حول (موضة) «البيئة الآمنة والمحايدة»!

حول (موضة) «البيئة الآمنة والمحايدة»!

يتصدر مصطلح «التعافي المبكر» قائمة (الموضات) المتداولة ضمن منظمات المجتمع المدني العاملة بالشأن السوري هذه الأيام؛ وقد تم التعبير عن ذلك بشكلٍ واضحٍ خلال فعاليات مؤتمر بروكسل الدولي بنسخته الثامنة، والتي ما تزال مستمرة حتى الآن وتنتهي بالاجتماع الوزاري الذي سيجري نهاية الشهر الحالي.

إلى جانب التعافي المبكر، (الذي خصص له مركز دراسات قاسيون مادة نشرت مطلع نيسان الماضي بعنوان: التعافي المبكر... جزرة العقوبات، وأهم من ذلك: أداة من أدوات خطوة مقابل خطوة)، فإنّ «البيئة الآمنة والمحايدة» تمثل (الموضة) رقم 2 بعد التعافي المبكر، ضمن هذا المؤتمر المشار إليه آنفاً، وفي إطار مقترحات المشاريع التي يجري تقديمها خلال هذه الفترة للمانحين الدوليين من قبل المنظمات.
دفْعُ هذين المصطلحين إلى الواجهة، يستدعي التفكير بالغايات والأهداف المنشودة من ذلك، خاصةً أنّ المؤسسات الدولية، وفي ظل الهيمنة الغربية التي ما تزال مستمرة عليها، دائماً ما تحوّل مشاريعها الكبرى إلى جملة من التفاصيل والمصطلحات «التقنية» التي يبدو كلّ منها بريئاً تماماً إذا ما أخذ وحده.
ربما أفضل مثالٍ على المشروعات التي يجري تغليفها بجملة من المصطلحات التقنية والجزئية، مشاريع صندوق النقد الدولي التي حملت عبر عقودٍ متتالية عنواناً واحداً صالحاً لكل زمان ومكان هو «الإصلاح الهيكلي»، والذي تبين مع التجارب المختلفة، في مصر مثلاً، أنّ المقصود به هو جملة من التغييرات العميقة ذات التأثير التدميري، وعلى رأسها الدفع باتجاه الخصخصة والتقشف الحكومي على حساب العمال والفقراء وإضعاف أي دور اقتصادي اجتماعي لجهاز الدولة، وصولاً إلى حالة تصبح فيها البلاد رهينة للأموال الساخنة ولأسعار الفائدة التي يقررها الفيدرالي الأمريكي.

أصل الاصطلاح

بالعودة إلى «البيئة الآمنة والمحايدة»، فإنّ ظهوره مؤخراً، وخلافاً للـ«التعافي المبكر»، ليس ظهوره الأول؛ فقد بدأ تداول المصطلح مع ستيفان دي مستورا، المبعوث الدولي الخاص الثالث لسورية، وخاصة عام 2017 عند الحديث عن أربع سلالٍ لمناقشة وتنفيذ القرار 2254.
السلال الأربع هي على التوالي: 1- الحكم الانتقالي، 2- الدستور، 3- الانتخابات، 4- مكافحة الإرهاب. وبالتوازي مع الحديث عن هذه السلال، كرر دي مستورا الحديث عن ضرورة الوصول إلى «بيئة آمنة ومحايدة» رابطاً إياها بشكلٍ خاص بالانتخابات، أي بكونها البيئة المناسبة لإجراء الانتخابات وذلك خلافاً لموقع التعبير المختصر «البيئة المحايدة» الذي ورد في القرارات الدولية كما سنبين تالياً.
تعبير «البيئة الآمنة والمحايدة» بشكله هذا، لم يرد في أيٍّ من القرارات الدولية الخاصة بسورية، لا في بيان جنيف 2012 ولا في القرار 2254 لعام 2015. ما ورد في بيان جنيف هو التالي: «إنشاء جسم حكم انتقالي يستطيع إنشاء بيئة محايدة يمكن أن يجري ضمنها الانتقال».
أي أنّ إنشاء «بيئة محايدة» وفق منطق بيان جنيف، والذي تمّ تأكيده في 2254، هو وظيفة من وظائف «جسم الحكم الانتقالي» والذي بدوره، يجري تشكيله عبر التفاوض والتوافق بين السوريين.
ليس بعيداً عن المنطق الربط بين «البيئة المحايدة» أو «البيئة الآمنة والمحايدة» والانتخابات؛ فمن الممكن، على الأقل منطقياً، القول إنّ الانتخابات ينبغي أن تتم في «بيئة آمنة ومحايدة». ولكن في الإطار الاصطلاحي الخاص بالأمم المتحدة نفسها، فإنّ الانتخابات عادة ما يتم ربطها بالشفافية والنزاهة وليس بـ«بيئة آمنة ومحايدة». ولكن في كل الأحوال، فإنّ ذلك لا يغير من جوهر الأمر، وهو أنّ تكوين هذه «البيئة» هو وظيفة من وظائف جسم الحكم الانتقالي.
ولكن في الوقت نفسه، فإنّ حصر فكرة «بيئة آمنة ومحايدة» في حدود الانتخابات، يعني ضمناً القفز فوق «جسم الحكم الانتقالي»، بافتراض أنّ وظيفته متحققة ضمناً عبر تهيئة البيئة الآمنة والمحايدة.

