سورية على الطريق الجديدة… ما هي وظيفة «العدالة الانتقالية»؟

سورية على الطريق الجديدة… ما هي وظيفة «العدالة الانتقالية»؟

مع بدء الحركة الاحتجاجية في سورية في آذار 2011 اجتمعت هيئة تحرير جريدة قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية في دمشق، وهناك اتخذ القرار بفتح ملف بعنوان «سورية على مفترق طرق» كان الهم الأساسي في حينها أن يتحمل الحزب مسؤوليته السياسية، ويقدم لجمهوره حصيلة خبرته السياسية، ورأيه في القضايا المختلفة، استناداً إلى منصة علمية رصينة، وفي ذلك الوقت انكبت كوادر الحزب الشابة على كتابة عشرات المقالات لنقاش القضايا الأساسية المطروحة، لكن صوت السلاح دفع ملايين السوريين للانكفاء مجدداً، والابتعاد المؤقت عن العمل السياسي، ومع تعقد الأزمة ضاقت فسحة الأمل، وجرّفت البلاد من أهلها، وظل الباقون فيها جالسين ينخرهم اليأس... أما اليوم، وقد سطعت الشمس مجدداً، ودفّأت العظام الباردة، فإننا نواصل من منبر «قاسيون» وحزب الإرادة الشعبية من خلفها، وعبر الأقلام الشابة بشكل أساسي، طرح مجموعة من المسائل أمام السوريين، علّها تركّز الضوء على المخرج الوحيد من أزمة وطنية وسياسية عميقة، جثمت فوق صدورنا لسنوات... سعياً وراء انتصارات أكبر قادمة... لأن أجمل الانتصارات هي تلك التي لم تأتِ بعد…

ما هي وظيفة «العدالة الانتقالية»؟

يقدم الاختصاصيون تعريفات ومعايير متعددة لمفهوم العدالة الانتقالية؛ فالمفهوم ليس جديداً، وليس اختراعاً سورياً، ولكنه مستخدم مراتٍ عديدة سابقاً، في حالات مشابهة بشكل أو بآخر للوضع السوري؛ أي في حالات جرى فيها اقتتال عنيف، شارك فيه أبناء بلد واحد ضد بعضهم بعض، وتركت عدداً كبيراً من الآلام والضحايا، كما في مثال جنوب أفريقيا مثلاً، أو مثال رواندا، وغيرهما من الأمثلة.
ولكن، بعيداً عن الدخول في التعريفات والمعايير المعقدة، فإن الفكرة الأهم حول العدالة الانتقالية، والتي تسمح بتطبيقها بشكلٍ فعال، هي الفكرة المتعلقة بوظيفتها؛ فتطبيق العدالة الانتقالية هو أشبه بتنظيف الجرح قبل إغلاقه، لمنع تعفنه وتلوثه وعودته للانفجار مجدداً بشكل أسوأ وأكثر خطورة.
بهذا المعنى، فإن الغاية النهائية من العدالة الانتقالية هي تضميد الجرح السوري العميق، لا زيادته عمقاً. وهي بالتالي تتناقض بشكلٍ مباشر مع «الانتقام» و«التشفي» و«الإذلال».
إغلاق الجرح يحتاج من جهة إلى المصارحة والمسامحة، ويحتاج من جهة ثانية، وبالتوازي، إلى محاكمات عادلة وعلنية وشفافة للمجرمين.
كمثال بسيط على أهمية العلنية مقارنة بالانتقام، فإن قتل أحد المجرمين من قادة الفروع الأمنية دون محاكمة، يعني ضمناً تلاشي قدرٍ كبير من المعلومات عن المعتقلين المفقودين، في حين أن التحقيق معه ومحاكمته، وتطبيق الحكم عليه وفق مسار قضائي، ربما يسمح بكشف مصير عدد من المغيبين الذين ما تزال قلوب أمهاتهم بانتظار أي معلومة عنهم تهدئها وتغلق جراحها...
ينبغي التعامل مع «العدالة الانتقالية» بقدرٍ كبير من الحكمة والتعقل، وبالاستناد إلى التراث الإيجابي ضمن ثقافة شعبنا، وبما يخدم طي صفحة سوداء من تاريخ هذا الشعب، وباتجاه فتح صفحة جديدة، يأمل السوريون كلهم أن تكون مشرقة تسودها الطمأنينة والحياة الكريمة…

