افتتاحية قاسيون 1215: أيّ هوية للاقتصاد السوري تفرضها الضرورة؟

افتتاحية قاسيون 1215: أيّ هوية للاقتصاد السوري تفرضها الضرورة؟

تتربع مسألة الوضع المعيشي شديد الصعوبة الذي يعيشه أكثر من 90% من السوريين، على رأس قائمة الأولويات الوطنية؛ ليس من بابٍ إنساني وأخلاقي فحسب، وهما جانبان كافيان بذاتهما، بل ومن الباب الوطني أيضاً، ومن باب الحفاظ على السلم الأهلي وضرورة قطع الطريق على التدخلات الخارجية الضارة، ومطامع التقسيم والتخريب التي تحاول الدخول من كل ثغرة ممكنة، وتقف وراءها جهات متعددة على رأسها تجار الحرب والفاسدون الكبار والعدو «الإسرائيلي» الذي لا يخفي-بوقاحته المعهودة- نواياه المعلنة في العمل من أجل تقسيم سورية.

إنّ مهمة إنقاذ الشعب السوري من غائلة الفقر والجوع، هي مهمة ملحةٌ أشد الإلحاح، وهي في الوقت نفسه المدخل الأساسي نحو تحديد وجه سورية الاقتصادي اللاحق بالمعنى الاستراتيجي، أي هوية اقتصادها وطبيعته وأهدافه.

نقطة الانطلاق الإلزامية لإعادة إقلاع الاقتصاد الوطني ومن ثم لإعادة الإعمار، هي الأمر الواقع الذي نعيشه، والذي تركه لنا الرئيس الساقط/الفار بشار الأسد، محققاً جزءاً مهماً من شعاره: «الأسد أو نحرق البلد»، وهو قد أحرق البلاد فعلاً، ولكنه لم يتمكن من قتلها نهائياً، ومهمتنا كسوريين أن نعالج جراحها، ونعيد توحيدها وإيقافها على أقدامها، كريمةً وعزيزة.

الأمر الواقع يتضمن دماراً هائلاً في البنى التحتية، ونقصاً كبيراً في الكفاءات الماهرة التي تم تهجير قسمٍ كبير منها، ولم يعد منها حتى الآن إلا النزر اليسير. يتضمن أيضاً عقوبات غربية شديدة القسوة، وأكثرها قسوة وإجراماً العقوبات الأمريكية التي لم ترفع بعد، وليس من الواضح إنْ كانت سترفع، بل ويعلمنا تاريخ العقوبات الأمريكية على بلدان عديدة سابقاً، أن التعويل على رفعها في أي وقت قريب، ليس أكثر من ملاحقةٍ للسراب وقبضٍ للريح.

الأمر الواقع يتضمن أيضاً قطاع دولة رابحاً تم تخسيره بشكلٍ مقصود لدفعه نحو الخصخصة، عملاً بوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، ولتحويله إلى ملكية الفاسدين الكبار أنفسهم الذين حاصروه وأضعفوه. ويتضمن نسبة بطالة ربما تكون الأعلى في العالم، وتوزيعاً جائراً للثروة يصب في مصلحة أقل من 10% من السكان، ويتضمن أيضاً خطوات هائلة تم السير فيها على طريق اللبرلة الاقتصادية، وإضعاف دور الدولة الاجتماعي لمصلحة كبار التجار وكبار الناهبين، وعلى حساب عامة السوريين.

إقلاع الاقتصاد السوري يحتاج أولاً وقبل كل شيء استعادة السوق السورية الواحدة، وهذا أمرٌ سياسي بالدرجة الأولى ويتم عبر التفاهمات والتوافقات بين السوريين، وتشير المعطيات إلى أن خطوات مهمة قد جرى قطعها في هذا الاتجاه، وينبغي استكمالها بأسرع وقت ممكن.

ويحتاج ثانياً إلى تأمين مواردَ للتراكم من جهة، وإلى رفع نسبة العائدية من جهة ثانية، بما يؤمن أرقام نمو ينبغي ألا تقل عن 10-15% سنوياً.

ويحتاج ثالثاً إلى إعادة توزيع جدية للثروة لمصلحة أصحاب الأجور، لأن استكمال تدوير عجلة الإنتاج يتطلب بالضرورة ارتفاع القدرة على الاستهلاك لدى عموم الشعب السوري، ولرفع القدرة على الاستهلاك لا بد من إعادة توزيع الثروة.

الدمج بين إحداثيات الأمر الواقع القائمة، والمهمات الثلاث التي ينبغي تحقيقها، هو ما يحدد بشكلٍ موضوعي أي هوية للاقتصاد السوري ينبغي أن تكون... والإجابة الملموسة عن سؤال الهوية الاقتصادية للبلاد هي أمرٌ مفتاحي في تحديد هوية البلاد السياسية والاجتماعية.

يمكن تلخيص الملامح الأساسية للهوية الاقتصادية، بالنقاط التالية:

أولاً: اقتصاد مستقل لا يتبع دولةً أو معسكراً دولياً، وإنما يستفيد من الصراع والتنافس الدولي، ومن التعددية القطبية القائمة فعلاً، في تأمين هوامش واسعة للحركة التي تمليها مصلحة البلاد وأهلها.

ثانياً: ينبغي أن يكون للدولة دورٌ اجتماعي قوي وواضح المعالم، على الأقل بالاستفادة من النماذج الأوروبية في السبعينيات والثمانينيات في دولة الرعاية الاجتماعية.

ثالثاً: ينبغي أن يحقق اقتصادنا أعمق عدالةٍ اجتماعية وأعلى نمو، بالاستفادة من الموارد والثروات المحلية بالدرجة الأولى، وخاصة منها تلك التي تحمل قيماً مطلقة، أي التي نستطيع أن نقدمها بشكلٍ احتكاري للسوق العالمية لأنها خواص فريدة تمتلكها الطبيعة السورية ولا يمتلكها سواها.

 

رابعاً: ينبغي لاقتصادنا أن يقوم على مجمّعات زراعية صناعية تعظّم القيمة المضافة للحدود القصوى الممكنة، بما يؤمن اكتفاءنا الذاتي والقدرة على الانتقال نحو صناعات ثقيلة متطورة.

هذه الأهداف كلها قابلة للتحقيق في ظل التوازن الدولي الجديد، وفي ظل إرادة السوريين وكفاءاتهم وموارد بلادهم، ولكنها تتطلب توافقاً واضحاً وتفصيلياً حول الخريطة الاستثمارية في سورية، وحول دور الدولة ضمنها، وحول طبيعة العلاقات مع الخارج، وهي أمور لا يمكن الانطلاق نحوها جدياً دون الحل السياسي الشامل الذي يؤمن وحدة سورية شعباً وأرضاً.

 

(English Version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1215
آخر تعديل على الأحد, 23 شباط/فبراير 2025 18:34