القوى القارية والقوى المحيطية... وحرب الـ 12 يوماً (2/3)

القوى القارية والقوى المحيطية... وحرب الـ 12 يوماً (2/3)

نتابع هنا الجزء الثاني من هذه المادة، بعد نشر جزئها الأول في العدد الماضي من قاسيون والذي يمكن الوصول إليه عبر الرابط المرفق، على أن يتم نشر القسم الثالث والأخير في العدد القادم من قاسيون.

نذكر بداية بأن الهدف الإجمالي من هذه المادة هو محاولة توسيع دائرة البيكار في قراءة حرب الـ 12 يوماً، وبما يسمح بالخروج بنتائج وخلاصات موضوعية وعلمية قدر الإمكان، بعيداً عن التحزبات والعصبيات التي تضغط على الأمزجة، ولكنها لا ينبغي أن تحد من قدرة العقول على التفكير بصورة أشمل بمعنى هذه الحرب العميق، وتأثيراتها المتوقعة وخاصة علينا في سورية.

محاور المادة الكاملة هي ثمانية محاور، غطى الجزء الأول منها المحاور الخمسة الأولى. والمحاور الثمانية هي:

أولاً: تأصيل مفهومي القوى القارية والقوى المحيطية.
ثانياً: الأوزان الاقتصادية-السياسية لنوعي القوى خلال 2000 عام مضت.
ثالثاً: الاستعمار الأوروبي وهيمنة القوى المحيطية.
رابعاً: الاستعمار الاقتصادي، التبادل اللامتكافئ والهيمنة المحدثة.
خامساً: انتقال مركز الثقل.
سادساً: «الحزام والطريق» و«المشروع الأوراسي» والصعود القاري الجديد.
سابعاً: الشرق الأوسط، مشروعان متناقضان.
ثامناً: نتائج وخلاصات.

* * *

سادساً: «الحزام والطريق» و«المشروع الأوراسي» والصعود القاري الجديد

تم الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين عام 2013، وباتت تشمل اليوم أكثر من 150 دولة، أي معظم دول العالم، وتتضمن إحياء طرق التجارة البرية والبحرية التاريخية (طريق الحرير) وتطويرها، عبر بنى تحتية متطورة من سكك حديد إلى قطارات فائقة السرعة، وطرق سريعة وموانئ وخطوط طاقة...

المشروع الأوراسي هو رؤية جيوسياسية تهدف إلى تعزيز التعاون والربط بين دول أوراسيا (أوروبا وآسيا)، وتقوده روسيا، ويقوم على إنشاء تكتلات أمنية واقتصادية بينها الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تم إطلاقه رسمياً عام 2015.

من وجهة نظر اقتصادية بحتة، يمكن اعتبار المشروع الأوراسي متضمناً في مبادرة الحزام والطريق، ومن وجهة النظر السياسية والعسكرية يمكن النظر إلى المشروعين بوصفهما مركبين متكاملين في مشروع واحد عملاق، يشمل العالم القديم بأسره، ويمتد نحو أمريكا اللاتينية.

كنا قد وصلنا في الفقرات السابقة إلى مجموعة من النتائج العامة في توصيف الوضع الدولي الراهن من وجهة النظر الاقتصادية، (والتي تتمدد بشكل طبيعي باتجاه السياسة والثقافة والوضع العسكري وإلخ). بين هذه النتائج ما يلي:

انتقل مركز ثقل عملية الإنتاج على المستوى العالمي بشكل حاسم باتجاه الشرق الذي بات المسهم الأساسي في الإنتاج العالمي، والذي ترتفع حصته عاماً بعد آخر من إجمالي الناتج الحقيقي.

إذا كانت السيطرة الغربية على الإنتاج وعلى السياسة العالمية قد جرت خلال القرون الأربعة الأخيرة، وبشكل خاص خلال القرنين الأخيرين، فإن هذه السيطرة شكلت قطعاً تاريخياً مع تطور طويل الأمد كان فيه الشرق هو المركز بالمعنى الإنتاجي (طوال 1600-1800 عام على الأقل وفقاً لدراسات أنغس ماديسون التي أشرنا إليها سابقاً).

اقترنت السيطرة الغربية بنسف طرق التجارة القديمة وبرفع مستوى هيمنة التجارة البحرية على حساب التجارة البرية-القارية.

اقترنت أيضاً بإعادة تشكيل حادة للإمبراطوريات الشرقية تضمنت تقسيمها بما يولد نزاعات حدودية وقومية ودينية وطائفية مستمرة، وبما يسمح بتنمية الساحل على حساب الداخل، وتوجيه الثروات باتجاه واحد: من البر باتجاه الساحل باتجاه المركز الغربي.

يمكن القول أيضاً: إن الثورة الصناعية في الغرب وصعود الرأسمالية، قد بُني على تراكم أولي ضخم، كان أحد أهم مصادره هو النهب الاستعماري للدول القارية. على سبيل المثال لا الحصر: تُقيّم دراسة أجرتها الباحثة Utsa Patnaik بعنوان The Drain of Wealth: Colonialism before the First World War (استنزاف الثروة: الاستعمار قبل الحرب العالمية الأولى)، أن بريطانيا قد نهبت بين عام 1765 و1938 (أي خلال 173 عاماً) ما يصل إلى 45 ترليون دولار من الهند. ويعتبر باحثون آخرون أن هذا التقييم متحفظ بشدة، لأنه بحث في أشكال النهب المباشر، ولم يبحث في الأشكال العديدة غير المباشرة بما فيها النمو الطبيعي الذي جرى كبحه في الهند بفعل الاستعمار. ورغم عدم وجود دراسات شاملة مشابهة بما يخص النهب الاستعماري من الصين، إلا أن نهب الفضة وحده وتعويضات حروب الأفيون التي ألزمت الصين بدفعها، وما يسميه الصينيون بقرن الإذلال (1839-1949)، إضافة إلى دراسة أنغس ماديسون، تسمح بالقول: إن أرقام النهب الاستعماري من الصين هي بالتأكيد أعلى من تلك التي جرت في الهند.

تسيطر الصين اليوم على 34% من الاحتياطي العالمي للعناصر الأرضية النادرة، التي تشكل حجر العقد في كل الصناعات المتطورة، بما في ذلك الأسلحة والذكاء الاصطناعي والسيارات المتطورة والفضاء وإلخ، وتسيطر على 69% من التعدين العالمي لهذه العناصر، وعلى 87% من التكرير النهائي لها، والذي يعتبر خطوة إلزامية قبل استخدامها في الصناعات المتطورة، وعلى 99% من التكرير النهائي للعناصر الأرضية الثقيلة النادرة، وعلى 100% من تكرير ثلاثة عناصر منها هي الأكثر ندرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1233