نقلات إجبارية على رقعة منطقتنا
تستمر محاولات فك رموز مواقف الرئيس التركي أردوغان، التي أطلقها خلال الأسبوع الماضي، وعلى رأسها تحذيره من سيناريو احتلال «إسرائيلي» لدمشق، وكذلك مطالبته لكل من روسيا وإيران بأن تلعبا دوراً في الدفاع ضد هذا الاحتمال. يضاف إلى ذلك تصريحات متعددة سبقت هذه التحذيرات والمطالب، تقول بأن الخطر «الإسرائيلي» يهدد تركيا نفسها وأمنها القومي، وبأنه ينبغي اتخاذ كل ما يلزم للتصدي لها، إضافة إلى المواقف السياسية التي وصلت حدّ التعبير عن الوقوف مع المقاومة ضد الإجرام «الإسرائيلي».
بالتوازي مع هذه التصريحات والمواقف، كان لافتاً الموقف الذي عبرت عنه الخارجية التركية يوم 12 من الجاري، والذي قالت فيه: إنّ تمديد الولايات المتحدة الأمريكية لعقوباتها على سورية، «لا ينسجم مع الوقائع على الأرض».
أسهل التفسيرات وأقلها عمقاً، هي تلك التي تستند إلى «براغماتية» أردوغان المعروفة، وتقول بالخلاصة، إنّ أردوغان يكتفي بإطلاق تصريحات تتناسب مع المزاج الشعبي في تركيا نفسها وفي المنطقة ككل، في إطار محاولاته لكسب بعض النقاط سياسياً.
ولكن حتى هذا التفسير البسيط، والذي لا يكفي لفهم المسألة، يسمح بالتفكير بأبعاد أخرى؛ إذ يسمح بالتفكير بأنّ أردوغان والسلطة في تركيا ككل، ترى فيما تقوم به «إسرائيل» وواشنطن، تهديداً حقيقياً لسلطتها نفسها، ولبلدها ككل ولأمنه القومي.
بغض النظر عن رأي أردوغان وطريقة فهمه للمسألة، فإن التهديد الأمريكي «الإسرائيلي» لتركيا هو أمر واقع، وحقيقة واضحة، لأن تركيا، مثلها مثل سورية والعراق ولبنان ومصر والسعودية وإيران، كلها دول مطلوب تفتيتها وإنهاء وزنها، وتسييد «الإسرائيلي» عليها، وذلك ضمن صراع عالمي أكبر مع القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، وخاصة بعد أن بدأت الميول الاستقلالية تتعزز لدى دول المنطقة بوجود خيارات أمامها في التعاملات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وفرها الحضور الصيني والروسي، اقتصادياً عسكرياً سياسياً، وثقافياً.
ضمن هذا التصور، يمكننا أن نقرأ أنّ أردوغان هذه المرة، لا يلقي الكلام جزافاً، بل هو يشعر بتهديد حقيقي، ويسعى للعمل ضده، والكلام عن سورية بهذه الطريقة بشكلٍ خاص، ربما ينطلق من قاعدة معطيات لا شك أنّها متوفرة لدى أردوغان، ليس بما يتعلق باجتياحٍ بري «إسرائيلي»، بل على الخصوص بما يتعلق بعملٍ واضح لإعادة إشعال جبهات القتال بشكلٍ واسع ومدمر، بما في ذلك ابتداءً بضربة أو ضربات كبرى باتجاه دمشق، وباتجاه السلطة فيها، والتي ما تزال هي السلطة المعترف بها شرعياً من الأمم المتحدة... وأيضاً معطيات حول مناطق الشمال الغربي، التي من المفترض نظرياً أن لتركيا سيطرة عالية فيها... نقول من المفترض نظرياً، لأن الوقائع على الأرض أشد تعقيداً، خاصة مع العلاقة شبه العلنية بين النصرة وفصائل أخرى قريبة منها، وبين الأمريكي... وقد ظهر هذا سابقاً في مرات متعددة عبر التعطيل المتكرر للاتفاقات بين الأتراك والروس في المنطقة، والتي كان المتصدر في العمل لتعطيلها هو النصرة وأشباهها، وصولاً إلى الاصطدام المباشر مع القوات التركية من وقت لآخر، حيث يلزم. وكذلك من معطيات بخصوص الشمال الشرقي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أردوغان سيكون واهماً إنْ ظن أنّ الأخطار هناك يمكن تطويقها عبر طريقته المفترضة بـ«الاحتواء»، وستكون السلطات في الشمال الشرقي واهمة أيضاً إنْ ظنت أنّ الدعم الأمريكي يمكنه أنْ يوفر الحماية لها، وللأحلام التي تتم زراعتها أمريكياً... الحل والمخرج للجميع هو عبر سورية موحدة أرضاً وشعباً، عبر حل سياسي يؤمن حكماً ويجمع بين مركزية قوية، ولا مركزية قوية في الوقت نفسه، وعلى أساس المواطنة السورية المتكاملة لكل السوريين.
