القوى القارية والقوى المحيطية... وحرب الـ 12 يوماً (3/3)

القوى القارية والقوى المحيطية... وحرب الـ 12 يوماً (3/3)

نتابع هنا الجزء الثالث والأخير من هذه المادة، ويمكن الرجوع إلى الجزأين السابقين عبر الرابطين المرفقين (الجزء الأول، الجزء الثاني).
الهيكل العام للمادة كان مكوناً من المحاور التالية:

أولاً: تأصيل مفهومي القوى القارية والقوى المحيطية.
ثانياً: الأوزان الاقتصادية-السياسية لنوعي القوى خلال 2000 عام مضت.
ثالثاً: الاستعمار الأوروبي وهيمنة القوى المحيطية.
رابعاً: الاستعمار الاقتصادي، التبادل اللامتكافئ والهيمنة المحدثة.
خامساً: انتقال مركز الثقل.
سادساً: «الحزام والطريق» و«المشروع الأوراسي» والصعود القاري الجديد.
سابعاً: الشرق الأوسط، مشروعان متناقضان.
ثامناً: نتائج وخلاصات.
وقد توقفنا في الجزء السابق عند المحور السادس دون إنهائه بشكل كامل، ونتابع هنا بإكماله. *

سادساً: «الحزام والطريق» و«المشروع الأوراسي» والصعود القاري الجديد

تسمح لنا المعطيات التاريخية التي قدمتها المادة في جزأيها الأولين، سواء منها المتعلقة بالتموضع التاريخي لمركز ثقل الإنتاج العالمي عبر 2000 عام وتحولات هذا التموضع، أو المتعلقة بمركز ثقل الإنتاج المعرفي التكنولوجي، أو بتحولات خطوط التجارة بالمعنى الدولي، بالخروج بتصورات أكثر شمولاً حول الطبيعة الاستراتيجية لمشروعي الحزام والطريق والمشروع الأوراسي.

لا شك أن تفسير المشروعين في إطار التنافس بين الدول أو حتى الإمبراطوريات، هو تفسير يحمل قدراً ما من الوجاهة، ولكنه يبدو شديد الضيق والسطحية حين النظر إلى الأمور من زاوية تاريخية أوسع، كالتي تحاول هذه المادة الاستناد إليها (أي بالنظر إلى التحولات عبر 2000 عام).

ضمن زاوية النظر هذه يمكننا أن نرى طبقات متعددة تفسر الأبعاد التاريخية الاستراتيجية لهذين المشروعين، وربما بين أهمها، ما يلي:

أولاً: صعود هذين المشروعين، (مع جملة المؤسسات المتعلقة بهما، بما فيها بريكس ومنظمة شنغهاي، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وغيرها)، هو تجسيد عملي لكسر الأحادية القطبية التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وخطوة مهمة باتجاه «التعددية القطبية» (مع التحفظ على هذا المصطلح لأنه لا يعبر عن عمق التغيير الجاري).

ثانياً: صعود هذين المشروعين، يعني وضع الأسس المادية والثقافية اللازمة لإنهاء ظاهرة الاستعمار الاقتصادي الحديث (التبادل اللامتكافئ) التي تم إرساء قواعدها بين أوساط الخمسينات وأواسط الستينات من القرن الماضي، عبر خلق جملة من البدائل النوعية للآليات الأربعة المعروفة للتبادل اللامتكافئ (التبعية التكنولوجية، الديون، مقص الأسعار، هجرة العقول) ... وبشكل خاص عبر تقويض سلطة مؤسسات بريتين وودز، وتقويض مركزية الطاقة (عبر البترودولار واحتكار النووي السلمي وغير السلمي) باتجاه لا مركزية الطاقة عالمياً.

ثالثاً: صعود هذين المشروعين، يعني تعويضاً تاريخياً تدريجياً عن عملية النهب الاستعماري التقليدي، عبر ظاهرة الاستعمار الأوروبي التي بدأت عملياً في القرن السابع عشر، وامتدت حتى أواسط القرن العشرين.

رابعاً: صعود هذين المشروعين، يعني نسف الأساس التجاري الذي قام عليه الاستعمار الأوروبي، وبالضبط نسف سيطرة الطرق البحرية على حساب الطرق البرية؛ الأمر الذي بدأ قبل حوالي 500 عام.

