نحن السوريين التواقين للتوافق

نحن السوريين التواقين للتوافق

ظهر بشكلٍ واضح، وبعد مرور ما يقرب الشهر على هروب السلطة الفاسدة، أن هناك حالة من الارتياح العام، وتحديداً بعد إنجاز الخطوة الأولى دون إراقةٍ للدماء. ويظهر لدى جمهور عريض من أقصى شمال سورية إلى جنوبها، مزاج شعبي واضح يطمح لعقد جديد مبني على التوافق، بدلاً من سنوات الانقسام التي مرّت سابقاً.

الاختلافات والخلافات بين السوريين قائمة ولا يمكن إنكارها، وهي ميزة أساسية في تركيبة هذا المجتمع، وستكون بلا شك عنصراً أساسياً في المرحلة القادمة، وهي وإن كانت تبدو مقلقة للبعض، إلاّ أنّها في الحقيقة حالة طبيعية وصحية؛ فالمشكلة أن السوريين اعتادوا على خطاب أجوف حول الهوية والوحدة الوطنية، جرى اختزالها ببعض الدبكات والأغاني، ولم يُسمح للسوريين أن يتعرفوا على بعضهم بشكلٍ لصيق باستثناء حالات محدودة وجزئية في المدن الكبرى كدمشق وحلب. والقصد هنا أوسع من التعرف على العادات والتقاليد، وإنما تحديداً على الظروف التي يعيشون بها ومدى تقاربها، ففي الواقع تبدو قرى أقاصي الغرب السوري انعكاساً في مرآة لقرى أخرى تبعد مئات الكيلومترات في طول البلاد وعرضها.


«الآخر هو المسخ»!

حَرص النظام السوري منذ عقود على تصوير الآخر على هيئة مسخ، لأن تفرقة المجتمع وتذريره، كانت سبيلاً وحيداً لنهب السوريين، ولم يكن من باب المصادفة أن تنشأ عداوات بين كل مدينة وجيرانها، لا بل كان يمكن لنا أن نرصد منذ مطلع الألفية الثالثة، ومنذ وصول بشار الأسد إلى السلطة بالتحديد، أن المجتمع السوري بات مليئاً ببؤر جاهزة للانفجار، ظهرت على شكل «بالونات اختبار» في أماكن مختلفة، عام 2000 في السويداء وعام 2004 في الشمال الشرقي، وفي 2005 في القدموس، وغيرها من الأحداث التي عالجها النظام بحل أمني، وعتّم عليها، وظلّت أحداثاً مجهولة في مناطق كثيرة من سورية. وفي حين كانت هذه الحوادث مؤشرات لمستوى هش من التماسك في المجتمع، لم يعمل النظام السياسي القائم على بحث أسبابها العميقة. وبدلاً من تفكيك بؤر التوتر واحتوائها، ظلّت السياسة الأساسية هي التحكم فيها للتغطية على الفساد، وتغذية أشكال النزاعات ما قبل الوطنية كلها، وهو ما ظهر وضوحاً منذ انفجار الأزمة السورية في 2011.

المجتمع السوري وجد نفسه ضحية صراع دامٍ، وانسحبت المظاهرات من الساحات بشكل تدريجي، ليحتل مكانها صدام مسلح استمر لسنوات، وسرعان ما تحوّل مركز قضية السوريين إلى الخارج، وبتنا نسمع أسماء البلدات والقرى في نشرات الأخبار وعلى ألسنة قادة الدول العظمى، ودخلنا في حالة من الاستعصاء.

سعت وقتها دولٌ خارجية وأطراف في الداخل لإدامة الاشتباك لأطول مدّة ممكنة، وبات حلم السوريين أن يستعيدوا زمام المبادرة، وكانوا واثقين أنّهم إذا ما جلسوا حول طاولة واحدة سيصلون إلى توافق ينهي الكارثة، وهو تحديداً ما لعبت السلطة السابقة دوراً أساسياً في منع حدوثه، وهو السلوك الذي دفعت ثمنه في نهاية المطاف.


الفرصة السانحة


يسمح ما سبق، أن نفهم حجم الالتفاف الكبير على جوهر القرار الدولي 2254، فبعيداً عن الظروف التي اعتمدت فيها الأمم المتحدة القرار المذكور، وحجم التشويه الذي تعرّض له، يبقى جوهره حتى اللحظة بمثابة طوق نجاة، والحقيقة، أن بعض تفاصيله لم تعد صالحة، وتحديداً تلك التي تحدد أطراف التفاوض في النظام والمعارضة، فالواقع اليوم اختلف وانتفى النقيض بانتفاء ما يقابله، لكن جوهر القرار يستند فعلياً إلى ضرورة أن تكون المرحلة الانتقالية فرصة حقيقية لتمثيل السوريين كلّهم، وينص القرار بشكلٍ علني أن قيادة هذه المرحلة ينبغي أن تكون سورية، وغير خاضعة للإملاءات الخارجية وذكرت هذه الفكرة في مواضع عديدة بصياغة واضحة لا لبس فيها: «ضمان عملية انتقال سياسي يقودها ويملكها السوريون» ونص أيضاً على نبذ الطائفية وضرورة الحفاظ على وحدة البلاد، وعلى «حماية حقوق السوريين جميعهم، بغض النظر عن العرق أو الانتماء الديني».
شكّل القرار سابقة في التعاطي مع أزمات من هذا النوع، وبدلاً من رسم شكل التغيير السياسي المطلوب ترك للسوريين الباب مفتوحاً ليتفقوا فيما بينهم. وفي الواقع، وإذا نظرنا اليوم بعيداً عمّا يقال كله، سنكون على يقين أن السوريين يتوقون إلى التوافق وإلى نبذ إقصاء الآخر؛ فالدمار الذي لحق بالبلد لا يمكن إزالته إلا عبر أوسع مشاركة وطنية، وعبر ابتكار الحلول والبحث عن المخارج، وألا نثق إلا بأنفسنا كوننا أصحاب المصلحة، وأبناء البلد.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1208