عَمّ يُعبر التراجع الجزئي لنفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة؟!
تُعتبر لجنة الشؤون العامة الأمريكية «الإسرائيلية» أو «أيباك» (AIPAC) إحدى أكثر منظمات الضغط نفوذاً في واشنطن، والأكثر تأثيراً على السياسات الأمريكية؛ حيث تطور ذلك التأثير بشكل متصاعد منذ تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي. ولا يقتصر تأثير «أيباك» على العلاقات الأمريكية «الإسرائيلية» فحسب، بل يشمل أيضاً السياسة الأمريكية بشكل عام وتجاه الشرق الأوسط بشكل خاص.
لمحة تاريخية
تأسست «أيباك» في خمسينيات القرن الماضي، وكان اسمها عند التأسيس «اللجنة الصهيونية الأمريكية للشؤون العامة»، ولاحقاً تم تغيير الاسم إلى «أيباك»، وكانت الغاية من تأسيسها، تعزيز الدعم الأمريكي لبقاء «إسرائيل» وأمنها، وذلك من خلال تأمين المساعدات الأمريكية لـ«إسرائيل» وضمان الدعم الدبلوماسي الأمريكي في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية.
عملت «أيباك» على دفع الحكومة الأمريكية إلى تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية للكيان، بالأخص بعد حرب حزيران 1967، كما يشمل عملها حشد دعم الكونغرس لتمرير القوانين والموازنات الداعمة للكيان، أو مواجهة محاولات تقييد مبيعات الأسلحة الأمريكية، أو المساعدات للكيان. وبات واضحاً في ثمانينيات القرن الماضي أن «أيباك» أصبحت مهيمنة في دوائر الضغط في واشنطن. وقامت المنظمة على بناء علاقات وثيقة مع سياسيين أمريكيين من كلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، مما ضمن لها الدعم من كليهما للسياسات المؤيدة للكيان، ويعتمد بناء هذه العلاقات على الدعم المادي السخي للحملات الانتخابية وللمرشحين بالأخص للكونغرس، وبالتأكيد مشروطاً بالدفع بمشاريع القوانين الداعمة للكيان وتمويله وضمان استمرار دعمه، وبالأخص عسكرياً.
من أهم إنجازات «أيباك» أنها استطاعت تأمين حزم مساعدات عسكرية واقتصادية سنوية بشكل مستمر لـ«إسرائيل»، ولعبت دوراً رئيساً في تقييد مبيعات الأسلحة الأمريكية للدول العربية، ودول أخرى في المنطقة، للحفاظ على التفوق العسكري النوعي للكيان. واستطاعت «أيباك» القيام بكل ذلك من خلال تحولها إلى إحدى أقوى جماعات الضغط في واشنطن وأكثرها فعالية، ما أعطاها القدرة على صياغة مشاريع قوانين، والتأثير على تعديلاتها، وضمان الكتل داخل الكونغرس لضمان الحصول على الأصوات اللازمة لتمرير القرارات التي تريدها، كما كان لها تأثير كبير في تنسيق الكتل الانتخابية، وبالأخص في انتخابات الكونغرس.
ويمكن تلخيص تأثير «أيباك» على السياسة الخارجية الأمريكية بالتالي:
المساعدات العسكرية الأمريكية الضخمة والمستدامة لـ«إسرائيل»؛ الحماية الدبلوماسية المستمرة للكيان في الأمم المتحدة، من خلال تحركات، مثل: الاستخدام المتكرر وشبه الدائم لحق النقض الأمريكي في مجلس الأمن لحجب أي قرارات ذات صلة بالكيان؛ والتوافق القانوني بين أنظمة مكافحة الإرهاب والعقوبات الأميركية و«الإسرائيلية»؛ وتأطير السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط حول المصالح الأمنية «الإسرائيلية»، دون أي اعتبار لوجهات النظر الإقليمية والعربية والفلسطينية. إضافة إلى نشاط هائل على المستوى الإعلامي عبر سلسلة من الشبكات الإعلامية الكبرى، ناهيك عن تأثيراتها على هوليود وعلى الصناعة الفنية في الولايات المتحدة، وفي الغرب عموماً.
