افتتاحية قاسيون 1253: لماذا صندوق النقد الدولي من جديد؟

افتتاحية قاسيون 1253: لماذا صندوق النقد الدولي من جديد؟

كانت التصريحات الرسمية التي خرجت في شهر تموز الماضي، وعلى رأسها ما قاله حاكم مصرف سورية المركزي الذي أكد أنه، وفقاً لتوجيهات رئاسة الجمهورية، فإن البلاد لن تلجأ إلى الديون الخارجية ولن تستدين من صندوق النقد أو البنك الدوليين، مطمئنةً للسوريين الذين خبروا جيداً وصفات هاتين المؤسستين، وعرفوا أثمانها الباهظة جيداً. فالسياسات التي جُربت في سورية سابقاً، تحت مظلة «الإصلاح» و«الانفتاح»، لم تنتج سوى تدمير ممنهج لمعيشة الفقراء، وتراجع متسارع لدور الدولة، وانفجار اجتماعي هائل ما زالت البلاد تدفع فواتيره حتى اليوم.

 

لكن، في السابع عشر من الشهر الجاري، أصدر صندوق النقد الدولي بياناً صحفياً كشف فيه أن فريقاً من الصندوق زار دمشق بين العاشر والثالث عشر من الشهر نفسه، بهدف تقييم الوضع الاقتصادي، وأنه تم الاتفاق مع السلطة السورية على «برنامج تعاون مكثف للمرحلة القادمة»، بما في ذلك تمهيد الطريق لاستئناف مشاورات المادة الرابعة، وهي المراجعات السنوية التي يجريها الصندوق لتقييم سياسات الدول الأعضاء، وتعمل عملياً كأداة رقابية وسياسية تخدم مصالح دول المركز. وهذه المشاورات بالذات كانت قد توقفت في سورية منذ عام 2009، أي قبيل انفجار عام 2011.

تزامن هذا البيان مع تصريحات لوزير المالية أكد فيها أنه سيكون هناك ممثل مقيم لصندوق النقد في دمشق، وأن البنك الدولي بدوره سيفتتح مكتباً فيها. وهكذا، يعاد فتح الباب على مصراعيه أمام المنظومة العالمية ذاتها التي كانت شريكاً أساسياً في تقويض الاستقرار الاجتماعي في سورية خلال العقدين الماضيين.

إن تاريخ صندوق النقد الدولي ليس سراً، ووصفاته الاقتصادية باتت معروفة للقاصي والداني: تقليص الدعم الاجتماعي، ورفع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وتجميد الأجور، وتخفيض النفقات الاستثمارية العامة، وتصفية القطاع العام وخصخصته، والإعفاءات الضريبية الواسعة لرؤوس الأموال والشركات الكبرى. وكانت النتيجة دائماً واحدة: ازدياد الفقر، وانهيار الإنتاج الوطني، وتراجع قدرة الدولة على حماية مجتمعها.

من أميركا اللاتينية إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى أوروبا الشرقية، جربت عشرات الدول هذه «الوصفات»، وكانت النتيجة تصب دائماً في مصلحة إثراء نخب الفساد الكبير وإفقار الأكثرية الساحقة من الناس. وسورية ذاتها ليست بعيدة عن هذا النموذج. فمنذ مطلع الألفية، وتحت شعارات زائفة من قبيل «اقتصاد السوق الاجتماعي» و«الإصلاح الاقتصادي»، بدأت سلطة الأسد بتطبيق تدريجي لسياسات الصندوق، حيث تخلت الدولة عن قطاعات إنتاجية أساسية، وقلصت الدعم التمويني وصولاً إلى إنهائه، ورفعت الأسعار بشكل متسارع، وقلصت الاستثمار العام، ما أدى إلى سحق غالبية الشعب السوري ودفعها نحو تخوم الفاقة والعوز. ومع تدهور المعيشة وانعدام العدالة، لم يكن أمام السلطة الساقطة سوى تشديد القبضة الأمنية لقمع الأصوات المطالبة بالتغيير.

اليوم، يعاد فتح الباب ذاته من جديد، وكأن أحداً لم يتعلم شيئاً. هل يمكن لسورية أن تسير في الطريق نفسه وتنتظر نتائج مختلفة؟ أليس من واجبها أن تتعلم من تجارب الآخرين ومن تجربتها السابقة هي ذاتها؟ إن العودة إلى صندوق النقد تعني العودة إلى دائرة جهنم ذاتها: المزيد من الإفقار، والمزيد من الاحتقان، والتجهيز لانفجارات قادمة، في ظرف هو الأخطر اقتصادياً واجتماعياً منذ عقود.

الطريق الذي يبدأ بخطوات «التعاون الفني» مع الصندوق، ينتهي دوماً بإملاءات وشروط وقيود تضع السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية على المذبح ذاته. والخيار الحقيقي أمام البلاد اليوم ليس في استدعاء الخارج ليعيد إنتاج الكارثة بأشكال جديدة، بل في إعادة بناء اقتصاد وطني منتج قائم على العدالة والتوزيع العادل للثروة، وعلى مشاركة السوريين أنفسهم في صنع القرار الاقتصادي. أما الرهان على الصندوق مجدداً، فهو رهان على وصفة قديمة معروفة النتائج سلفاً.

(English Version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1253
آخر تعديل على الأحد, 23 تشرين2/نوفمبر 2025 18:02