خامساً: بالتوازي، فإن هذا الصعود يعني بالضرورة الدفع نحو إعادة ترتيب العلاقات الدولية والإقليمية بشكل مختلف تماماً عن النموذج الذي تم فرضه عبر الاستعمار الأوروبي المباشر؛ بما في ذلك فتح الطريق أمام حل جملة من القضايا والنزاعات الإقليمية التي تم تصميمها خصيصاً لمنع اتصال البر بالبر... يجري الحديث ضمناً عن النزاعات الحدودية بين عشرات الدول في الشرق والجنوب العالمي، وعن قضايا قومية ودينية وطائفية عالقة، ومولدة لصراعات لا نهاية لها؛ مثلاً: الصراع بين الهند وباكستان، والقضية الكردية وغيرها الكثير...

سادساً: ينبغي فتح أفق التفكير نحو مساحات أكثر اتساعاً بما في ذلك مستويان إضافيان: (أ- ينبغي التفكير بطبيعة العلاقات الدولية القادمة، وطبيعة النظام الدولي القادم، وعدم قصر الخيال على فكرة التعددية القطبية التي بتنا نعيش ضمنها اليوم إلى هذا الحد أو ذاك، وهنا ينبغي التفكير في موضوعة لن نتوسع فيها هنا وهي موضوعة اللاقطبية. ب- ينبغي التفكير أيضاً، وفي ظل الأزمة الشاملة التي تعيشها المنظومة الرأسمالية، حتى ضمن الدول الصاعدة، بما يمكن أن ينشأ على مستوى التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، خاصة مع تمكن البشرية من وضع الأساس التكنولوجي والمادي لحل مشكلة الندرة بشكل نهائي «خاصة مع تطور الذكاء الصناعي»).

سابعاً: الشرق الأوسط، مشروعان متناقضان.

ضمن اللوحة العامة التي حاولنا رسمها فيما سبق من هذه المادة، بات من الممكن الانتقال لمعالجة القضية الملموسة المتمثلة في حرب الـ 12 يوماً، ووضعها في مكانها المناسب في تلك اللوحة.

أول ما ينبغي الانتباه إليه هو أن نقاش المشاريع السياسية والجيوسياسية الخاصة بالشرق الأوسط، يقع في كثير من الأحيان في فخ السجال السياسي الراهن، سواء كان الحديث هو السجال في سورية، أو في أي دولة من دول «الشرق الأوسط» أو «غرب آسيا».

ما نقصده بالضبط، هو أن السجال يدفع باتجاه القول: إن هنالك مجموعة مشاريع متصارعة في الشرق هي التالية:

  • مشروع شرق أوسط «إسرائيلي».
  • مشروع فارسي/شيعي/صفوي إلخ.
  • مشروع عثماني/طوراني إلخ.

1234_h_14

إذا أردنا نقاش الأمور بشكل موضوعي، وبعيداً عن المناكفات السياسية اليومية، فإنه ينبغي علينا أن نأخذ بالاعتبار الأمور التالية:

وجود أحلام أو طموحات لدى أي طرف من الأطراف، لا يعني إطلاقاً أن لديه مشروعاً؛ فوجود المشروع مرتبط بوجود إمكانيات واقعية لتحقيقه. ما يعني أن تلك المشاريع المفترضة التي لا يوجد أساس واقعي لقيامها، ينبغي ألا يتم التعامل معها كمشاريع، وأكثر من ذلك فإن التعامل معها كمشاريع حقيقية هو عملية تضليل مقصودة للتغطية على مشاريع أخرى حقيقية، وتمتلك مقومات الوجود والتحقق.

قابلية أي مشروع (إقليمي) للتحقق، تُشتق مباشرة من قابلية تحققه بالمعنى الدولي الواسع؛ ففي عالمنا الذي نعيش فيه اليوم، لا يوجد شيء اسمه مشروع إقليمي وفقط، فكل مشروع إقليمي هو بالضرورة- في حال كان مشروعاً واقعياً- جزء من مشروع دولي أكبر.

ضمن هذين المعيارين، فإن الحديث عن مشروع فارسي أو عثماني هو حديث لا أساس له؛ فأي من هذين المشروعين المفترضين، لا يمكنه أن يكون جزءاً لا من مشاريع الغرب المتراجع البحري، ولا من مشاريع الشرق الصاعد القاري.