أمثلة عن تأثير «أيباك» على السياسات في المنطقة
يوجد الكثير من الأمثلة عن الدور الذي لعبته «أيباك» في رسم السياسات ذات التأثير في المنطقة، ولذلك سنقتصر هنا على أمثلة بعد عام 2000، والأكثر وضوحاً بينها:
- المفاوضات النووية مع إيران، حيث عارضت «أيباك» بشدة خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (JCPOA)، بحجة أنها تُعرّض أمن «إسرائيل» للخطر، وأنفقت ملايين الدولارات للضغط على الكونغرس لمعارضة الصفقة، ودعمت الحملات ضد المشرعين الذين دعموها.
- زيادة المساعدات الخارجية والتعاون العسكري واستمرارهما، حيث ساعدت «أيباك» في تأمين حزم مساعدات كبيرة، أبرزها: مذكرة التفاهم لعام 2016 في عهد أوباما، والتي قدمت 38 مليار دولار من المساعدات على مدى 10 سنوات، وهي أكبر صفقة من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة.
- النفوذ داخل الكونغرس، وكان ذلك من خلال رعاية أو ترويج قرارات تؤكد حق «إسرائيل» في الدفاع عن النفس، وتدين الأمم المتحدة ووكالاتها وجميع أذرعها، أو السلطة الفلسطينية، وتوسيع نطاق التشريعات المناهضة لحركة مقاطعة «إسرائيل» وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات على حركة المقاطعة (BDS) في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وصولاً إلى تجريم أي جهة تدعم الحركة وحتى الأفراد.
تغييرات في الاتجاهات في عشرينيات القرن الحالي
السياسات الأمريكية تجاه المنطقة، وبالتحديد تلك التي تخدم مصالح الكيان، لم تشهد تغييرات جذرية أو كافية للقول: إن السياسات الأمريكية تغيّرت، ولكن يمكن لحظ بعض التغييرات التي يمكن اعتبارها مؤشرات حول تغييرات أعمق، قد يظهر تأثيرها على المدى البعيد، ومن بين هذه التغييرات:
- الاستقطاب الحزبي: اعتمدت «أيباك» بشكل كبير على التعاون الحزبي، أو استقطاب الدعم من كلا الحزبين في أمريكا، ولكن خلال السنوات الأخيرة بدأ عدد أكبر ممن يتم اعتبارهم من «الديمقراطيين التقدميين» بانتقاد السياسات «الإسرائيلية» تجاه الفلسطينيين.
- الدعم المباشر الصريح: في عام 2022، أطلقت «أيباك» ما يسمى بـ «مشروع الديمقراطية المتحدة» لتمويل المرشحين المؤيدين للكيان بشكل مباشر، وهو تغيير عن طريقة الدعم السابقة، التي كانت أقل صراحة وعلانية للإنفاق السياسي من قبل «أيباك» على السياسيين.
- استهداف المنتقدين: أنفقت «أيباك» ولجان العمل السياسي المتحالفة معها ملايين الدولارات لاستهداف مشرعين معارضين لها– مثل: إلهان عمر، ورشيدة طليب، وجمال بومان– الذين ينتقدون الاحتلال «الإسرائيلي» أو المساعدات العسكرية الأمريكية للكيان.
- التأثير على الخطاب: ساهمت أنشطة «أيباك» في استقطاب النقاش داخل الحزب الديمقراطي حول الدعم الأمريكي غير المشروط للكيان؛ على الرغم من ذلك، تستمر «أيباك» بالقدرة على الحصول على أصوات شبه إجماعية في الكونغرس لدعم «إسرائيل»، خاصة خلال العدوان الأخير على غزة والمنطقة.
- ظهور جهات فاعلة جديدة: ظهرت جماعات، مثل: «جيه ستريت» (J Street)، التي تأسست عام 2008، والتي تحدت نهج «أيباك» المتشدد، داعيةً إلى حل الدولتين وتقديم مساعدات مشروطة للكيان؛ على الرغم من أن «أيباك» حافظت على هيمنتها، إلا أن سلطتها «الأخلاقية» تتعرض لمنافسة متزايدة في الأوساط «التقدمية» وبين الناخبين الأمريكيين الشباب.
- زيادة النقد الصريح: يزداد عدد الناقدين لـ «أيباك» من الشخصيات المهمة في المشهد السياسي، مثل: المحللين السياسيين البارزين، كجون ميرشايمر ودوغلاس ماكريغور وسكوت ريتر وجيفري ساكس وآخرين؛ ويجادل أولئك بأن نفوذ «أيباك» يحرف السياسة الخارجية الأمريكية بعيداً عن المصالح الوطنية، ويتهم البعض «أيباك» بتثبيط النقاش المفتوح حول الملف «الإسرائيلي» الفلسطيني، واستخدام تمويل الحملات الانتخابية كسلاح ضد السياسيين المعارضين.