شبكة الاصطلاحات

كما هو الأمر مع «الإصلاح الهيكلي»، لا يمكن فهم أيٍ من الاصطلاحات التقنية التي تستخدمها المؤسسات الدولية، إلا ضمن شبكة الاصطلاحات المقترنة به.
بهذا المعنى، لا يمكن الفصل بين «البيئة الآمنة والمحايدة» و«التعافي المبكر»؛ فالمشترك بينهما هو عدم وجود إمكانية واقعية لتطبيق أي منهما دون الانتقال السياسي، والمشترك أيضاً هو أنّ تصديرهما إلى الواجهة، يعني ضمناً القفز فوق فكرة الانتقال السياسي نفسها، وضمناً فوق فكرة الحل السياسي، نحو «التسوية»، وليس التسوية بين السوريين، بل التسوية بين «المجتمع الدولي»/الغرب، وبين السلطات في سورية؛ ليس فقط النظام السوري، بل وأيضاً سلطات الأمر الواقع.
في هذا السياق أيضاً، يمكن فهم أنّ الحديث والاهتمام من جانب الغرب والأمم المتحدة بـ«اللامركزية» يأتي في السياق نفسه؛ حيث يجري تحويل التسوية الشاملة الموحدة لسورية، إلى جملة من التسويات الجزئية في عدة مناطق من الخارطة السورية.

لنتذكر راند!

ربما يبدو الكلام أعلاه تحاملاً غير موضوعيٍ على المؤسسات الدولية، وعلى الغرب ضمناً، خاصة إذا وضعنا ما يجري طرحه على خلفية الاستعصاء طويل المدى بما يخص الحل السياسي في سورية، وإذا قبلنا «حسن النوايا» القائل بأنّه في ظل عدم وجود حل شامل فإنّه من الضروري البحث عن حلول جزئية، بهذه الطريقة أو تلك.
قراءة النتاج الفكري لمعهد راند الأمريكي، وهو أحد أهم المعاهد التابعة للمجمع الاستخباري الأمريكي، والذي كان حجراً أساسياً في السياسة الخارجية الأمريكية منذ انطلاق الحرب الباردة، تسمح بتبديد «حسن النوايا» المفترض.
في جملة التقارير التي أصدرها المعهد ابتداءً من 2015 على أساس سنوي تحت عنوان «سلام من أجل سورية» (راجع: راند النصرة... صندوق باندورا! نشرت في قاسيون بتاريخ: 6/1/2018)، تكرر في كل التقارير تقريباً حديثٌ مفاده ما يلي: «ليس هنالك حل شامل للأزمة السورية، ينبغي البحث عن حلول من تحت إلى فوق، انطلاقاً من المحليات باتجاه الكل». وبين الآليات التي جرى تشجيعها هي «الانتخابات المحلية» و«الحوكمة المحلية» وإلخ.
أي أنّ هذا المعهد، وفي ظل الحديث السياسي المعلن لواشنطن عن دفعها نحو تنفيذ القرار 2254 القائل بانتقال سياسي وبجسم حكم انتقالي، كانت عملياً تدفع باتجاه آخر هو الاتجاه الذي عبّر عنه صراحة فيما بعد، جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الأسبق للأزمة السورية، حين قال إنّ «الركود هو الاستقرار»، وإنّ «مهمتي هي تحويل سورية إلى مستنقع للروس».

السياق الراهن

لمزيد من ربط الأمور، لا بد من وضع الرواج الحالي لكل من التعافي المبكر والبيئة الآمنة والمحايدة، ضمن السياق الراهن للعمل الأمريكي/الغربي تجاه سورية.
هذا السياق باتت كلمة سره هي «خطوة مقابل خطوة»، ومفتاحه هو «تغيير سلوك النظام»، والذي، ليس مصادفة، أنه تحول إلى الشعار السياسي الأساسي للغرب ابتداءً من 2016.
بالمحصلة، فإنّ الحديث اليوم عن «بيئة آمنة ومحايدة» مع رفع الحل السياسي الشامل على الرف، يعني ضمناً رفع 2254 نفسه على الرف، ويعني عملياً التهديد الضمني بتحويل تقسيم الأمر الواقع إلى تقسيم دائم... «آمن» و«هادئ» و«متعافي»!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1175
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 13:02