أحمد الرز
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لطالما ارتبطت الحرية في الأذهان بالحقوق السياسية، مثل حرية التعبير والتجمع والمشاركة في الحياة السياسية، لكن يعاب على هذه النظرة المجتزأة أنها تتجاهل حقيقة أساسية، وهي أنه لا يمكن أن توجد حرية حقيقية في ظل غياب العدالة الاجتماعية. فحين يسيطر عددٌ قليل من الأفراد على الثروة والموارد، بينما تعاني الأغلبية من الفقر والتهميش، تصبح الحريات السياسية مجرد شعارات، لأن الفقر نفسه هو أعلى شكل من أشكال القيود المفروضة على البشر وحرياتهم. وفوق ذلك، فإن المجتمعات التي يرتفع فيها معدل الاستغلال الاقتصادي تكون أكثر عرضة للاستبداد والقمع (لا بتعبيراته الضيقة التي تقف عند حدود العصا والهراوة فحسب، بل وبمفهومه الواسع بوصفه تقييداً وكبحاً لقدرة الإنسان على التأثير بما حوله)، إذ تحتاج القوى المسيطرة إلى أدوات سياسية وأمنية للحفاظ على هيمنتها.
بعد سقوط سلطة بشار الأسد، يواجه السوريون تحدياً تاريخياً يتمثل في إعادة بناء بلادهم، ليس فقط على مستوى البنية التحتية والمؤسسات، بل وأيضاً عبر بناء نظام اقتصادي يعبر عن تطلعاتهم التي جرى قمعها لعقود، تطلعاتهم بنموذج اقتصادي موجَّه لخدمة المجتمع ككل، وليس لمصلحة نخب فاسدة كما كان الحال في ظل السلطة السابقة. ويطرح هذا التوجه تساؤلات جوهرية حول طبيعة النموذج الاقتصادي المطلوب ومحدداته، وبشكلٍ خاص الآليات الكفيلة بتحقيق النمو الاقتصادي الضروري في سورية، مع استلهام الدروس من تجارب الدول التي نجحت، بعد معاناة من الحروب والدمار الاقتصادي، في بناء اقتصادات وطنية قوية مكّنتها من تحسين مستوى معيشة شعوبها وضمان حياة كريمة لهم.
بعد نحو 14 عاماً من انفجار الأزمة، يجد السوريون أنفسهم في مواجهة تحديات اقتصادية هائلة لا تقل ضراوة عن سنوات النزاع المسلح. حيث دُمرت النسبة الأكبر من البنى التحتية، وتعطّلت القطاعات الإنتاجية بفعل سياسات السلطة الساقطة، وتفاقمت معاناة الشعب السوري نتيجة الارتفاع الكارثي في نسب البطالة، وانهيار الليرة السورية، وتجريف البلاد عبر الهجرة الجماعية للكوادر والكفاءات. ومع انفتاح الأفق للحديث عن مرحلة التعافي وإعادة الإعمار، تأتي تصريحات رسمية تتوقع نمو الاقتصاد السوري بأكثر من 1% في عام 2025، وهي نسبة تبدو بعيدة كل البعد عن الطموحات، والأهم من ذلك أنها بعيدة عن النسبة الممكن تحقيقها اليوم موضوعياً.
شهدت السياسات العامة في سورية تحت حكم حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد تحولاً تدريجياً نحو تفكيك منظومة الدعم الاجتماعي التي كانت تُعتبر إحدى الركائز الأساسية للاستقرار النسبي للدولة في العقود السابقة. لم يكن هذا التحول فجائياً أو معلناً بوضوح، بل اتبع أساليباً احتيالية اعتمدت على تقليص الدعم بصورة تدريجية بطرق مباشرة وغير مباشرة: ابتداءً من تقليص مبالغ الدعم التي كانت تُدرَج في موازنات الدولة، إلى تضاؤل الإنفاق الفعلي على بنود الدعم الاجتماعي، وصولاً إلى الإلغاء الكامل للدعم عن بعض السلع والمواد الأساسية، إما بوقف توزيعها عبر «البطاقة الذكية» سيئة الذكر، أو بإعلانات رسمية عن انتهاء دعمها مثلما حدث مع البنزين.
منذ ستينيات القرن الماضي، عانى السوريون من عمليات نهبٍ واسعة النطاق طالت مختلف جوانب حياتهم، وكان أبرزها استهداف أجورهم بأشكال مباشرة وغير مباشرة، حيث شهدت الأجور الحقيقية (أي تلك التي تقاس بقيمتها الفعلية مقارنة بمتطلبات الحياة) انخفاضاً مستمراً على مدى عقود. لم يكن هذا الانخفاض خطياً أو ذا وتيرة ثابتة، إذ تخللته فترات من التآكل التدريجي وأخرى من الانهيار السريع، مما انعكس بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم، ليجعل من تأمين الاحتياجات الأساسية أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة لـ90% من السكان على الأقل. وبطبيعة الحال، لم تكن هذه الظاهرة مجرد نتيجة ثانوية لتقلبات اقتصادية أو أزمات عابرة، بل نتيجة طبيعية لنهج اقتصادي قائم على غياب العدالة الاجتماعية وهيمنة مصالح نخب الفساد الكبير على الاقتصاد الوطني.