أمثلة على ابتعاد سياسيين أمريكيين عن «أيباك»
- مالوري ماكمورو، ديمقراطية من ميشيغان، مرشحة تمهيدية لمجلس الشيوخ، صرحت خلال جلسة في بداية هذا الشهر، مع ناخبين في إحدى المناطق في الولاية، بأنها لن تقبل دعم «أيباك»، ولن تسعى للحصول على تأييدها؛ وانتقدت المساعدات العسكرية الأمريكية لـ«إسرائيل»؛ ووصفت الحرب في غزة بأنها «رجس أخلاقي». وأضافت، أنها كانت ستدعم قرار السيناتور بيرني ساندرز بمنع مبيعات الأسلحة الهجومية لـ «إسرائيل» ودعت إلى حل الدولتين. كما قالت: «رأيي في هذا هو أننا فقدنا تماماً إنسانية هذه القضية... يُنظر إليها بطريقة آلية دون الاعتراف بأن هؤلاء بشر. إنهم بشر. وموقفنا يجب أن يكون أنه لا توجد حياةٌ فرديةٌ أثمن من حياةٍ فرديةٍ أخرى». ورداً على سؤالها إنْ كان الصراع «إبادة جماعية»، أجابت: «بناءً على التعريف، نعم». ومن الجدير بالذكر أن زوجها يهودي.
- أعضاء مجلس النواب مورغان ماكغارفي من ولاية كنتاكي، وديبورا روس وفاليري فوشي من ولاية كارولاينا الشمالية، صرحوا مؤخراً، أنهم لن يقبلوا التبرعات من «أيباك». ووفق المقالة حول الموضوع، فإن الأعضاء الديمقراطيين الثلاثة «كانوا يعتمدون في السابق على «أيباك» كمساهم رئيس في حملاتهم الانتخابية»، ولكن قالوا «خلال الأسابيع القليلة الماضية: إنهم لن يقبلوا التبرعات من المجموعة بعد الآن».
- عضو مجلس الشيوخ كريس فان هولين، ديمقراطي من ولاية ميريلاند، أصبح يتكلم بصراحةً أكثر بشأن «إسرائيل» وغزة، بما في ذلك دعم قرارات منع بيع الأسلحة للكيان؛ وقد استُهدف من قِبل أيباك، مما يعني أنه لم يعد من الممكن اعتباره تلقائياً منحازاً للمنظمة؛ كما حثّ الديمقراطيين على خوض غمار المخاطرة، وانتقد صمت الحزب الرسمي حول ما يحصل في غزة. ووفق مقالة حول الموضوع، «حثّ فان هولين المزيد من الديمقراطيين على مواجهة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية «أيباك»، التي مارست نفوذاً على الحزب، باستهدافها المشرعين في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية الذين اعتبرتهم غير داعمين لإسرائيل بما يكفي». وقال عن زملائه الديمقراطيين: «أعتقد أن الناس كانوا، لأسبابٍ ما، خائفين من التعبير عن آرائهم علناً. أعتقد أن أيباك جزءٌ كبيرٌ من ذلك». وبحسب المقالة، فإن فان هولين قال: «عندما يتعلق الأمر بغزة، عليك أن تكون قادراً على النظر إلى نفسك في المرآة»، في سياق موقفه حول ضرورة اتخاذ الديمقراطيين مواقفاً أقوى بشأن القضايا ذات المخاطر السياسية، مثل: الحرب في غزة.
- إحياء أو قبول الدعم من الجماعات المؤيدة لـ «إسرائيل» والمنافسة لـ «أيباك»، على سبيل المثال: «جيه ستريت»، والتي كما ذُكر أعلاه تدعو إلى حل الدولتين، وتقديم مساعدات مشروطة للكيان، كما أنها أكثر انتقاداً لبعض سياسات الحكومة «الإسرائيلية»، ومن بين أولئك، زعيم الحزب الديمقراطي في مجلس النواب حكيم جيفريز، والذي قبل تأييد منظمة «جي ستريت» لأول مرة؛ وهذا جدير بالملاحظة لأنه كان مقرباً من «أيباك» لفترة طويلة.
