مرةً أخرى حول «تصفية القضية الفلسطينية»!

مرةً أخرى حول «تصفية القضية الفلسطينية»!

تصرّ بعض القوى والشخصيات السياسية في عالمنا العربي، وفي سورية ضمناً، على تكرار استخدام الفكرة التالية: «العدوان الأمريكي- الصهيوني، يستهدف تصفية القضية الفلسطينية». لا نناقش هنا أقوال وأفكار الشخصيات والقوى المنبطحة باتجاه التطبيع، أو تلك التي أعماها الحقد حد الشماتة بدمها والتهليل لأعدائها؛ فهؤلاء- على كل حال- قد خرجوا من مسرح التاريخ (إنْ كانوا قد دخلوه أصلاً)، واكتفوا بالهوامش وبـ «العراضات الإلكترونية» ...

من نناقشهم، هم أولئك الذين يقفون حقاً وصدقاً في صف القضية الفلسطينية وفي صف مصالح شعوبهم، ومع ذلك يكررون الفكرة المشار إليها آنفاً.
وقبل أي مضيٍ في مناقشة صحة هذه الفكرة من عدمها، لا بد من الانتباه إلى ما يترتب عليها؛ فحين نقتنع بأن القضية الفلسطينية مهددة بالتصفية، فإن سقف الأهداف التي نضعها لأنفسنا هو منع تصفيتها، أي المحافظة عليها على حالها (ربما قبل 7 أكتوبر)، وهذا يعني أيضاً أننا نحكم أنفسنا ضمن وضع الدفاع... والحق أن الركون إلى حالة الدفاع حين يتطلب الأمر الهجوم، هو حكم مسبق على الذات بالهزيمة...
أكثر من ذلك، وربما أهم من ذلك، هو أن فهم أهداف العدو بشكلٍ خاطئ، وبالتالي فهم خططه بشكلٍ خاطئ، هو أيضاً حكمٌ مسبق على الذات بالهزيمة. وما نعتقده هو أن تصوير هدف الأمريكي والصهيوني بأنه «تصفية القضية الفلسطينية»، هو تضليل (غير مقصود في معظم الأحيان) عن حقيقة الأهداف الموضوعة أمريكياً وصهيونياً.

هل تصفية القضية أمر ممكن؟

موازين القوى الفعلية، على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، تقول بشكلٍ قاطع إن تصفية القضية الفلسطينية وهمٌ ما بعده وهم؛ وإذا كانت الفترة التي سارت فيها اتفاقات أبراهام ومعها «الناتو العربي» و«صفقة القرن»، قد أورثت كثيرين هذا الوهم، فإن حقائق التاريخ حتى أثناء تلك الصفقات، كانت واضحةً بينة لا تغيب عن عين القارئ الموضوعي، وباتت أكثر وضوحاً خلال السنوات الثلاث الماضية، وبعد 7 أكتوبر، أوضح وأوضح؛ فالعمل الأمريكي الصهيوني في منطقتنا على قسم دول المنطقة وضربها بعضها ببعض، بين معسكر ينبطح عند أقدام الأمريكي، ومعسكر مضاد وضع فيه الإيراني، قد فشل فشلاً كاملاً؛ ابتداءً من التسوية السعودية الإيرانية، ووصولاً إلى جملة التسويات بين تركيا ودول عربية، ناهيك عن انضمام عدد مهم من دول المنطقة المؤثرة إلى بريكس، وتعمق علاقاتها– على كل الصعد- مع كل من الصين وروسيا على حساب علاقاتها مع الأمريكي.
على المستوى الإقليمي أيضاً، فإن القدرات التي باتت تملكها قوى المقاومة في مجمل منطقتنا، لا يمكن مقارنتها بأي مرحلةٍ تاريخية سابقة، خاصة، وأن القتال يأخذ شكله الأكثر استنزافاً للعدو: القتال غير المتناظر، الذي كان وما يزال الوصفة الأساسية الناجحة لقوى التحرر الوطني، من الجزائر إلى فيتنام وأنغولا وكينيا وناميبيا وجنوب أفريقيا وغيرها.
على المستوى المحلي الفلسطيني، ورغم حجم التضحيات الهائل، إلا أن امتداد المعركة الزمني والجغرافي، هو الأوسع عبر تاريخ القضية، وهو الأكثر استنزافاً؛ فكيانات الاستيطان تاريخياً، لا يمكنها أن تتحمل هذا النوع من الحروب طويلاً، خاصةً، وأن الأساسات الثلاثة التي تقوم عليها فكرة الاستيطان، هي: الأمن والرخاء والتفوق المطلق عبر حروب فتاكة سريعة؛ كذلك كان الأمر مع المستوطنين في الجزائر، وفي جنوب أفريقيا، وحين تم تقويض هذه الأسس، انهارت منظومة الاستيطان، ومعها منظومة الاستعمار.
على المستوى المحلي أيضاً، ومن وجهة النظر الصهيونية، فإن حجم التناقضات التي باتت تضرب الكيان من الداخل، هو حجم غير مسبوق عبر التاريخ، (انظر: الكيان الصهيوني... عشرة محاور لأزمة شاملة واحدة- مركز دراسات قاسيون).
قبل هذا، وبعده، وبالتوازي معه، فإن التراجع الأمريكي على المستوى العالمي، ما يزال الخيط الناظم للأحداث العالمية المختلفة، بما فيها أحداث منطقتنا، والأحداث المرتبطة بالقضية الفلسطينية؛ فإذا كان صعود هذا الكيان مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالهيمنة الغربية، ويشكل امتداداً لها، فإن منطق الأمور يقول: إن تراجع تلك الهيمنة من شأنه أن يضع نقطة النهاية لهذا الكيان...
بكلامٍ آخر، فإن من تتهدده «التصفية» ضمن الأفق التاريخي المنظور، هو الكيان الصهيوني، وليس القضية الفلسطينية. ما ينتظر القضية الفلسطينية هو حلها حلاً عادلاً، يبدأ بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
ما يثير الحيرة حقاً، هو المفارقة الفاقعة في أن أولئك أنفسهم الذين يؤمنون بأن القضية الفلسطينية مهددة بالتصفية، يرفقون هذا الطرح بالشعار الأثير والمحق في آنٍ معاً «من المي للمي»!!

