بعد الكهرباء... لم يبقَ من جهاز الدولة إلّا العصا!

بعد الكهرباء... لم يبقَ من جهاز الدولة إلّا العصا!

يلعب جهاز الدولة، أي جهاز دولة على العموم، وفقاً لغرامشي وغيره من الفلاسفة والمفكرين، دوراً مركباً من مكونين: «القمع» و«التراضي/التنظيم»؛ أما القمع، فهو أن جهاز الدولة، بالمحصلة، يقف (حاملاً عصاه) إلى جانب مصالح قسم من المجتمع ضد مصالح القسم الآخر. وهذان القسمان ليسا قائمين على أسس عرقية أو قومية أو دينية أو طائفية، بل بالضبط على أسس اقتصادية. يتضح الأمر من طريقة توزيع الثروة في البلاد؛ فحين يحصل 90% من السكان على 10% من الثروة أو أقل، بمقابل حصول 10% من السكان على 90% من الثروة أو أكثر، فإن جهاز الدولة، والسلطة التي تسيره، يحملان العصا (الأمنية/ العسكرية/ القانونية/ الثقافية إلخ) بشكل ملموس فوق رأس الـ90% من السكان ولمصلحة الـ10%.

وأما الوظيفة الثانية التي يلعبها جهاز الدولة، أي «التراضي/التنظيم»، فهو في الجوهر طريقة لتلطيف الصراع الطبيعي الذي سينشأ بين المنهوبين والناهبين، وذلك عبر سياسات اجتماعية تبقي رأس الـ90% فوق الماء قليلاً، فلا هم يغرقون تماماً، ولا هم يتنفسون بأريحية، فيتمكنون من التفكير بما هو أكثر... السياسات الاجتماعية المقصودة، هي سياسات الدعم، والسيطرة على القطاعات السيادية وتسييرها بما يسمح بإبقاء المجتمع على قيد الحياة، خاصة في القطاعات الأكثر أساسية، مثل: التعليم والصحة والطاقة والنقل. يُضاف إلى ذلك، تنظيم الصراع ضمن المجتمع عبر جملة من الأدوات «الديمقراطية» والسياسية المتنوعة، بحيث يتم الحفاظ على الأمل بالتغيير نحو الأحسن، لأن سيطرة اليأس لدى الـ90%، واقتناعها بأن ما سيأتي أسوأ بالضرورة، تساوي فقدان القدرة على الهيمنة، وبالتالي، انفتاح الباب أمام الثورة الاجتماعية، وتالياً تهديد سيطرة سلطة جماعة الـ10%.


رفع الدعم وتدمير جهاز الدولة


ابتداء من عام 2005، ومع تبني بشار الأسد، وبشخص عبدالله الدردري، للسياسات المسماة «اقتصاد السوق الاجتماعي»، بدعم وتشجيع غربي، وخاصة من صندوق النقد والبنك الدوليين، بدأ جهاز الدولة بالتخلي عن وظيفته الاجتماعية، عن وظيفة التراضي/ التنظيم؛ فعبر رفع الدعم الجزئي الذي جرى عن المحروقات عام 2007، ومن ثم رفع الدعم التدريجي عن الصناعة والزراعة، تم دفع 14% من السكان (حوالي 3 ملايين إنسان) إلى ما دون خط الفقر خلال 5 سنوات فقط (استناداً لأرقام المكتب المركزي للإحصاء التابع لرئاسة مجلس الوزراء)، وهذا ما أسهم إسهاماً ملموساً وكبيراً وواضحاً في الانفجار الشعبي عام 2011.

أسهم في الانفجار أيضاً ارتفاع مستويات القمع الأمني، وارتفاع مستويات القمع الأمني نتيجة طبيعية لتآكل دور الدولة الاجتماعي (التنظيم/ التراضي). المعادلة بسيطة: كلما زاد إفقار السكان ونهبهم، احتاجت السلطة إلى تكبير وتغليظ العصا للتصدي للرفض المتصاعد من غالبية السكان... بالمقابل، حين يكون الوضع الاقتصادي-الاجتماعي لغالبية الناس معقولاً، ويسير على طريق التحسن، حتى لو كان بطيئاً، فإن الحاجة إلى القمع لإبقاء السلطة تصبح أضعف فأضعف...
عبر «الإرادة الشعبية» في وقت مبكر عن هذه الفكرة، وتحديداً في الوقت الذي كان النظام السابق يسعى فيه للترويج لليبرالية الاقتصادية... قلنا في حينه: إن الليبرالية الاقتصادية في بلدان العالم الثالث، وفي بلدنا ضمناً، لن تجلب الليبرالية السياسية كما يتم الادعاء، بل على العكس تماماً، ستجلب مزيداً من القمع، وستحاصر أي نشاط سياسي للمجتمع، وستسعى لقمعه بشكل وحشي... ببساطة، لأنك (كسلطة) تفقد أي قدرة على إقناع الناس أو احتوائها، بفقدانك لأدوات التأثير الاجتماعي المباشر عبر تبنيك للسياسات الليبرالية المتوحشة، وبالتالي، لا يبقى بين يديك إلا القمع الأمني السافر العلني... وهو ما جرى.