1211-2

«أطرافٌ ثالثة»؟

شهد الأسبوع الماضي توترات عديدة في بعض محافظات البلاد، تخللتها انتهاكات راح ضحيتها سوريون من مختلف الأطراف.
من يتابع إعلام الجهات الخارجية والداخلية المختلفة، يسمع أحد روايتين؛ الأولى: تحمل المسؤولية للأمن العام والهيئة والفصائل المسلحة. الثانية: تحمل المسؤولية لفلول النظام... وأسوأ من هاتين الروايتين، هي تلك الرواية التي تفسر كل شيء على أسس طائفية.
الحق، أن فلول النظام وخاصة المجرمين المتورطين بدماء السوريين، وبتجارة المخدرات، وغيرها من التجارات التي كسّبت أصحابها كماً هائلاً من الأرباح، سيواصلون محاولات التخريب بالأشكال المتاحة بين أيديهم كلها.
والحق أيضاً، أن حالة تفلت السلاح المستمرة حتى الآن، وتعدد الفصائل، إضافة إلى الأحقاد الفردية المتراكمة، تلعب أيضاً دوراً واضحاً في حدوث الانتهاكات المختلفة.
لكن هذين الأمرين معاً، لا يكفيان لتفسير ما يجري... فلنتذكر أنه بعد فرار الأسد بأيام قليلة، شهدت البلاد موجة من التحريض الطائفي الهائل، استمرت ليومين تقريباً، ربطاً بما قيل إنه اعتداء على أحد المزارات الدينية. وبعد ذلك هدأت الأمور بتدخل العقلاء من الأطراف كلها.
في تلك الحادثة، لعب الإعلام دوراً هائلاً في عملية التحريض والتجييش ونشر الشائعات، وفي أحداث الأسبوع الماضي، واليومين الماضيين خصوصاً، لعبت وسائل إعلام عديدة، مرة أخرى، دوراً قذراً في نشر الشائعات بشكلٍ هائل، لا يمكن أن يحدث بنشاط فردي، أو بنشاط مجموعات من الناس العاديين، بل هو عمل أجهزة محترفة تتبع بالضرورة لدولة ما، أو عدة دول...
في هذا الإطار، فإن المرشح الأكثر ترجيحاً للعب هذه الأدوار القذرة هو «الإسرائيلي» الذي يصرح علناً بأنه يريد سورية مقسمة على أسس طائفية وقومية، ولذا فمن مصلحته أن يُغرق البلاد مجدداً في بحر من الدماء، وفي مستنقع من الاقتتال بين أبناء البلد الواحد.
لا شك أن إدانة الانتهاكات وإيقافها ضرورة، ولا شك أن إدانة فلول النظام وأعمالهم التخريبية وتطويقهم ومحاكمتهم هو أيضاً ضرورة، ولكن الضرورة الوطنية العليا اليوم، تتمثل بالحفاظ على السلم الأهلي، وبتطويق عمليات التحريض والتهويل والتخويف الطائفي بكل الأشكال الممكنة... وأحد أهم هذه الأشكال، هو الشكل السياسي وليس الأمني، أي عبر المسارعة بالحوار الوطني الواسع الشامل للجميع، والذي يمكنه وحده أن ينهي المخاوف كلها، ويؤسس لإعادة لُحمة البلاد وأهلها

1211-27

شو يعني «توافق»؟

إنو السوريين يعيشوا أكتر من ستين سنة تحت حكم الحزب الواحد، وتحت حكم القمع، مانها شغلة قليلة بنوب، وآثارها ما رح تخلص بسرعة، ولا بسهولة.
وحدة من القصص يلي لساتها حاضرة وموجودة هي التصلب بالرأي، ومعاداة أي حدا عندو رأي غير الرأي تبعي. هي نتيجة طبيعية لطريقة الحياة السابقة تحت حكم الحزب الواحد، لإنو يلي كان عندو رأي تاني غير رأي السلطة، ما كان مستعد يتفق مع حدا ولا يتوافق مع حدا، لإنو ببساطة عندو إحساس إنو رأيه هو موقف أخلاقي مو موقف عملي قابل للتطبيق، ولما يكون الرأي حكم أخلاقي مو مسألة عملية، بكون ما في داعي الواحد يسمع الآخرين، ولا في داعي يعدل موقفه.
اليوم، ومع إنو سقطت السلطة، لسا في كتير سوريين وأحزاب وقوى سورية عم تتعامل مع بعضها بالطريقة نفسها، إنو رأيها هو الصح وكل رأي تاني غلط، يا بتحكي متل ما بحكي أنا بالضبط، يا أما أنت غلط.
اليوم، نحنا بحاجة نتعلم على فن جديد ما كان متاح سابقاً: فن التوافق، ويلي معناتو إنو لازم قبل كل شي نكون مقتنعين إنو ما حدا منا عنده الحقيقة كاملة، ولازم نحاول إنو نجمع آراءنا ونطلع برأي جديد منها، يعني مو يا أنا يا أنت، لازم نكون أنا وأنت. ولما يكون في رأي أول ورأي تاني، لازم نتعلم كيف نطلع برأي تالت يجمع الرأيين، ويكون أصح منهون وأنضج وأعمق... هاد بالضبط هو التوافق!