الصورة بلا شك شديدة التعقيد، فحتى ضمن جهاز الدولة التركي، باعتبارها دولة ناتو تاريخياً، هنالك تيارات متناقضة، وهنالك تيار قوي هو نفسه الذي قام بمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وهذا التيار لم يتم القضاء عليه بعد، ولا يمكن تجاوز احتمال أنْ يكون ضالعاً إلى جانب الأمريكي في تخريب الاتفاقات بين تركيا وروسيا، واتفاقات أستانا الثلاثية أيضاً.
ضمن هذه الإحداثيات، ربما من الممكن فهم تصريحات أردوغان في اتجاهين أساسيين:
أولاً: هي دعوة لثلاثي أستانا (روسيا، إيران، تركيا)، لتولي دورٍ أكبر من مناطق خفض التصعيد، دعوة لتولي دورٍ منسقٍ في منع واشنطن والكيان من رسم خريطة الدمار المطلوبة صهيونياً في منطقتنا، ضمن معرفةٍ واضحة بأنّه لا يمكن منع خريطة كهذه دون تعاون عالي المستوى بين دول المنطقة.
ثانياً: هي دعوة للمضي في موضوع التسوية السورية التركية بأسرع وقت ممكن، (خلافاً للأكاذيب التي تختلقها بعض وسائل الإعلام المحسوبة على المعارضة السورية، والتي لا أساس لها من الصحة، والقائلة بأنّ تركيا تخلت عن موضوع التسوية مع سورية)... فالتسوية اليوم، ضرورية أكثر من أي وقت مضى للبلدين، لأنها يمكن أنْ تنتزع فتائل انفجار جديدٍ خطير، يُعيد سفك الدماء السورية بشكلٍ واسع، ويتحول إلى عنصر تفجيرٍ إضافي ضمن الفوضى الهجينة الشاملة الأمريكية في منطقتنا...
بالعودة بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، يظهر أمامنا أنّ هنالك نوعين من «التطبيع» يجري العمل عليهما مع حكومة دمشق؛ نوع غربي- أوروبي- عربي، وآخر أستاني-عربي.
الأول: يضم دولاً أوروبية ودولاً عربية مطبعة من طراز الإمارات، وهدفه هو نسف 2254 وتمرير مشروع خطوة مقابل الخطوة، الذي ينتهي إلى تكبيل سورية ضمن خريطة الشرق الأوسط الجديد الأمريكية- «الإسرائيلية»، من خلال تكريس تقسيم الأمر الواقع، وإضافة موضوع التطبيع مع الكيان إلى وصفته القاتلة في نهاية المطاف.
الثاني: ترعاه أستانا، ويضم إلى جانبها دولاً، مثل: السعودية، وغرضه الدفاع عن الأمن القومي لهذه الدول، تجنباً للمصير الذي عنوانه «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، وطريق هذه التسويات هو الحل السياسي الشامل، وصولاً لاستقرار حقيقي ضمن سورية موحدة أرضاً وشعباً.
الأحجار موزعة على الرقعة بشكلٍ شديد التعقيد، ومع ذلك فإنّ هنالك نقلات إجبارية ينبغي القيام بها، إذا كان الهدف هو الحفاظ على سورية وحمايتها، ومنع تحويل كارثتها من مؤقتة إلى دائمة... إحدى تلك النقلات الواضحة، هي الذهاب باتجاه تسوية مع تركيا، باتت ظروفها ناضجة تماماً؛ فالمشروع الصهيوني التخريبي لن يترك مكاناً لأحد إذا سُمح له بالمضي قدماً، دون مقاومة حقيقية على المستويات كافة، وبينها السياسي والاقتصادي، عبر إغلاق الثغرات، ونزع فتائل التفجير الداخلي بأسرع وقت، بما في ذلك نزع فتائل التفجير الأمني، والاقتصادي، الأمر الذي يتطلب كسر العقوبات الغربية بشكلٍ حازم، عبر التسوية السورية التركية، وكسر احتمالات التفجير الأمني في الشمال الغربي، كذلك عبر التسوية السورية التركية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1197