ما الهدف الحقيقي إذن؟

كنا قد أشرنا إلى أن الاستكانة إلى القول بأن الهدف هو تصفية القضية الفلسطينية، من شأنه أن يضلل عن الأهداف الحقيقية، فما هي تلك الأهداف؟
ما نراه هو أن واشنطن ومعها الصهيونية العالمية كأحد مراكز التأثير الأساسية ضمن المنظومة الغربية (نتحدث هنا عمّا هو أكبر من «إسرائيل» بكثير)، تسعيان إلى الحفاظ على الهيمنة العالمية الغربية، وهيمنة الدولار تحديداً، ضمن ظروف تراجع موضوعي متسارع... فمركز ثقل عمليات الإنتاج قد انتقل منذ زمن خارج المنظومة الغربية، وبقيت لديها خيوط التحكم المالي، التي تشفط من خلالها عمل الآخرين، دولاً ومؤسسات وأفراداً ضمن دول الأطراف (بما في ذلك الصين وروسيا)، عبر منظومة التبادل اللامتكافئ.
ودول الأطراف هذه راكمت من القوة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً، ما يسمح لها بكسر المنظومة المالية الدولارية تدريجياً، ومعها الهيمنة الغربية بأسرها.
الطريقة الوحيدة بيد الأمريكان لمنع ذلك، ليست الحرب المباشرة بطبيعة الحال، ولكن جملة حروب هجينة تستنزف الخصوم وصولاً إلى إخضاعهم.
منطقتنا، منطقة «الشرق الأوسط»، هي ساحة أساسية لهذه الحروب، لهذه «الفوضى الهجينة الشاملة»، والنار المشتعلة في فلسطين ضمن هذا التصور، هدفها الأساس: هو رفع درجة حرارة المنطقة بأسرها، وصولاً إلى تفجيرها من الداخل، وخاصة دولها الأكثر وزناً بالمعنى الجغرافي السكاني والاقتصادي، وضمناً مصر والسعودية وتركيا، وهي الدول التي بدأت (بدرجات وسرعات متفاوتة)، في شق عصا الطاعة للأمريكي.
ضمن هذا الفهم، تصبح المهمة المترتبة على القوى الوطنية واليسارية في منطقتنا، ليس فقط دعم قوى المقاومة، على الأقل سياسياً وإعلامياً، بل وأيضاً الانتباه إلى تفويت مخططات التفجير الداخلي في بلدان المنطقة، عبر نزع فتائل التفجير، ومعالجة المشكلات الكبرى المنتصبة أمامها... في الحالة السورية مثلاً: إن الذهاب فوراً نحو حلٍ سياسي شامل على أساس القرار 2254 يُعيد توحيد البلاد، ويخرج القوات الأجنبية منها، وبدء عملية تغيير سياسي لمصلحة السوريين، هو إسهام أساسي ونوعي في المعركة الجارية...
لطالما كانت البنية الفوقية السائدة متأخرة عن الواقع الموضوعي وتطوراته، وهذا نراه في استمرار بعض القوى، العيش في عقلية الهزيمة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى الآن، وهي القوى نفسها التي عاشت عقلية الانتصار في زمن الهزيمة والتراجع، أي خلال العقود الثلاثة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفييتي.
خلافاً لذلك، فإنه من المفترض بالقوى الثورية، أن يكون وعيها سابقاً للواقع الموضوعي الذي تعيشه، وعلى الأقل أن يكون منسجماً معه...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1193
آخر تعديل على الإثنين, 23 أيلول/سبتمبر 2024 22:04