1211-48

الخوف من القادم المجهول!

أجيال من السوريين نشأت في ظرف محدد، كان الثابت فيه أن «القادم كان دائماً أسوأ»، فمنذ آذار 2011 لم يكد السوريون يفرحون بعودتهم للشارع والتعبير منه عن أوجاعهم، حتى تحول الواقع إلى مشهد دامٍ طويل، خسرت فيه كلُّ أسرة أحد أفرادها أو أقربائها، وعشنا خلال هذه السنوات مآسي مستمرة، حتى بدا كما لو أننا في نفقٍ مظلم لا مخرج منه، وبدأت موجات الهجرة من سورية، وجرى إفراغها من أهلها، وتشتت شملنا يوماً بعد آخر.
وعلى مدار أشهر طويلة، كانت الحرب في غزّة تستعر، وتنتشر النيران حولنا، وباتت أيامنا أثقل على وقع مشاهد الدمار والقصف في فلسطين ولبنان واليمن وسورية، ليصبح المشهد العام أكثر قتامةً... لكن تغييراً هائلاً حدث في المشهد السوري، ولم يستطع السوريون استيعابه وفهم ظروفه بعد، وصاحبه شعور طاغٍ لا يزال هو السائد يمكن تكثيفه بـ «القلق»، فهناك بلا شك ارتياح عام ساد في الأيام الأولى بعد سقوط السلطة الفاسدة، لكن سلسلة من الأحداث بدأت من القصف «الإسرائيلي» ومروراً بأحداث متفرقة في المدن السورية كلها، دفعت جمهور السوريين للخوف مما هو قادم، وإذا ما نظرنا إلى تجربة العقود السابقة، تبدو أفكار كهذه متسقة، لكنّها في الواقع تظل حبيسة فترة زمنية قصيرة من التاريخ.
فالعقود السابقة، وإن حملت أحداثاً قاسية، إلا أنّها كانت نتيجة طبيعية لظرف دولي وإقليمي لم يسمح لنا بإحداث اختراقات بالاتجاه الذي نريده فعلاً، لكن هذا الظرف بالذات كان يتغير ببطء وجاءت أولى ثماره الملموسة بوقف الحرب في لبنان، وإسقاط سلطة الفساد في سورية، ثم الوصول لاتفاق في غزّة، وشكّلت هذه الأحداث مجتمعة مناخاً جديداً يحمل في باطنه فرصة سانحة لسورية والسوريين ليعيدوا ترتيب بيتهم الداخلي، عبر توافق واسع، ونبذ العنف الذي ساد لأكثر من عقد، فاليوم نحمل على ظهرنا عشرات القضايا الكبرى التي تحتاج إلى حلول، لكننا قادرون على حلّها كلّها، وسنقدم لجيل قادم من السوريين نموذجاً ملموساً لطاقة الشعب الجبارة في تجاوز المحنة.