بالمقابل، فإن مشروع الشرق الأوسط «الإسرائيلي» هو مشروع دولي/إقليمي يحقق بشكل مباشر مصالح القوى المحيطية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، عبر إعاقة وحتى منع مشروعي الحزام والطريق من التقدم، عبر جملة من الحروب البينية وعبر التفتيت والتقسيم على أسس طائفية ودينية وقومية. بكلام آخر، فإن الترويج لوجود مشاريع فارسية وعثمانية، هو في نهاية المطاف جزء من التخديم الدعائي لمشروع الشرق الأوسط «الإسرائيلي»/الأمريكي.

وما هو المشروع المضاد إقليمياً؟ المشروع موجود وإن لم يكن له اسم معلن ومتفق عليه... بمستواه الدولي الاسم واضح، وهو الحزام والطريق والأوراسي، أو مشروع القوى القارية. بمستواه الإقليمي يمكن تسميته اصطلاحاً بمشروع «شعوب الشرق العظيم»، وأعمدته الأساسية هي التالية:

  • تطويق وإنهاء دور «إسرائيل» بوصفها كياناً مخرباً ومستنزفاً لكل دول وشعوب المنطقة، وأداة في الضغط المتواصل عليها.
  • حل القضية الكردية حلاً عادلاً سلمياً يضمن وحدة بلدان المنطقة كل على حدة، وتعاونها وتآخيها بالمعنى الواسع.
  • حل النزاعات الحدودية والمائية والطاقية بين دول المنطقة في إطار تعاوني يسمح بتنمية شاملة متوازنة ومتزامنة.
  • تحويل الطاقات التي يجري هدرها في الحروب والصراعات البينية على أسس طائفية ودينية وقومية باتجاه البناء والازدهار، وخاصة في البنى التحتية، ومن ثم في الصناعة والزراعة، ليس فقط كعنصر ربط- ترانزيت ضمن الحزام والطريق والأوراسي- بل وكمستهلك ومنتج وازن ضمن الدورة الإنتاجية العالمية.

في ظل الحالة القاتمة التي تعيشها شعوب منطقتنا، ربما يبدو الكلام السابق حلماً طوباوياً، وخاصة مع السيطرة الإعلامية الهائلة للغرب الذي يحاول دفع شعوب المنطقة نحو الهزيمة والاستسلام والركوع النهائي. مع ذلك فإن المعطيات الواقعية تقول أشياء أخرى تماماً:

يسمح فهم التوازن الدولي القائم، بالقول: إن القوى القارية تجاوزت التوازن الصفري مع الغرب بأشواط، وبات صعودها ظاهراً وواضحاً وملموساً، بمقابل التراجع الغربي، الواضح والملموس أيضاً: اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً وثقافياً...

ولأن المشروعين المتضادين اللذين نتحدث عنهما، أي «الشرق الأوسط الإسرائيلي/الأمريكي» و«شعوب الشرق العظيم»، هما امتداد وتكملة للمشروعين الدوليين، فإن المنطق يقول: إن احتمال نجاح مشروع شعوب الشرق العظيم أعلى من احتمال نجاح «الشرق الأوسط الإسرائيلي/ الأمريكي».