من الجدير بالذكر، أنه حتى الآن أنّ أعداد أو نسب أعضاء الكونغرس الذين ابتعدوا عن «أيباك» ورفضوا دعمها، أو اتخذوا مواقف ضد مشاريع القوانين الداعمة للكيان وتزويده بالسلاح غير المشروط، لم تصل بعد أعدادهم إلى ذلك الحد الذي يغيّر نتائج التصويت في كلتا غرفتي الكونغرس، وتغيير السياسات الأمريكية، ولكن من المفيد النظر إلى الاتجاه العام من خلال المنحنى أدناه، والذي يُظهر عدد أعضاء مجلس الشيوخ الذين صوتوا لحجب أو تعطيل مبيعات الأسلحة للكيان خلال السنوات الخمس الماضية:
استنتاجات أولية
بينما لا يمكن القول بعد: إن السياسات الأمريكية تجاه الكيان تغيّرت أو ستتغير قريباً، على الأقل من خلال القوانين التي تصدر عن الكونغرس، إلا أنه يمكن النظر إلى الموقف من جهة الضغط الأساسية المؤيدة للكيان، «أيباك»، ولحظ بعض الاتجاهات العامة المتزايدة مع الوقت، وإن تدريجياً وببطء، والذي في حال استمراره يمكن أن يصبح مع الوقت عاملاً في تغيير السياسات الأمريكية:
- هناك تحوّل تدريجي في المزاج السياسي داخل الكونغرس، خصوصاً في مجلس الشيوخ، بعيداً عن مواقف «أيباك» التقليدية الداعمة بشكل مطلق للكيان، وبالأخص بين الديمقراطيين، والذي يمكن اعتباره مؤشراً على تراجع نفوذ «أيباك» النسبي.
- هناك استعداد متزايد لمعارضة أو وضع شروط للمساعدات الأمريكية لـ «إسرائيل»، ولحظ أنها مرتبطة بالعدوان على غزة، وسلوك الحرب، ومنع وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في غزة.
- هناك عدد متزايد من الحملات الانتخابية والمرشحون الذين يتخذون مواقف صريحة بعدم قبول أموال «أيباك»، أو يرفضون تأييدها؛ وهذا قد يعني انتهاء مسيرة المرشح في بعض الحالات، إلا أنه يعكس كذلك وجود المخاطر السياسية المترتبة على الارتباط بـ «أيباك» في بعض المناطق، وبالأخص ضمن الفئة الشبابية وطلاب الجامعات والشريحة «التقدمية».
- هناك شخصيات محسوبة من الشخصيات الرئيسة في المؤسسة، والذين كان بديهياً وطبيعياً لوقت طويل أن يكونوا مدعومين من قبل «أيباك»، بدأوا بالتراجع والابتعاد عن المنظمة، سواء بشكل صريح وواضح، أو من خلال قبول دعم جهات أخرى مؤيدة للكيان، ولكن منافسة لـ «أيباك» ولديها انتقادات لسياسات الكيان.
ولا يمكن بطبيعة الحال إغفال أن عوامل عديدة تلعب دوراً مهماً في تعزيز هذا الاتجاه، وعلى رأسها عاملان أساسيان:
الأول: هو تصاعد الحركة الاحتجاجية الرافضة لسياسات الكيان الوحشية والرافضة تالياً للدعم الأمريكي لتلك السياسات، وخاصة بين فئة الشباب الأمريكي، وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى وضع النخب السياسية الأمريكية تحت الضغط، ويدفعها للاستجابة وتغيير مواقفها، حتى وإن كان هذا التغيير هو مجرد التفاف مؤقت هدفه احتواء الحركة الاحتجاجية.
الثاني: هو تعمق الانقسام ضمن النخب الأمريكية نفسها حول السياسات الكبرى المطلوب اتباعها في ظل استمرار الأزمة الأمريكية الداخلية وتعمقها، وخاصة ببعدها الاقتصادي الناتج عن التراجع المتسارع للهيمنة الأمريكية العالمية، وبالتالي، تراجع مستويات النهب من الخارج، ما يضع تلك النخب أمام استحقاقات غير مسبوقة في اختيار سياسات انكفائية، أو على العكس سياسات أكثر عدائية وتوحشاً وتهوراً على المستوى العالمي، ويمثل الموقف من أيباك أحد التعبيرات عن هذا الانقسام بين التيارين/الاتجاهين...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1247