والآن؟


السلطة الجديدة في سورية، ومنذ استلامها قبل 11 شهراً، تواصل السياسات الاقتصادية الاجتماعية نفسها التي بدأتها السلطة السابقة، بل وتمضي بها خطوات أسرع نحو الهاوية؛ من رفع الدعم عن الخبز والمواصلات، إلى فصل مئات الآلاف من الموظفين، وإلى إيقاف عمل عدد غير قليل من معامل ومؤسسات قطاع الدولة، ومروراً بفتح باب الاستيراد بما يدمر الإنتاج المحلي، ووصولاً إلى رفع الدعم عن الكهرباء وفتح الباب للشركات الأجنبية لإحكام يدها على أعناق السوريين، وعلى عنق السلطة نفسها في نهاية المطاف...
لذلك كله، فإننا نكرر القول: إنّ ما سقط حتى الآن هو السلطة، لا النظام؛ فالنظام في جوهره ما يزال قائماً، بوصفه طريقة توزيع الثروة لمصلحة قلة اقتصادية، وضد مصلحة عامة السوريين من كل الأديان والقوميات والطوائف...
حتى ما قبل 2011، كان مستوى التدخل الخارجي المباشر والواضح في سورية، منخفضاً نسبياً. بعد 2011 بدأ في الازدياد. حين يكون مستوى التدخل الخارجي منخفضاً نسبياً، فإن العصا الداخلية يمكنها أن تكتم أنفاس الناس إلى حين، مع الحفاظ على وحدة البلاد. ولكن في وضع كالذي نحن فيه اليوم، فإن العصا الداخلية لن تستطيع كتم نفس الناس، بل وأهم من ذلك، أن حجم وثقل العصا التي تستطيع كتم أنفاس الناس اليوم (في ظل التدهور الهائل في الدور الاجتماعي للدولة، وتالياً حاجة السلطات إلى تكبير العصا) نقول: إن ثقل وحجم العصا المطلوبة لكتم أنفاس المجتمع، هو أكبر من قدرات السلطة، وأي سلطة، على حمله... ولكنه ليس أكبر من قدرة الشركات العابرة للقارات، التي تستخدم عصا من نوع مختلف (عصا الحرب الأهلية والتدمير الذاتي للمجتمع، إضافة لعصا التدخلات الخارجية العسكرية).

بهذا المعنى، وحتى من وجهة النظر الضيقة لمصلحة فئة اجتماعية ضيقة في سورية، أي فئة الناهبين الداخليين، فإن ما يجري هو ضد مصلحتها، وضد مصلحة السلطة ضمناً، وهو تخديم مباشر لمصالح الخارج، الذي يجاهر علناً بأنه يريد تقسيم البلاد.
ربما يمكن تفسير الأمر (إذا أحسنا النوايا) بضعف الخبرة والكفاءة، ولكن النوايا الحسنة يمكنها أن تعبد الطريق إلى جهنم، كما يذهب القول المأثور... إذ إن المحصلة التي يراها الناس ويحددون مواقفهم على أساسها، هي الأفعال الملموسة وتأثيراتها المباشرة، وليس الأقوال أو النوايا «الطيبة»...


المخرج؟


المخرج واضح ومعروف، وهو توجيه الأنظار والاهتمام إلى نيل رضا الداخل لا الخارج، وضمن الداخل، نيل رضا الـ90% من السوريين المنتمين لمختلف الأديان والقوميات والطوائف، عبر سياسات تصب في مصالحهم، وعبر الاعتماد عليهم وإشراكهم بشكل حقيقي في تقرير مصيرهم بأنفسهم، والمدخل هو المؤتمر الوطني العام والحل السياسي الشامل على أساس جوهر القرار 2254، ابتداء بجسم الحكم الانتقالي الكامل الصلاحيات، ومروراً بالدستور الدائم، ووصولاً إلى الانتخابات الحرة والنزيهة على مختلف المستويات...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1251
آخر تعديل على الأحد, 09 تشرين2/نوفمبر 2025 18:16