يمكن أن نعد كمّاً هائلاً من المؤشرات على الخط العام لتطور الأمور في منطقتنا، الذي يشير إلى ارتفاع احتمالات تحقق مشروع «شعوب الشرق العظيم» يوماً وراء الآخر، وبالضبط تحت ضغط التهديد الأمريكي-«الإسرائيلي» الذي لا يطال الشعوب والدول فحسب، بل وحتى الأنظمة والسلطات. بين المؤشرات، يمكننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي: ثلاثي أستانا بصيغه المتعددة والتي لا تشكل سورية ضمنها إلا جزءاً صغيراً في لوحة التعاون الأوسع بين الدول الثلاث. التسوية السعودية الإيرانية بوساطة صينية، والتي أثبتت أنها أكثر رسوخاً بكثير من خرافة «الناتو العربي» ومن «اتفاقات أبراهام» و«صفقة القرن». جملة التسويات والمصالحات بين تركيا ودول الخليج العربي ومصر. التطور المستمر للعلاقة بين مصر وإيران، وأيضاً تحت ضغط التهديد الأمريكي- «الإسرائيلي» لهما معاً. انضمام دول عديدة في المنطقة إلى منظمة بريكس كأعضاء أصلاء أو كمراقبين. ارتفاع مستوى التبادلات البينية بين هذه الدول، وبينها وبين الصين وروسيا، بما في ذلك في مجالات السلاح والتكنولوجيا المتقدمة، في كسر للاحتكار التاريخي الغربي الذي كان مفروضاً عبر عقود طويلة. ارتفاع التناقض داخل كل دولة من دول الإقليم بين التيارات التي تميل إلى الغرب، وتلك التي تميل إلى الشرق، والوصول إلى حافة الانقلابات والتهديد بالتقسيم الداخلي من قبل الغرب، كما جرى في تركيا على سبيل المثال، وكما جرى ويجري بأشكال أخرى متعددة في مصر وفي السعودية، الأمر الذي يدفع باتجاه مزيد من التصلب الداخلي ضد الغرب، وضد الأمريكان خاصة. يتعزز هذا الأمر كنتيجة مباشرة لحقيقة واضحة هي: أن أمريكا لم يعد لديها ما تقدمه لحلفائها أو خصومها إلا أمر واحد هو أن تكف بلاءها عنهم؛ (وهذا ما يقر به مفكر من مستوى ميرشهايمر ودوغلاس ماكريغر)، فواشنطن لم يعد لديها مشاريع تقدمها للدول إلا العقوبات أو الغزو العسكري أو الرسوم الجمركية، أي أن ما يمكن أن تحصل عليه أي دولة من الدول من واشنطن، هو فقط النجاة من بلطجتها... والبلطجة مع الوقت تتحول إلى سلاح مثلوم؛ فالعقوبات نفسها، ووفقاً لترامب وغير ترامب، أضعفت وتضعف موقع الدولار، وأضعفت وتضعف مؤسسات بريتين وودز والهيمنة الغربية على النظام المالي العالمي... وكذلك الأمر مع الرسوم الجمركية ومع البلطجة العسكرية؛ فالدول ترى اليوم أن لديها خيارات أخرى تستطيع أن تحصن نفسها من خلالها ضد البلطجة الأمريكية بشكل تدريجي ومتصاعد...

ثامناً: نتائج وخلاصات

بالاستناد إلى كل ما سبق، يصبح من الممكن فهم حرب الـ 12 يوماً التي شنتها كل من «إسرائيل» والولايات المتحدة على إيران، بوصفها جزءاً من مشروع الشرق الأوسط «الإسرائيلي»-الأمريكي، وبوصفها جزءاً من مشروع دولي أكبر هو صراع القوى المحيطية ضد أفول نجمها التاريخي لمصلحة القوى القارية الصاعدة.

أي أن الحرب، وإنْ بدا في واجهتها أنها «إسرائيلية»/إيرانية، إلا أنها في عمقها حرب غربية أمريكية محيطية، ضد القوى القارية، وعلى رأسها الصين وروسيا. وهي في الوقت نفسه حرب على كل دول المنطقة، بما فيها تركيا ومصر والسعودية وسورية والعراق ولبنان، وفلسطين بطبيعة الحال. وهو أمر فهمته الدول المستهدفة جميعها بشكل جيد، ولم تقع في فخ السجالات السياسية اليومية (كما هو الشأن ضمن جزء من الشارع السوري على سبيل المثال)، واتخذت على هذا الأساس مواقف واضحة ضد «إسرائيل»؛ نتحدث هنا عن السعودية ومصر وتركيا والعراق، وعملياً كل الدول العربية، إضافة إلى الصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية وعدد كبير من الدول الأفريقية؛ فالتصريحات السياسية في هذه الحالة تعبير عن اصطفاف واضح ومفهوم، مبني على فهم عميق لمعنى هذه الحرب ضمن الصراع الدولي الأكبر، والذي يخص الجميع دون استثناء، وليس فيه مكان للنجاة والخروج سالمين بلا أذى، وفيه مكان واسع لاصطفاف الشعوب إلى جانب مصالحها العميقة التي تتناقض جذرياً مع المصلحة «الإسرائيلية»-الأمريكية...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1234