مع رحيل السلطة السابقة، وتعيين حكومة تسيير الأعمال المؤقتة، يجد السوريون أنفسهم أمام مرحلة جديدة تترافق مع تطلعات وآمال بمستقبلٍ أفضل، ولكن أيضاً أمام تساؤلات ملحّة حول القرارات والسياسات التي تنتهجها هذه الحكومة في ظل واقع سياسي مضطرب ووضع اقتصادي متدهور. حيث تبرز العديد من القضايا التي تمس حياة الناس بشكل مباشر: ابتداءً من الأجور وقدرتها الفعلية على تأمين احتياجات الشعب السوري من سلعٍ وخدمات، وليس انتهاءً عند التفكير في هوية الاقتصاد الوطني، والآثار المرتقبة لإعلان الحكومة المؤقتة اعتمادها نهج «اقتصاد السوق المفتوح» في تكرار عمليّ لسياسات السلطة الساقطة التي تلطت خلف شعار «اقتصاد السوق الاجتماعي».
يعود عبد الله الدردري، الرجل الاقتصادي الأول لنظام بشار الأسد خلال الفترة الممتدة من 2003 إلى 2011، بصفته رئيساً لهيئة تخطيط الدولة، ثم نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، ليظهر اليوم مجدداً في المشهد السياسي والاقتصادي، معلناً- في لقاء مع مجموعة من رجال الأعمال السوريين في الإمارات، يوم 24 كانون الأول 2024 - أنه سيتوجه إلى دمشق ليتحدث إلى القيادة الجديدة، ويعرض عليها «حزمة من المشاريع التي تساعد على تلمس كيفية التخطيط ووضع الرؤية»، حاثّاً رجال الأعمال على أنهم هم من يجب أن يبنوا محطات الكهرباء، ومحطات المياه، والمدارس والجامعات والطرق، و«هذا كله من خلال الاستثمار الخاص أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص أو عقود BOT… لدينا حكومة لا تملك المال، لا خيار أمامها إلا سبيلين: الغرق في الديون، أو تنشيط الاستثمار» معتبراً ذلك «فرصة العمر»، وواعداً إياهم بـ«فرص استثمارية قيمتها 100 مليار دولار».
ما إن بدأت حكومة تسيير الأعمال المؤقتة في سورية مباشرة مهامها حتى تصدّرت الساحة الاقتصادية بسلسلةٍ من القرارات والتصريحات التي أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع السوري. وبينما تباينت الآراء والتصورات الأولية حول تقييم هذه الخطوات، برزت أصوات تدعو إلى «التروي وعدم الاستعجال في الهجوم على الحكومة»، مشيرةً إلى «طبيعتها المؤقتة وحداثة تجربتها في التعامل بوصفها حكومة لقطاع جغرافي أكبر بكثير من حدود إدلب». ورغم الملاحظات الكثيرة على هذا الطرح، سنحاول في هذا المقال أن نكتفي بتقديم «نقاشٍ هادئ» لهذه الخطوات، مفترضين حسن النية، وأن من قام بها لا يدرك أبعادها الكاملة.
مرّت سورية خلال العقود الماضية بمساراتٍ اقتصادية متباينة، تراوحت بين رأسمالية الدولة والتوجه نحو ليبرالية اقتصادية متوحشة، وأسفر كلاهما عن أزمات عميقة وتراجعات اقتصادية كان الشعب السوري هو الضحية الأولى لها. ومع رحيل السلطة السابقة اليوم، لم تعد هناك فرصة للعودة إلى الوراء، بل أصبح لزاماً على السوريين صياغة نموذج اقتصادي جديد يتجاوز سياسات الماضي، ويتوجه نحو بناء عدالة اجتماعية حقيقية ونمو اقتصادي مستدام. وليس خافياً على أحد أن الإشارات الأولى حول «الشكل الاقتصادي» للحكومة الجديدة التي تشكلت على نحو متفرد قد أثارت الاستياء لدى غالبية السوريين التي تدرك أن الحديث حول «تحوّل سورية نحو اقتصاد السوق الحر» لا يعني الاستمرار الفعلي للسياسات الاقتصادية للسلطة السابقة فحسب، بل وتسريعها كذلك.
يعكس البيان الحكومي الأخير للحكومة السورية استمرار النهج ذاته الذي اعتمدته الحكومات السابقة دون أي تغيير يذكر، ورغم الحديث عن «الشفافية» و«الواقعية»، تبدو معظم مضامين البيان في العمق امتداداً مباشراً لسياسات التقشف والخصخصة والانسحاب التدريجي للدولة من التزاماتها تجاه الشرائح الأفقر من الشعب. وبالتالي، يمكن القول إن الحكومة الحالية، رغم تغيير الوجوه، لا تختلف في جوهرها أو سياستها عن الحكومات السابقة، حيث تعيد إنتاج ذات السياسات الاقتصادية `ذاتها، التي تعمق معاناة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري.