، وبالتالي للشعب السوري، الملكية النهائية للقطاعات المستثمرة. حيث يجب أن تتضمن هذه العقود بنوداً واضحة حول نقل الملكية، وآليات تنظيمية قوية لضمان جودة الخدمة والتسعير العادل خلال فترة التشغيل، وحماية مصالح الدولة والناس. 

وتأتي المساعدات والقروض كخيار ثانوي، وربما لن يكون الشعب السوري بحاجة لها إذا أحسن تأمين مصادر الإيرادات الممكنة والمتاحة من استغلال ميزاته المطلقة والنسبية واستعادة أصول الفاسدين والمجرمين.

وبالتالي، هناك بالفعل خيارات متاحة أمام السلطة، وهي خيارات تضمن كرامة المواطن السوري ورفع مستوى معيشته دون رهن سورية للخارج. لكن المضي فيها يتطلب إرادة سياسية حقيقية.

«المواطن العادي» لا يجب أن يكون مجرد شعار

1108936-1100669613

ما يريده «المواطن العادي» وما يحقق مصلحته فعلياً هو القضاء على الفقر في سورية، لكن السؤال هو كيف يمكن تحقيق ذلك؟ 

لن يتحقق القضاء على الفقر بمجرد نمو اقتصادي عابر أو وعود نظرية، بل يحتاج إلى رؤية وطنية شاملة تعالج جذور المشكلة وتتبنى نموذجاً سورياً خاصاً يضع مصلحة السوريين في صدارة الأولويات. لقد أثبتت التجربة السورية خلال العقود الماضية أن ترك الأمور لقوى السوق والاعتماد على جهاز دولة مترهل دون إصلاح، كلاهما طريقان مسدودان. وعليه، فإن المقاربة العملية للقضاء على الفقر يجب أن تقوم على دور قوي وفعال للدولة من جهة، وعلى إعادة توجيه دفة الاقتصاد نحو تلبية احتياجات المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية من جهة أخرى.

لا غنى عن دور محوري للدولة في المرحلة المقبلة لضمان توجيه الموارد نحو أولويات إعادة الإعمار والتنمية البشرية. وهذا لا يعني العودة إلى اقتصاد مغلق مزعوم، بل المقصود أن تكون الدولة مخططاً ومنظماً رئيسياً تحدد القطاعات الاستراتيجية التي يجب النهوض بها وتحفز الاستثمار فيها دون التفريط بها، وتعيد بناء البنية التحتية المدمرة. إن الدولة القوية والعادلة هي وحدها التي تستطيع وقف الاحتكارات، وضبط الأسواق، ومكافحة الفساد، وتبديد الموارد. وفي الحالة السورية، ينبغي على الدولة استعادة دورها في التخطيط الاقتصادي طويل المدى لضمان تنويع الاقتصاد وإيجاد فرص عمل منتجة، بدلاً من تركز النشاط في التجارة والأنشطة الريعية.

ومن أجل تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية والتخفيف الفوري من معاناة السوريين الأكثر فقراً، لا بد من اعتماد سياسات صريحة لإعادة توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع. لقد أدت سنوات الحرب والفساد إلى تراكم الثروة لدى فئة ضيقة من المنتفعين، فيما انزلقت الغالبية العظمى إلى ما دون خط الفقر. وعليه، ينبغي أن تتضمن الرؤية لسورية الجديدة إجراءات مثل إصلاح النظام الضريبي ليصبح تصاعدياً بحق، يفرض ضرائب أعلى على الشركات الكبرى وأصحاب الدخل المرتفع، مقابل تخفيف العبء عن الفقراء ومحدودي الدخل. كما يتعين مكافحة التهرب الضريبي الذي حرم الخزينة من موارد كانت كفيلة بتمويل برامج اجتماعية مهمة، والوقف الفوري لجميع عمليات تبديد مصادر إيرادات الدولة التي تصاعدت مؤخراً.

لا يمكن كسر حلقة الفقر في سورية دون رفع فعلي لمستويات دخل الأسر، وبخاصة شريحة العاملين بأجر. فالأجور الحالية، حتى بعد الزيادات المتتالية التي أعلنت خلال السنوات الماضية، تلتهمها ارتفاعات الأسعار السريعة التي لا يوجد من يضبطها اليوم. 

الطريق نحو القضاء على الفقر يتطلب نهجاً متكاملاً ومدروساً يضع العدالة الاجتماعية في صلب أولوياته. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال دور قوي وفعال للدولة، ليس كجهة تتخلى عن المسؤولية الاقتصادية، بل كمهندس لإعادة بناء الاقتصاد وحماية مواطنيها.

من يريد أن ينتشل المواطنين حقاً من الفقر، فهو محكوم بأن يركز جهوده على إعادة توزيع الثروة لصالح الغالبية المنهوبة، ورفع القوة الشرائية الفعلية للأجور، ودعم الإنتاج المحلي السوري وتطويره لحماية الصناعات الوطنية واستعادة عوامل الاكتفاء الذاتي. كما أن بناء الثقة بين الدولة والمواطنين لا يمكن أن ينجز دون ضمان مستوى عالٍ من الرقابة الشعبية والمشاركة المجتمعية الواسعة في صنع القرار الاقتصادي. وفي حين أن العلاقات الخارجية النشطة يمكن أن تساهم نظرياً في تسهيل حياة السوريين، إلا أن النجاح في النهاية يعتمد بشكل أساسي على التغيير الداخلي الجذري، والقطع تماماً مع سياسات السلطة السابقة التي جرّفت جهاز الدولة السوري.

سورية بحاجة ماسة إلى التحول من نموذج اقتصادي يخدم النخب إلى نموذج يعزز النمو الشامل، حيث تقاس الإنجازات الاقتصادية بمدى تحسينها لمعيشة السوريين. والفشل في تبني هذا النهج الشامل والموجه نحو العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى استمرار دورة الفقر وعدم الاستقرار، مع تداعيات كارثية على الأجيال القادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1238
آخر تعديل على الأحد, 10 آب/أغسطس 2025 22:20