1211-41

القفز من المستنقع إلى الوطن

اعتاد السوريون ملامح محددة لمدنهم وشكل حياتهم، ولا يزال كثيرٌ منهم ينظرون باتجاه حواجز أمنية لم تعد موجودة، وغابت من يومياتهم إتاوات كانوا يجبرون على دفعها من القليل الذي يملكون… هكذا تغير فجأة كلُّ شيء حولهم، سورية التي عرفوها تغيرت، وكان هذا كفيلاً بتشويش أفكار جموعٍ كثيرة، لكن إذا ما أردنا أن نسأل نفسنا سؤالاً جوهرياً: هل كانت سورية التي عرفناها في العقود الماضية هي حقاً الوطن الذي نطمح له؟! الجواب بسيط ولا يحتاج كثيراً من التفكير، فما عرفناه سابقاً كان خليطاً من القمع والفساد والجوع والفقر، خليط لا يمكن أن يكون مرافقاً لأي وطن! ولا ينبغي بأي شكلٍ من الأشكال الدفاع عن أيٍّ من هذه العناصر.
ومع ذلك لا يمكن القول: إن ما جرى حتى الآن بات كافياً لتحديد ملامح «الوطن» فلا نزال في مرحلة البناء الأولى، وأمامنا مراحل عديدة، فالسوريين يعرفون أنّهم لا يريدون العودة إلى الوراء، ولكنّهم لم يتفقوا بعد على اتجاه السير، كما لو أننا قفزنا في الهواء ولم نصل بعد إلى الأرض، وفي لحظة الطيران النسبية والمؤقتة هذه، ستكون أمامنا فرصة حقيقية لإعادة صياغة ملامح وطنٍ جامع، يحفظ كرامة أبنائه ويخرجهم من مستقنع نتنٍ عاشوا فيه لعقود.

1211-15

عرّف ما يلي: السلم الأهلي

نسمع مؤخراً حديثاً متكرر عن «السلم الأهلي» وعبر الشاشات يتكرر هذا المصطلح، ويبدو كما لو أن الجميع يتمسكون به ويدعون للحفاظ عليه، لكن إذا أردنا أن نسأل: ما هو السلم الأهلي حقاً؟ وكيف يمكن الحفاظ عليه وصونه؟ فإن بحثنا عن هذا المصطلح ومعناه قد نجد مواضيع ومقالات متنوعة، كلّ يحاول تقديم إجابة وافية، حتى أن السلطة السابقة كانت أيضاً تركز على هذا الموضوع، وتحاول الترويج لكونها هي من تصون السلم الأهلي!

ما هو السلم الأهلي؟
يمكننا تكثيف الجواب عن هذا السؤال بالقول: إن السلم الأهلي هو حالة من التوافق في المجتمع، حالة من السلام والتناغم بين المواطنين. وفي بلد مثل سورية تتنوع فيه التوجهات السياسية والديانات والطوائف والقوميات، يأخذ السلم الأهلي معنى أوسع يشمل عيش المكونات والتيارات كلها، جنباً إلى جنب، حياةً كريمة عزيزة.

كيف جرى اختزال السلم الأهلي؟
كانت ماكينة الدعاية للسلطة السابقة تركز كثيراً على مواضيع من هذا النمط، ولكنها تركز على أن شكل التنوع الوحيد في المجتمع هو كونه مختلف دينياً وقومياً وطائفياً، وكانت تغفل بشكلٍ مقصود الحديث عن أن المجتمع السوري متنوع سياسياً أيضاً، وكانت وبعد أن تجاهلت التنوع السياسي، تركز على الأشكال الأخرى، وتحاول حصرها بحالة شكلية كصور لعناق مسجد وكنيسة، أو لقاءات إعلامية لتبويس الشوارب بين الطوائف المختلفة بغرض التقاط بعض الصور، وكان السوريون يدركون أن هذه الصورة شكلية، ولا تعبر في الواقع عن تماسك حقيقي في المجتمع.

ما هو جوهر السلم الأهلي؟
جوهر السلم الأهلي هو أن يشعر المواطنون السوريون بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم، وبالأهمية نفسها أن يعيشوا حياة كريمة بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي، فلا يوجد أي معنى للسلم الأهلي حين يكون الجوع والفقر هو السائد، لأن الفقر والفساد كفيلان بتدمير المجتمع من الداخل، وكفيلان بنسف سلمه الأهلي... لا يجب أن ننسى أن خروج السوريين إلى الشوارع عام 2011 لم يأتِ من فراغ، بل كان خروجاً له أسبابه المتعلقة بالكرامة بمعناها الواسع، ليس فقط بمعناها السياسي، بل وأيضاً بمعناها الاقتصادي والمعيشي... فسياسات النظام زادت نسبة الفقر في سورية بين عام 2005 و2010 من 30% إلى 44%، أي أنها ألقت بثلاثة ملايين ونصف مليون سوري تحت خط الفقر خلال 5 سنوات!
الحفاظ على السلم الأهلي يتطلب العمل من أجل المواطنة المتساوية، ومن أجل لقمة عيش كريمة للشعب السوري، يستطيع من خلالها أن يأمن على أولاده وأهله...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1211