تشرين وتصفير عداد التاريخ والهوية الوطنية...
أثار المرسوم الرئاسي رقم (188) لعام 2025، والذي أصدره الرئيس الانتقالي مؤخراً لتحديد العطلات الرسمية، جدلاً واسعاً في الشارع السوري، وخاصة أن المرسوم ألغى عطلة 6 تشرين الأول المكرسة لحرب تشرين 1973 مع العدو الصهيوني، والتي استشهد فيها أكثر من 3500 سوري على أقل تقدير، وفقاً لإحصاءات مختلفة.
تم صرف جزء من الجدل، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، بالطريقة المعتادة ضمن هذه الوسائل، أي عبر استقطاب ثنائي حاد مشبع بالتخوين المتبادل وبتراشق الاتهامات، بغرض قسم السوريين على بعضهم بشكل أكبر من الحاصل أساساً، وذلك عبر تصوير من عارض الإلغاء بأنه من «الفلول» ومن وافقه بأنه من «المؤيدين» للسلطة القائمة، والحق، أن الموضوع أعمق وأبعد بكثير من الانقسام الثانوي الذي يجري حشر الناس فيه رغماً عنهم...
خطف خلفاً
إذا تركنا هذا المرسوم جانباً لبعض الوقت، وعدنا بالتاريخ قليلاً إلى الوراء، يمكننا أن نقف على سلوك مشابه من حيث الجوهر كانت تتبعه السلطة السابقة؛ فالأسد الأب والابن، أساءا بكل طريقة ممكنة للهوية الوطنية السورية، ولعل أبرز أشكال تلك الإساءة تجلى بما يلي:
أولاً: عبر قرن الشعارات الوطنية بالقمع الداخلي والنهب الاقتصادي، إلى الحد الذي بات فيه أي اعتراض يقوم به السوريون على النهب والقمع، عرضة للتخوين الوطني، بحجة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأن من يشكك بالسلطات وسلوكها، إنما يخدم العدو الخارجي... بهذه الطريقة، باتت الشعارات الوطنية المحقة في جوهرها، تتمثل في وعي السوريين بوصفها جزءاً من عدة الفساد والإفساد والقمع والنهب، ما أساء لهذه الشعارات نفسها عبر السنين.
ثانياً: السلوك السياسي العملي لسلطة الأسدين، ورغم الكلام الشعاراتي العام بالاتجاه الوطني، كان بمحصلته النهائية سلوكاً لا وطنياً بما يخص الداخل والخارج، عبر تدمير كل أسس الاستقلال الوطني، ابتداءً بالاقتصاد، ووصولاً إلى تدمير البنى الاجتماعية في سورية، الأمر الذي تجلى بشكل واضح بعد 2011.
ثالثاً: على المستوى الثقافي العام، عمل كل من الأسد الأب ثم الابن على تهميش التاريخ السوري السابق لهما، وفرضا سردية رسمية تجعل نقطة الصفر في التاريخ السوري هي نقطة سيطرة حافظ الأسد على السلطة (حتى بات يُسمى في عهد بشار، القائد المؤسس، وكأن سورية لم تكن قبله)، وصولاً إلى تسمية سورية بأنها (سورية الأسد). ضمن عملية تهميش الذاكرة والتاريخ السوريين، جرى تهميش أبطال الثورة السورية الكبرى، والعمل لتحويلهم إلى مجرد زعامات محلية أو حتى طائفية، خلافاً لدورهم الحقيقي والعملي في التاريخ السوري كزعماء وطنيين ترفعوا عن انتماءاتهم المحلية لمصلحة انتماءٍ سوري جامع، كانوا القاعدة الأساسية في بنائه.
في هذا الإطار أيضاً، يمكن التذكير بأن الأسدين مسحا، حتى من المناهج الدراسية، التاريخ السوري الحديث بأكمله تقريباً؛ فقد لا تجد بين ملايين السوريين إلا عدداً قليلاً جداً قادراً على تعداد الرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة سورية منذ الانتداب الفرنسي وحتى الاستقلال، وصولاً لانقلاب حافظ الأسد، وستجد عدداً أقل من الناس قادرين على تعداد الشخصيات الوطنية والأحزاب الوطنية المهمة التي لعبت أدواراً كبيرة في تاريخ البلاد تحت الانتداب، وفي النضالات من أجل الاستقلال، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال... بالمقابل، فقد كانت كتب التاريخ أيام نظام الأسدين متخمة بالتاريخ العربي والإسلامي القديم والوسيط، على أهمية هذا التاريخ، من الجاهلية إلى صدر الإسلام فالأمويين والعباسيين، وحتى العثمانيين إلى حد ما، ولكن كان يجري المرور على التاريخ الحديث لسورية لماماً، وبأقل قدرٍ من الاهتمام...
الهوية الوطنية
نسف الذاكرة الجمعية لشعب من الشعوب، ومحاولة تصفير عداد التاريخ ليبدأ مع السلطة الحاكمة، هو نسف في الوقت نفسه للهوية الوطنية السورية، نسفٌ لتاريخ الشعب السوري كشعب سوري بغض النظر عمّن يحكمه في هذه المرحلة أو تلك من التاريخ... وربط التاريخ بالسلطات هو تحويلٌ للشعب إلى مجرد تابع ورعية، لا يمتلك شخصيته الخاصة المستقلة القابلة للحياة والتطور بغض النظر عن الحاكم.
في ظل التهديد الهائل وغير المسبوق على وحدة البلاد ووحدة الشعب السوري، فإن ما نحتاجه هو أفق واسع في الرؤية والمعالجة، وحكمة تتخطى حالات الانتقام والتشفي؛ فحرب تشرين ليست ملكاً لحافظ الأسد أو سلطته، بل هي حرب مع عدو ما يزال حتى اليوم يهدد بلادنا ويعتدي عليها، وهي حرب سقط فيها شهداء سوريون من كل المحافظات السورية، ومن كل الطوائف والأديان والقوميات، دفاعاً عن بلادهم وأرضهم وكرامتهم، وليس دفاعاً عن الأسد وسلطته... وإن كان الأسد قد استطاع استغلال تلك الدماء والتلاعب بها، فإن هذا يعيبه هو، ولا يعيب تلك الدماء الطاهرة التي سالت دفاعاً عن كرامة البلاد وأهلها...
فوق ذلك، فإن اختيار لحظة حساسة كالتي نعيشها، والتي يضغط فيها الصهيوني من أجل خضوع سوري كامل، يجعل من محاولة حذف تاريخ 6 تشرين من تاريخنا أمراً غير مفهوم في أحسن الأحوال... وبكل الأحوال، فإن الشعب في بلادنا، كما يثبت التاريخ القديم والحديث، أكثر رسوخاً وثباتاً وعمقاً في أرضه من أي سلطة تأتي على رأسه، وضمناً فإن دماء شهداء المعارك والحروب مع الصهيوني، أكثر تجذراً في الأرض السورية من أن يتم محوها بمرسوم أو بقرار إداري...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1247